كانت سعاد امرأة مُطلّقة تعملُ في معهد الموسيقى حيث تعلَّمَ وجيه، وبقيَ يتمرّن ويقوم بحفلاته الموسيقيّة مِن وقت لآخَر ويُعطي دروسًا في البيانو. وما هو مُلفِت بتلك المرأة، هو أنّها جميلة للغاية وتتحلّى بجاذبيّة كبيرة. إضافة إلى ذلك، هي تكنّ لوجيه معزّة خاصّة لكثرة اعجابها بفنّه. لكنّها لَم تكن تُحبّه أو تُريدُه على صعيد شخصيّ. لكن يوم هي جاءَت إلى معهد بعد أن رحلَت سابقتها إلى التقاعد، صُعِقَ ابن أختي بها وشعَرَ بأمور كانت حتّى ذلك الحين غير موجودة على الاطلاق. إضافة إلى ذلك، وهو أمر بغاية الأهميّة، كانت سعاد تكبُر وجيه بسنوات عديدة، فهو رأى فيها، على ما أعتقِد، البديل المثاليّ لأمّه. فتلك المرأة كانت قادِرة على إعطائه حنان الأمّ وحبّ الأنثى ورفقة الزوجة. ويومًا بعد يوم، صارَ وجيه مهووسًا بسعاد، يقصدُ المعهد منذ موعد فتح الأبواب إلى موعد الاقفال. شعرَت أختي بأنّ شيئًا غير اعتياديّ يحصل، فحتّى ذلك الحين، كان ابنها يُسرِع بالعودة إلى البيت ليكون برفقتها ويرتمي في أحضانها. ما الذي حصَلَ حتّى باتَ وجيه يُفضّل المعهد عليها؟!؟ لكن مِن دون أيّ معلومة واضِحة، لَم تستطيع سهى مُساءلة ابنها، فاكتفَت بالمُراقبة.
لاحظَت سعاد طبعًا أنّ ذلك الموسيقار يحومُ مِن حولها بصورة دائمة، ويُقدِّمُ لها الورود ويعرضُ عليها مُساعدته، فرأَت أنّ الأمر قد يستحقّ أن تنظرَ فيه. فهي كانت تسكنُ لوحدها في شقّة صغيرة وليس لدَيها أولاد يملأون وقتها، أو يعطونها فرَحًا خاصًّا أو حتّى يُساعدونها ماليًّا حين يكبرون. بل كان راتبها ضئيلاً وبالكاد يُغطّي ثمن الفواتير. أمّا بالنسبة لوجيه، فكان مِن المعلوم أنّه مُرتاحٌ مادّيًّا للغاية، بفضل براعته وتقديم حفلاته هنا وهناك، ناهيكَ عن ساعات التدريس العديدة. فقالَت لنفسها: "لِما لا؟"، وبدأَت تُبادِل وجيه إعجابه. لكنّها لَم تُحبُّه، لأنّه كان شابًّا بلا طعم أو لون أو شخصيّة مُميّزة ، بل كانت بحاجة إلى رجُل حقيقيّ. هي كانت قد سمِعَت طبعًا عن علاقته الوطيدة، لا بل المرَضيّة، بأمّه ووجدَت أنّ الأمر لَم يكن صعبًا عليها، بل فيه نوع مِن الإثارة لها.
بدأَ الناس في المعهد يتكلّمون عن التغيير الملحوظ الذي جرى لابن أختي مِن حيث الشخصيّة، وذلك بسبب حبّه العلنيّ لسعاد، وفرِحوا له. وبقيَت سهى تجهل ما يحصل، إلى حين قرَّرَ وجيه اطلاعها على حبّه الجديد ونيّته بالزواج مِن حبيبته. وعندما بدأ الكلام، أطلقَت أختي صرخة مزّقَت الجوّ: "ماذا؟!؟ مُطلّقة وأكبَر منكَ سنًّا؟!؟ أمنعُكَ مِن رؤيتها أو التكلّم معها! وإن أعصَيتَ أوامري فسأمنعُكَ مِن الذهاب إلى المعهد!".
بدأَ وجيه بالبكاء كالطفل وهو يُردِّد: "أحبُّها يا ماما! أحبُّها كثيرًا!". أسرعَت سهى بالاتّصال بي لإخباري بما جرى ويجري، واحترتُ أنا لِما أقوله لها. فهي كانت قد منعَتني مِن التدخّل وخفتُ ألا يُعجبها كلامي. فطلبتُ منها أن تهدأ وألا تُخيف ابنها كَي لا تخسره إلى الأبد. بعدها، طلبَت أختي مِن وجيه أن يأتي بسعاد إليها لتراها، وكان مِن الواضح أنّ تلك المواجهة لا تُنذِرُ بالخير على الاطلاق... مِن الجهتَين! لِذا، دعَتني أختي لأكون موجودة حين تأتي "سارِقة الرجال" كمَا أسمَتها. تردّدتُ كثيرًا، لكنّني لَم أشأ ترك أختي لوحدها في تلك اللحظة المصيريّة، على الأقلّ بالنسبة لها.
وحين دخلَت سعاد، لَم يسَعني سوى أن أنبهِر أمام جاذبيّتها وأناقتها، وسألتُ نفسي على الفور ما الذي أعجبَها بوجيه، فهو إنسان أكثر مِن عاديّ. وجرى تبادل التحيّة بينها وبين أختي وأنا، ثمّ دخلَت سهى في صلب الموضوع مُباشرة:
ـ أنا آسِفة... سيّدتي... لكنّنا لسنا بحاجة إلى جليسة أطفال لابني، فأنا أقومُ بالواجب على أكمَل وجه.
نظرَت سعاد إلى وجيه ليُجيب على كلام أمّه، فوجدَته مُسمّرًا ومرعوبًا، فقالَت:
ـ نحن مُتحابّان... يا خالتي... وطلَبَ وجيه يدي للزواج. وجودي هنا هو فقط للتعارف وليس لأخذ إذنكِ... نحن بالغان ونستطيع أخذ قراراتنا لوحدنا.
ـ ما هذا الكلام؟!؟
ـ إضافة إلى ذلك، نحن لا ننوي العَيش هنا معكِ، فلا لزوم للقلَق في حال لَم تُحبّيني.
ـ وجيه! تكلّم! كيف تسمَح لهذه الـ... أن تُكلّمني بهذه الطريقة؟!؟ أهكذا أنشأتُكَ؟!؟
عندها قرّرَ ابن اختي التكلّم:
ـ ماما... لا داعٍ لافتعال المشاكل... أُحبّ سعاد وأريدُ تمضية حياتي معها. يا لَيتكِ تُباركين هذه الزيجة ونعيشُ كلّنا بسلام.
ـ لن يحصل هذا طالما أنا على قيد الحياة!
أسرعَت سعاد بالقول:
ـ الأعمار بيَد الله يا... خالتي. لا تخافي، سأهتمّ بوجيه جيّدًا بعد رحيلك مِن هذه الدنيا.
كادَت سهى أن تختنِق لدى سماع ذلك، فأعطَيتُها كوبًا مِن الماء ثمّ قلتُ لسعاد بصوت هادئ:
ـ أظنّ أنّ الزيارة انتهَت، تشرّفتُ بمعرفتكِ.
رحلَت سعاد بعد أن أوصلَها وجيه إلى سيّارتها، ثمّ عادَ إلى الداخل غاضبًا جدًّا، وقال لأمّه:
ـ تريدين أن أتعفَّن هنا معكِ؟ أريدُ أن أعيش حياة طبيعيّة أخيرًا! أريدُ أن أتحرَّر منكِ!
ـ هذا ليس كلامكَ يا ابني بل كلام هذه الأفعى. لن تتمّ هذه الزيجة أبدًا! أسمِعتَ؟!؟
بعد تلك المواجهة المريرة والعنيفة، باتَ وجيه يتغيّب أكثر وأكثر، الأمر الذي أخافَ سهى، فهي أدركَت أنّها ستخسَر ابنها الوحيد بسبب "سارِقة الرجال" هذه. لِذا هي قرّرَت تغيير موقفها مِن تلك الزيجة، على الأقلّ صوَريًّا. فهي قالَت لابنها إنّ فكرة فقدانه هي أصعَب أمر لها، وإنّها قد تقبَل بسعاد بعد أن تتعرَّف إليها أكثر، فقد تكون حبيبته إنسانة طيّبة. زفّ وجيه الخبَر لسعاد التي لَم تُحِبّ هذا التغيير المُفاجئ، إلا أنّها لَم تكن قادِرة على رفض اليَد التي مدَّتها لها أختي. وهكذا صارَت الحبيبة تزورُ حماتها المُستقبليّة باستمرار ويأخذُ وجيه المرأتَين إلى المطعم. كانت الأجواء جيّدة، نسبيًّا طبعًا، بعد أن توقّفَ الطرفان عن تبادل الشتائم والتهديدات. لكن داخِل قلب كلّ منهما، كانت تغلي النيران.
مضَت أشهر على هذا النحو، وحُدِّدَ موعد الزفاف وصارَت التحضيرات على قدَم وساق. لو ترَون وجيه! كان أسعَد الرجال! لكنّ سهى وسعاد كانتا قلِقتَين للغاية وكان ذلك بائنًا بوضوح. وقَبل أسبوع واحد على عقد القِران... حاولَت أختي أن تنتحِر! فوجدَتها الجارة مُغطّاة بالدماء بعدما فتحَت عروق أحَد معصمَيها في الحمّام. فتلك الجارة كانت تملكُ مُفتاحًا للشقّة أعطَته أختي لها منذ سنوات عديدة في حال هي أضاعَت مفتاحها الخاص. وبما أنّ المرأتَين كانتا على موعد مُسبَق لشرب القهوة صباحًا ولَم تأتِ سهى، الأمر الذي لَم يحدث سابقًا، قرَّرتُ المرأة تفقّد أختي.
أُخِذَت سهى على الفور إلى المشفى حيث عولِجَت، وركَضتُ ووجيه لرؤيتها بعد أن تمّ إبلاغنا بما حصَل وكنّا نبكي بحرارة حين دخَلنا غرفتها.
كانت سهى شاحِبة اللون وضعيفة، وبالكاد قادِرة على التكلّم. قبّلتُها ثمّ جلستُ على كرسيّ قبالتها، لأترك المجال لابنها للجلوس بالقرب منها. هو أمسَكَ بِيَدها وقبّلَها بحرارة طالبًا منها المُسامحة. أمّا هي، فنظرَت إليه بحنان وقالت بصوت بالكاد يُسمَع:
ـ فعلتُ ذلك مِن أجلكَ يا بُنَي... حانَ الوقت لأرحَل مِن هذه الدنيا وأفسَحَ لكَ المجال لتعيش حياتكَ مع... مع سعاد. يُمكنكُما العَيش في بيتي بعد مماتي لكن أرجوكَ أن تُحافظ على ذكرياتي فيه... فكلّ شيء هو بمثابة ذكرى مِن حين وُلِدتَ إلى اليوم... هي ذكرى الأوقات التي ضحيَّتُ فيها مِن أجلكَ، فأنتَ أغلى ما لدَيّ ولن أستطيع الاستمرار مِن دونكَ. فسأعاوِد الكرّة وأرحَل عن هذه الدنيا، لكنّ في المرّة القادمة لن أفشَل. أتمنّى لكَ السعادة.
ـ لا يا ماما! أرجوكِ لا تموتي، فأنتِ أيضًا أغلى ما لدَيّ! أنا الآخَر لا أستطيع العَيش مِن دونكِ إطلاقًا، ولن تحلّ امرأة أخرى في حياتي أبدًا!
ـ تقولُ ذلك لتمنعَني مِن الانتحار، أعرفُك جيّدًا.
ـ بل أنا جادّ للغاية! لا أريدُ سواكِ! لا تموتي!!!
ـ أنا آسفة، لكنّني لا أصدّقكَ.
ـ سأثبتُ لكِ الآن أنّني أقولُ الحقيقة!
وأخَذَ وجيه هاتفه وطلَبَ سُعاد وفسَخَ علاقته معها أمامنا. نظرَت إليَّ أختي وغمزَتني فذعِرتُ لهذا الكمّ مِن المكِر! وضَعَ وجيه رأسه في حضن أمّه النائمة على السرير، وهي داعبَت شعره كما اعتادَت أن تفعَل منذ صغره.
بقيَت سُعاد تُحاول إقناع ابن أختي أنّ محاولة انتحار أمّه هي فقط تمثيليّة أعدَّتها للتفريق بينهما، وأنّ أمّه كانت تعلَم أنّ الجارة ستأتي لإنقاذها في الوقت المُناسب. إضافة إلى ذلك، كانت سهى قد قطعَت سطحيًّا عرق معصم واحد فقط. لكنّ وجيه لَم يُصدّقها، فمَن يفعل ذلك؟!؟ على كلّ الأحوال، هو لَم يكن مُستعِدًّا ليكون سبب موت أمّه مهما كان الثمَن. قدَّمَت سعاد استقالتها مِن المعهد وانقطعَت أخبارها.
عادَت الأمور كما كانت في بيت أختي، أيّ وكأنّ شيئًا لَم يحصل، وكأنّ سعاد لَم تكن موجودة في الأصل. تابَعَ وجيه مُزاولة فنّه والعودة إلى البيت فور انتهائه، وجلبَت أختي عامِلة نظافة أجنبيّة كبيرة في السنّ لتُساعدها مِن دون أن تُشكلّ أيّ خطر.
مرَّت بضع سنوات على هذا النحو، وصارَ ابني شابًّا ناجحًا ومُتزوّجًا وله توأمان، بينما أضاعَ وجيه عمره بسبب أمّه التي بأنانيّتها أرادَت ابقاءه طفلاً وحرَمَته مِن عَيش مراحل حياته بشكل طبيعيّ.
ساءَت حالة سهى الصحّيّة، بعدما أُصيبَت بجلطة وصارَت مشلولة نصفيًّا. عندها خفّفَ وجيه مِن أشغاله ليبقى إلى جانبها مع أنّ العامِلة كانت لا تزال موجودة. لكنّ مصيره كان مربوطًا بشكل مُخيف بمصير أمّه، وخشيتُ عليه كثيرًا إن ماتَت أختي، لا قدَّرَ الله. فأتصوّر أنّ وجيه سيتركُ نفسه يذبُل إلى حين يموت بدوره... أو يجدُ لنفسه أمًّا بديلة كما حصَلَ مع سعاد. وحده الوقت قادر على الإجابة.
أيّها الأهل، "أولادكم ليسوا لكم" كما قال الكاتب الفيلسوف العظيم جبران خليل جبران، بل "إنّهم أبناء الحياة".
حاورتها بولا جهشان