لستُ أخجل من تلك الحروق الي تغطي رقبتي وجزءاً من كتفي، فهي تذكار دائم على نجاتي من ذلك المريض الذي أراد تدمير حياتي وفشل. أكثر من طبيب تجميل عرضوا علي إجراء جراحة لإزالة الندبات، إلا أنني رفضت وأرفض محو آثار تلك الحادثة من حياتي.
إليكم قصّتي:
كِنتُ فتاة فائقة الجمال، وككلّ بنات سنّي كنتُ أيضًا مغرورة وأشعرُ أنّ الدنيا بأسرها هي ملكي لأقطفَ أفضل ما لدَيها. وبسبب مظهري، إنجذَبَ إليّ العديد مِن الشبّان، لكنّني لَم أكن على عجلة مِن أمري بل واثقة مِن أنّني سأستقرُّ يومًا مع أفضلهم، أي مع الشاب المثاليّ التي تحلمُ به كلّ فتاة. لكنّ ذلك الإنسان، كما تعلّمتُ لاحقًا، ليس موجودًا إلا في الروايات والأفلام، وأنّ للناس أسرارًا وأشياء كثيرة مُخبّأة في ثنايا عقلهم.
إفتخَرَ أهلي بي كثيرًا، وكانوا يعرضوني وكأنّني إنجازهم العظيم، فأنا كنتُ إبنة وحيدة وبغياب أيّ ثراء أو ممتلكات. كنّا أناسًا عاديّين جدًّا لكنّنا كنّا سعداء بالقليل الذي نملكه. لَم يغرّني المال لكنّني لَم أكن أمانع لو كان زوج المُستقبل ثريًّا، فمَن يُبغضُ المال وما يُؤمّنه لنا؟ أقول ذلك لأنّ ما شدّني إلى وسام لَم يكن حسابه المصرفيّ أو سيّارته السريعة وبيته الفخم، بل طريقته بالكلام والنظر إليّ وكأنّني جوهرة نادرة. كان يُعطيني شعورًا لا أحسنُ تفسيره لكنّه كان مُرضيًا للغاية.
تعرّفتُ إلى الرجل الذي غيَّرَ مجرى حياتي إلى الأبد حين كنتُ وأمّي نزورُ صديقة لها. علِمتُ لاحقًا أنّ تلك السيّدة كانت قد أعلَمت وسام بقدومنا وأخبرَته عن جمالي وحسن أخلاقي. لَم يلفِت ذلك الرجل إنتباهي، ربما لأنّه كان يكبرُني بأكثر مِن خمس عشرة سنة فاعتبَرتُه آنذاك "عجوزًا" مُقارنةً بي، فكنت حينها لَم أبلَغ السابعة عشرة بعد. طلَبَ وسام مِن أمّي الإذن بزيارتنا وهي وافقَت، لأنّه كان إنسانًا ثريًّا واعتبرَت الأمر فرصة ذهبيّة لتأمين مُستقبلي. فعلَت ذلك بدافع المحبّة وحسب، فالمسكينة لَم تكن لتقبَل بِتعريض حياة وحيدتها للخطر بتزويجها مِن هكذا وحش.
زارَنا وسام مرّيتَين وثلاثة وخمسة حتى أن صرتُ مُعتادة إليه وإلى القصص التي كان يرويها لنا عن تجاربه المُشوّقة. كان يأتي مُحمّلاً بالهدايا للبيت في البدء، ومِن ثمّ لي وحدي وأعجبَني ذوقه الرفيع.
وفي المرّة السّادسة، أصرَّ وسام أن أذهب معه إلى المطعم وفي نُزهة إلى منطقة جميلة مِن بلدنا. وافقَت أمّي بسرور وأنا لَم أجد مانعًا بذلك. وهكذا أمضَينا يومًا مُسليًّا وعدتُ إلى البيت وفي يدي أكيّاس مليئة بالمُشتريات.
وبعد ثلاثة أشهر مِن مواعدة بدأَت كصداقة، تمَّت خطوبتنا. كنتُ سعيدة بخطيبي لأنّ الجميع حسدَني عليه وأثنى على ثنائيّتنا الجميلة، فمِن جهة كان هناك الجمال ومِن الأخرى الثراء، التركيبة المُثلى حسب اعتقاد الناس. لكن ما نفع المال حين يكون الشخص مجنونًا وخطرًا على نفسه وغيره؟
فالمرض النفسيّ هو من أخبَث الأمراض، لأنّ علاماته وعوارضه تكون خفيّة ولا تظهر على صاحبه إلا في الأوقات النادرة والحرجة، أي عندما يكون الآوان قد فات. لم يشكّ أحدٌ بأنّ وسام قادر على القيام بأبشع الأمور باللتي أحبّها بجنون، أي أنا. فهو حقًّا أحبَّني وأرادَني بقوّة لا توصَف واعتبرَني ملكًا له لا يجوزُ تقاسمه مع أحد. لا تسيئوا فهمي، فلَم أخنه أو حتى لم أحاول التفكير بِرجل غيره.
ويوم تزوّجنا صرتُ له بكاملي وأخذَني بعيدًا إلى بيته في أوروبا بذريعة العمل. لكن الحقيقة كانت أنّه أرادَ عَزلي عن كلّ ما ومَن أعرفُه.
حياتنا في لندن كانت جميلة، على الأقل في البداية حين كنتُ لا ازالُ أعتبرُ نفسي في شهر العسل. لكن سرعان ما صارَت الأيّام تتشابه، ولَم نعد نخرجُ كالسابق بل نبقى في البيت الجميل ولكن الموحش بسبب موقعه ومُحيطه، فنحن لَم نكن نرى أحدًا. عندها أدركتُ أنّ ما مِن شيء يجمعُني بزوجي، فلَم أجد موضوعًا أتكلّم معه فيه، خاصّة أنّه كان يمضي مُعظم نهاره على الهاتف للقيام بالأعمال التي تركَها وراءه في البلد.
سلوَتي الوحيدة كانت مُحادثاتي مع أهلي وأصدقائي عبر الإنترنت، وشكرتُ ربّي أنّني أعيشُ في عصر أتاحَ للناس التواصل عن بُعد. لكن سرعان ما أصابَني الإكتئاب، الأمر الذي لَم يؤثّر في وسام إطلاقًا. بالنسبة له كنتُ بالقرب منه، وهذا ما يهمّه.
عندما أصابَ أبي مرضٌ خطير، رأيتُ في ذلك فرصة لزيارة أهلي والبلد، لكنّ وسام لَم يرَ حاجة لأن أغادر، قائلاً إنّ ما أصابَ والدي ليس سوى "وعكة صحيّة عرضيّة وحسب". بكيتُ كثيرًا لكنّني بكيتُ أكثر عندما فارَقَ والدي الحياة ولَم أكن موجودة معه لأودّعه أو حتى لحضور دفنه. وفي ذلك اليوم، قرّرتُ أنّ عليّ الإنفصال عن زوجي والعودة إلى حياتي ما قبل وسام، واعتقدتُ أنّ عدَم اهتمامه بي سيُسهّل الأمر عليّ... لكنّني كنتُ مُخطئة. فحين صارَحتُ زوجي برغبتي بتركه، نظَرَ إليّ كالمجنون صارخًا:
ـ ماذا؟!؟ مَن تظنّين نفسكِ يا سيّدة؟ أنتِ لي حتى آخر أيّامكِ!
ـ لكنّكَ لا تهتمّ بي ولا تمضي معي أيّ وقت، فما حاجتُكَ لي؟
ـ هل أنتِ صمّاء أم بلهاء؟ لقد قلتُ لكِ إنّكِ لي! ستبقَين هنا معي، أفهمتِ؟!؟
لَم أُجِب لأنّ صراخه كان مُخيفًا للغاية وفضّلتُ البكاء بصمت في غرفتي. بعد ساعتَين، جاءَ وسام مُعتذرًا ومُعربًا عن حبّه لي بقوّة. وفي الفترة التي تلَت، كان مِن الواضح أنّه فَعَل جهده لأن أحمل منه، آملاً أن يكون الطفل المرجو قدومه سببًا لبقائي معه.
كان الله يُحبّني لأنّني لَم أحمل بالرغم مَن مُثابرة وسام على إقامة علاقة جنسيّة كلّ ليلة مِن دون انقطاع. وعندما أدرَكَ فشلَه، صارَ زوجي بغاية العدائيّة معي، ليس لأنّه اعتبرَني عاقرًا بل لأنّه خافَ أن أنجوَ مِن قبضته.
وليُبرّر لنفسه ما يحصل لزواجنا، إعتبَرَ أنّ لي عشيقًا. ولكن كيف لي ذلك وأنا لا أُبارحُ البيت؟ كِدتُ أضحكُ لولا جدّيّة لهجته عندما علّل شكوكه بالإنترنت. عندها أرَيتُه هاتفي عارضةً عليه تصفّحه لكنّه رفَضَ قائلاً:
- لا حاجة لذلك، فالأفاعي أمثالكِ أذكى مِن أن تترك أثرًا لخيانتها... لقد أعطَيتُكِ كلّ شيء وتخونيني؟!؟ يا ناكرة الجميل! سأعلّمكِ الوفاء أيّتها الوسخة!
لَم أدخل غرفتي كالمرّة السابقة لأنّ وسام خرَجَ مِن البيت ليعود في المساء، لكنّه لَم يوجّه لي الكلام أو الإتّهامات بل تصرّفَ وكأنّني غير موجودة في المنزل. إرتحتُ للأمر فماذا أقولُ لإنسان مثله؟
مرَّت الأيّام بصمت رهيب، ولَم أكن أعلمُ بماذا يُفكّر زوجي أو ما يُخطّط له، فقد حسبتُه غاضبًا وحسب.
طيلة تلك الفترة لَم أخبر أهلي بالذي كنتُ أمرُّ به، كي لا أُشغل بال أحد، خاصّة أمّي التي كانت لا تزال تبكي زوجها الحبيب، لكنّني وعدتُها بِزيارة قريبة وبِمُعانقة طويلة. كنتُ فعلاً أنوي الرحيل وأنتظرُ الوقت المُناسب لذلك، فلستُ مِن اللواتي تهوَينَ المشاكل والمواجهات العنيفة.
لكن في أحد الأيّام، لحظة دخلتُ المطبخ لتحضير الفطور، ظهَرَ وسام أمامي صارخًا:
- مَن سيُحبّكِ الآن أيّتها الفاسقة؟!؟
وقبل أن أستوعِب ما يحصل، شعرتُ بوهج رهيب على الجهة اليُمنى مِن رقبتي وكتفي وبدأتُ أصرخُ مِن الألم. ركضتُ إلى الحمّام لأكتشف ما لَم أتصوّره مُمكنًا: كان زوجي قد ألقى عليّ حامض السلفوريك بقصد تشويهي، لكنّه، والحمد لله، لم يُصِب وجهي مُباشرةً. لحسن حظّي كان هاتفي في جيب ردائي، فأقفلتُ باب الحمّام واتّصلتُ بالشرطة البريطانيّة ثمّ انتظرتُ باكية وصول الإسعاف. بعد دقائق، سمعتُ أصواتًا وطرقًا على باب الحمّام، ومِن ثمّ نقلوني إلى المشفى وأخذوا وسام إلى القسم.
لَم تنفَع إتّهامات وسام لي بالخيانة لتخفيف جرمه، ففي بتلك البلدان يأخذون أيّ تعنيف ضدّ المرأة على محمل الجدّ، ويُلاقي الفاعل أشدّ عقاب خاصّة إن كان الأمر يتعلّق بحامض السلفوريك.
حين أنهَيتُ علاجي في المشفى، أخذتُ أوّل طائرة وعدتُ فيها إلى دياري وذويّ، وبقيَ وسام في السجن حيث مكانه الحقيقيّ. وبعد فترة قصيرة أقمتُ دعوى ضدّ زوجي أطلبُ فيها الطلاق والتعويض عن تشويه جزء مِن جسدي. ربحتُ الدعوى طبعًا، فأيّ مُجرم ينجو بِهكذا فعل؟ ومع أنّ الحادثة حصلَت بعد حوالي السّنتَين على زواجنا، أي أنّني كنتُ لا أزال في العشرين مِن عمري، شعرتُ لاحقًا أنّني نضجتُ كثيرًا بعد أن فقدتُ البراءة والسّعادة التي كنتُ أتمتّع بهما. لَم أعُد أفتخرُ بجمالي مع أنّ وجهي لم يتشوّه، بعد أن أدركتُ كم أنّ الجمال هش. وما هو بهذه الهشاشة لا بدّ أن يكون غير مهمّ.
حاوَلَ وسام التواصل معي بعد خروجه مِن السّجن، إلا أنّني منعتُه قضائيًّا مِن التكلّم معي أو الإقتراب منّي، لِذا اختفى مِن حياتي... إلى أن علِمتُ أنّه قتَلَ نفسه بعد أن تعرّفَ إلى فتاة وأحبّها وتركَته هي الأخرى. إنّه حقًّا إنسان مُضطرِب نفسيًّا كان يجدرُ به أن يخضع للعلاج ويبتعد عن الناس حتى يشفى. ولكن، هل يشفى أمثاله يومًا؟
حاورتها بولا جهشان