أختي بالإنسانيّة

قصّتي هي عن انقلاب الموازين وسخرية القدَر، ويا لَيتَ كلّ ظالم يلقى عقابه، لكان العالَم بأفضل حال.

أحبَبتُ زوجي كثيرًا، وتركتُ مِن أجله كنَف أهلي المُريح. فالحقيقة أنّ أمجَد لَم يكن ثريًّا، بل العكس. إلا أنّ الحبّ أنساني أنّ الدَهر غدّار وهذه القلّة قد تنقلب بسرعة إلى فقر.

بعد زواجنا بقليل، علِمتُ أنّني حامل واستقبَلنا إبنتنا الأولى ببهجة عارمة. لحقَتها البنت الثانية، وبعد ذلك بدأَت تسؤ حالتنا المادّيّة. لَم يكن زوجي هو المُذنب، بل ظروف البلَد الإقتصاديّة. خسِرَ أمجَد وظيفته، وظلّ يُمانعُ أن أفتّش عن عمل حتى لو كان ذلك يعني تجويعنا. إنّه منطق لا منطق له، لكنّ زوجي، كما كنتُ سأكتشفُ لاحقًا، كان مُتمسّكًا بمفاهيم خاطئة للرجوليّة.

عانَينا الكثير مِن القلّة، وكنتُ أقصُدُ أهلي مع أولادي لنأكل ما بإمكانه تغذيَتنا للصّمود قدر المُستطاع. لَم أطلب المال منهم، إلا أنّ والدتي كانت قد فهِمَت مدى خطورة وضعنا، وأعطَتني مبلغًا لا بأس به. وفور عودتنا إلى البيت، علِمَ أمجَد بأمر هذا المال مِن إبنتنا البكر، فأسَرَع بأخذه منّي بذريعة "أنّه يعرفُ، على عكسي، كيف يصرفُه وعلى ماذا." كلام غير صحيح، فمنذ ما صارَ زوجي عاطلاً عن العمل، لَم أشترِ لنفسي شيئًا أو حتى للبنتَين، بل عملتُ جهدي لنتمكّن مِن الاستمرار.

وجَدَ أمجَد أخيرًا عملاً كناطور في مبنى جميل مِن حيّ راقٍ. وعندما أخبرَني فرِحًا أنّنا سنسكنُ جميعًا في غرفة واحدة، بدأتُ بالبكاء. نظَرَ إليّ بتعجّب، ونعَتَني بالأنانيّة وطمأنَني إلى أنّ دموعي لن تغيّر شيئًا، فهو اتّخَذَ قراره، و"الرجل الحقيقيّ لا يُغيّرُ بقراراته".

ظروف حياتنا في تلك الغرفة كانت صعبة للغاية، بسبب ضيق المكان والرطوبة التي سبّبَت لابنتي الصغيرة الرّبو، ناهيك عن تدخّل صاحب المبنى في حياتنا اليوميّة. كان كلّ شيء ممنوعًا علينا، حتى استقبال الأصدقاء والأهل.

كنتُ قد أصبحتُ سجينة مكان لَم يكن مِن المُفترض بي العَيش فيه، وزواج بدأ يتدهوَر بسرعة. فزوجي كان سعيدًا بعمله الجديد، ولَم يفهَم مدى يأسي وصعوبة عيشنا. ظننتُ في البدء أنّ لا حول ولا قوّة له، لكنّني صُدِمتُ كثيرًا بأمجد حين رفَضَ فرصَتَي عمل فقط للبقاء في ذلك المبنى المشؤوم. لَم أفهَم ما الذي كان يُسعدُه بالعَمل عند رجل طاغٍ، ومع سكّان لا يتحلّون بأدنى قَدر مِن الإنسانيّة، ولماذا لَم يكن يهمُّه راحة أو صحّة عائلته.

 


إلى جانب كلّ ذلك، كان زوجي يغارُ عليّ كثيرًا، فلَم يكن مسموحًا لي أن أخرجَ مِن دونه، حتى إلى الدكّان، الأمر الذي زادَ مِن يأسي. فأيّامي كانت مُتشابهة لا أرى خلالها إلا أمجَد وبنتَيَّ. فانتكسَت صحّتي، وحين أبدَيتُ رغبتي برؤية طبيب، أجابَني أمجَد: "ونصرفُ المال على أمراض وهميّة؟ كلّ مشاكلنا مصدرها قلّة قناعتكِ... يا لَيتني تزوّجتُ مِن إبنة خالي... ليُسامحَني الله."

...وساءَت حالتي، واضطّر زوجي لطلب الطبيب أخيرًا حين فقدتُ الوعي، أو بالأحرى بعد أن انتظَرَ وقتًا طويلاً لأستفيق مِن تلقاء نفسي.

بعد تلك الحادثة، تيقَّنتُ مِن أنّ زوجي لا يُحبّني ولا يُحبّ إبنتَيه، بل فقط نفسه، وتمنَّيتُ لو أجد مخرجًا لهذه المُصيبة.

جاء الفرَج مِن زوجي، حين طفَحَ كيله منّي ومِن "طلباتي" يوم أردتُ شراء ملابس داخليّة للفتاتَين. بدأ يصرخُ بي وينعتُني بالـ "مُبذّرة" وبأنّني لا أشبع. وكنتُ قد علِمتُ أنّه قبَضَ راتبه مِن صاحب المبنى للتوّ، وكان لدَيه المال الكافي لشراء أبسط الأمور لعائلته. وتفاقَمَ الشجار، وانتهى الأمر بإرسالي إلى أهلي مُضيفًا عاليًا ألا أفكّر بالعودة بتاتًا. أصرَّيتُ ألا أرحَل مِن دون إبنتَيَّ، فقبِلَ على مضض، فقط كي لا يعودُ يراني أمامه.

للحقيقة إرتاحَ قلبي للغاية لقراره هذا، وأسرعتُ بِترك المكان قبل أن يُغيّر رأيه. ولحظة وصولي إلى منزل أهلي، جعلتُهم يُقسمون لي بألا يفكّروا بإعادتي إلى زوجي.

لَم يُحاول أمجَد إستعادتي أو الفتاتَين، بل طلّقَني. وعلِمتُ أنّه يُفتّش عن عروس بعدما تزوّجَت إبنة خاله الموعودة له منذ الطفولة.

صلَّيتُ أن يتزوّج أمجَد بسرعة كي يدَعَني وشأني ولا يُطالب بالحضانة، فأيّ زوجة أب ستريدُ بنتَين في مكان ضيّق ورطب؟ وبعد فترة تفتيش دامَت حوالي الستّة أشهر، تزوَّجَ أمجَد أخيرًا وأخَذَ عروسه إلى العشّ الزوجيّ.

إرتاحَ قلبي، واستطعتُ أخيرًا التفكير بنفسي قليلاً. صِرتُ أكثر فرحًا وأمَلاً بالحياة، وكذلك صغيرتَيّ.

وأهداني الله مُنير، في وقت وطريقة غير مُنتظرَين. جاءَتني رسالة على إحدى منصّات التواصل الإجتماعيّ مِن رجل أُعجِبَ بصوَري وبمنشّوراتي، وأبدى نيّته بالتعارف إليّ أكثر. في البدء لَم أجِب بل تجاهلتُ الأمر، ظانّة أنّه يُريدُ تمضية الوقت معي كالكثير مِن الرجال. إلا أنّه بقيَ مُصرًّا ومؤكّدًا لي أنّ نيّته شريفة. قمتُ بالبحث عن إسمه ونشاطاته، ووجدتُ أنّه إنسان عاقل ورصين، فأجبتُه. وأوّل شيء قلُته له هو إنّ الحياة ظلَمَتني، ولدَيَّ إبنتَان لن أتخلّى عنهما. تابعتُ أنّني لن أقبَلَ أبدًا بأن يعود الحزن إلى قلبي، وأنّني صِرتُ إمرأة قويّة وعازمة والوَيل لمَن يمسُّ كرامتي أو كياني مجدّدًا!

وقَبل أن أتزوّج مِن مُنير بقليل، وبعد فترة مواعدة جميلة، أخبرَني عريسي أنّه رجل ثريّ... للغاية. فرِحتُ للأمر طبعًا، خاصّة بعدما عشتُ في الفقر، لكنّ الأمر لَم يكن يهمُّني بقَدر مُعاملته لي. فما نفع المال إذا كنتُ سأتعذّب مُجدّدًا؟

عشتُ سعيدة مع مُنير، وهو أحبَّ ابنتَيّ وأنجَبنا ولدًا جميلاً. وشاءَت الأقدار أن أسمَع مِن أحدهم أنّ صاحب المبنى الذي يعمل فيه زوجي السابق، أي حيث عشتُ معه فيه، يُريدُ بَيع العقار كلّه. أقنَعتُ مُنير بأنّها صفقة مُربحة وأنّ عليه شراءه. لَم أقل له مَن يعمل فيه، فكان لا بدّ لي أن أنتقِم مِن أمجَد، ليس لي فقط، بل لبنتَيّ بعد أن تركهما أبوهما ولَم يسأل عنهما يومًا أو يُحاول مساعدتهما ولو قليلاً.

وذات يوم وصلتُ المبنى بسيّارتي الفخمة، وبدأتُ أشغّل البوق بقوّة وإصرار. ظهَرَ أمجَد مِن غرفته ووقَفَ أمامي كالصنَمَ عند رؤيتي. وقَبل أن يتفوّه بأيّة كلمة، قلتُ له بنبرة جافّة:

 

ـ لدَيَّ أغراض في الصندوق، إحملها إلى الطابق العلويّ... بسرعة!

 

ـ لكن... ماذا... ماذا يحدث؟

 

ـ أنا صاحبة المبنى الجديدة... هيّا! ماذا تنتظر؟

 


ـ حاضر.

 

إمتثَلَ أمجَد لأوامري مُحاولاً إستيعاب ما يحدث. وعندما انتهى، أقفلتُ باب الشقّة وعدتُ إلى بيتي. كنتُ أعلم أنّ زوجي السابق لن ينام الليل بطوله، وابتسمتُ للفكرة.

عدتُ في اليوم التالي وطلبتُ منه تنظيف كامل المبنى... وبسرعة. أخَذَ يعمل كالمجنون. في تلك الأثناء، رحتُ إلى غرفته لأرى زوجته فوجدتُها جالسة مع فتاة صغيرة. عرّفتُها عن نفسي قائلة إنّني المالكة الجديدة، وهي رحبَّت بي وحضّرَت لي القهوة. سألتُها عن أحوالها، إلا أنّ المسكينة بدَت لي حزينة. بالطبع عرفتُ أنّ زوجها هو السبب، وأنّ حياتها في تلك الغرفة لا تلائمُ أيّ إنسان أو طفل.

وحدَثَ شيء لَم أتوقّعه: نسيتُ حقدي ورغبتي بالإنتقام وأخذتُ قرارًا فاجأني. سألتُ زوجة أمجَد:

 

ـ هل تحبّين زوجكِ؟

 

ـ ماذا؟ أعني... سؤال غريب... أجل أحبُّه، وكثيرًا.

 

ـ هل يُعاملكِ جيّدًا؟

 

ـ أجل، في مُعظم الأحيان... هو كان مُتزوّجًا مِن قبل، ولقد فهِمَ أنّ معاملته لزوجته وابنتَيه لَم تكن جيّدة، وأظنُّه تعلّم الدّرس. لكنّه دائم التشنّج بسبب طريقة عَيشنا.

 

ـ حسنًا... ستنتقلون للعَيش في الطابق العلويّ، على الفور.

 

ـ لكن...

 

ـ وإيّاكِ ألا تكوني سعيدة!

 

رحتُ أفتّش عن أمجَد على السلالم التي كان يقومُ بتنظيفها، وقلتُ له:

 

ـ إسمع، لا أكنُّ لكَ أيّة مودّة أو إحترام، لكنّني لَم أستطع رؤية عائلتكَ في الوضع نفسه الذي كنتُ فيه. سأُعطيكم الشقّة العلويّة لتعيشوا فيها. لن تكون لكَ طبعًا، بل ستبقى لي. ستسكنُ فيها مع عائلتكَ طالما تقومُ بواجباتكَ في المبنى... وطالما تُحسِنُ مُعاملة زوجتكَ وابنتكَ. وسأزورُكم في أيّ وقت أراه مُناسبًا، وإنّ علِمتُ بأنّكَ أهَنتَ زوجتكَ أو أسأت معاملتها، سأطردُكَ مِن هنا على الفور. أقولُ "أطردُكَ" لأنّني سأُبقي عائلتكَ هنا. مفهوم؟

 

ـ مفهوم. ولكن كيف...

 

ـ هذا ليس مِن شأنكَ، كلّ ما أستطيع قوله، هو أنّ الله يُحبُّني لأنّكَ طلّقتَني.

 

أخبرتُ مُنير بالذي فعلتُه واعترفتُ له بالذي خبّأته عنه. كان ليغضَبَ منّي لو لَم أغيّر رأيي بالإنتقام مِن زوجي السابق، فقد كان ذلك يعني أنّني لا أزال مُتعلّقة بحياتي السابقة.

بقيَ أمجَد مُلتزمًا بالذي طلبتُه منه حتى عادَ إلى طبعه الأصليّ، أي عدَم احترام مَن حوله. علِمتُ ذلك مِن زوجته التي كنتُ أزورُها باستمرار للإطمئنان عليها. فزوجي السابق لَم يعُد يريدُها وابنتهما، وهذا برهان آخر على أنّ الناس قلّمَا تتغيّر. لِذا طردتُه مِن المبنى وأبقيتُ عائلته حيث هي. ووجدتُ لزوجته عملاً وصِرنا أعزّ الصديقات. فهي أوّلاً إمرأة مثلي وواجب النساء الإتحاد والتكاتف. ولو عمِلنا ذلك كلنّا، ولو ربَّينا أولادنا على احترام المرأة، لَما استطاعَ رجل واحد الإستبداد بزوجته أو أخته أو إبنته.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button