تقتصرُ حياة السمكريّ عادة على إصلاح الأعطال ومدّ القساطر في البيوت والمباني. إلا أنّني صادفتُ مَن لَم يكن عليّ مُصادفته، وحصلَت لي أمور أليمة لا أحبُّ أن أتذكّرُها.
تعلّمتُ أسرار المهنة مِن المرحوم أبي ومشيتُ على خطاه، ووفّقَني الله لأنّني كنتُ أنا الآخر إنسانًا خلوقًا أتحلّى بضمير حَيّ. لَم يحصل أن اشتكى أحدٌ مِن سلوكي أو عمَلي أو أسعاري التي كانت دائمًا مدروسة. تزوّجتُ مِن إنسانة خلوقة أيضًا أعطَتني ولدًا رائعًا. بكلمة واحدة، كانت حياتي هادئة وهنيئة... إلى حين طُلِبتُ إلى ذلك البيت المشؤوم.
عند دخولي منزل السيّدة سارة، تفاجأتُ بالديكور والأثاث لكثرة فخامتهما. صحيح أنّني عمِلتُ في بيوت عديدة، لكنّها كانت المرّة الأولى التي أُطلَب فيها مِن قِبَل أناس أثرياء وأنا إبن مُحيط مُتواضع. كيف حصَلت تلك السيّدة على إسمي ورقم هاتفي، لستُ أدري.
عندما أطلَّت السيّدة سارة شعرتُ بأنّني في حضور مخلوقة مِن زمَن آخر لكثرة شياكتها وجمالها. كانت في العقد الرابع مِن عمرها أي تكبرُني بأكثر مِن عشر سنوات، إلا أنّها كانت تتمتّعُ بقدرة عجيبة على الإغراء مِن دون أن تفعل شيئًا، بل فقط بإلقاء نظرات تُشعِر الرجل بأنّه مميّز. وقعتُ تحت سحر تلك المرأة بغضون ثوان، فنسيتُ لِما أتَيتُ وأنّني مُتزوّج ولدَيّ ولد صغير... نعم، عدتُ عازبًا ومُنفتحًا على أيّ احتمال. أطلعَتني السيّدة سارة على ما تنتظرهُ منّي، أي فحص شبكة الصرف في الحمّامات واستبدالها إن كان ذلك لازمًا، لأنّ المكان هو قديم للغاية وبحاجة إلى تحديث. هي لَم تنسَ أن تُلمّحَ بأنّ الأجرة ستكون سخيّة، والمال لَن يكون حاجزًا. على كلّ الأحوال، كنتُ مستعدًّا للعمل مجّانًا لو كان ذلك سيُمكّنّني مِن التواجد بالقرب مِن هكذا إنسانة، فكنتُ أدركُ طبعًا أنّني لن ألتقي بمثلها مجدّدًا.
تفحّصتُ المكان ووعَدتُ السيّدة ببدء العمل في اليوم التالي.
عندما عدتُ إلى البيت وفتحَت لي زوجتي الباب، رأيتُ كَم أنّ الفرق هو شاسع بين المرأتَين، ففضّلتُ تناول وجبة الطعام بسرعة وعدَم التمعّن في ملامح زوجتي كثيرًا. لستُ فخورًا بما أقوله، لكنّ ذلك ما حصل فعلاً وتلك التفاصيل مُرتبطة مُباشرة بباقي الأحداث.
بعد ليلة قضَيتُها أتقلَّب في سريري لكثرة حماسي لبزوغ الفجر، رحتُ أشتري المعدّات اللازمة وقصدتُ البيت الفخم. مرّة أخرى أطلَّت عليّ السيّدة سارة بكامل أناقتها، وقدَّمَت لي شخصيًّا القهوة التي أعدَّتها وجلبَتها العاملة الأجنبيّة. وعدتُ نفسي بأن أكون على قدر توقّعات السيّدة كي لا أخسَر رؤية بسمتها الرائعة، وبدأتُ العمل وأنا أُدندِن نغمًا حماسيًّا لكثرة فرَحي.
إهتمَّيتُ بصيانة حمّامات الطابق العلويّ المُخصّص للمنامة، واستطعتُ دخول غرفة السيّدة سارة والمكوث فيها مطوّلاً لأنّ الحمّام كان في داخلها، شأن باقي الغرف. وهناك تصوّرتُ نفسي مُلقىً على السرير الضخم بينما فاتِنَتي تلحقُ بي مُرتدية ملابس نوم مُغرية. لن أدخل في التفاصيل التي ملأت عقلي، إلا أنّني كنتُ أسعد رجل في العالم. طبعًا كان ذلك مجرّد تمنٍّ، فلِما تنظرُ هكذا سيّدة لإنسان بسيط مثلي؟
لاحظتُ أنّ الغرفة كانت لمنامة السيّدة فقط بينما ينامُ زوجها في غرفة أخرى... واستغربتُ الأمر. للحقيقة، لَم أرَ الزوج منذ أن وطأَت قدمايَ البيت وعلِمتُ لاحقًا أنّه مُسافر، كعادته. فهمتُ أنّ السيّدة تعيشُ وحيدة مُعظم الوقت، الأمر الذي زادَ مِن رغبتي بها، ففي مُخيّلتي كنتُ سأصبَح الرجل الذي هي بحاجة إليه.
دامَ عمَلي مدّة شهر بكامله وتمنَّيتُ لو لَم ينتهِ. وكانت السيّدة سارة تتفقّدُني بين الحين والآخر لترى إن كنتُ بحاجة إلى أيّ شيء. أحيانًا كانت تجلبُ لي شخصيًّا ما أشربه. أمّا بالنسبة للطعام، فقد تناولتُ وجبات الغداء في المطبخ الكبير لوحدي، وأكلتُ طعامًا فاخرًا لَم أذِقه مِن قَبل.
قبضتُ أجرتي وكان المبلغ ضخمًا بالنسبة لِما أتقاضاه عادةً، فشكرتُ السيّدة طالبًا منها الإتصال بي لو احتاجَت إلى خدماتي مُجدّدًا. هي ابتسمَت وأجابَت: "لَم أخطىء الإختيار يا مُنير فأنا ممنونة مِن عملكَ... لا تخَف، سنلتقي مُجدّدًا، وقريبًا جدًّا".
في الأيّام التي تلَت، أُصِبتُ بالإحباط إذ كنتُ قد عدتُ إلى حياتي العاديّة، أي سمكريًّا يُصلِحُ بعض الأمور البسيطة في بيوت مُحيطي ويقضي باقي وقته برفقة زوجة عاديّة وولد لا يكفّ عن الصراخ والبكاء. تمسَّكَتُ بصورة السيّدة سارة التي أبقَيتُها في ذهني لاجتياز تلك الفترة الصعبة.
لكنّ حدثًا جاء ليُغيّر نمَط حياتي الذي كنتُ أصفُه بالمُمِل.
فبعد أسبوع على إنهاء العمل في بيت السيّدة، جاءَت الشرطة تخبطُ على بابي وبحوزتها إذن بتفتيش مسكني المُتواضع. كانوا يبحثون عن مجوهرات يُقال إنّني سرقتُها مِن غرفة نوم السيّدة. صرختُ عاليًا أنّني إنسان نزيه لكنّهم أخذوني إلى القسم بعدما تعذّر عليهم إيجاد المسروقات عندي.
كان التحقيق صعبًا وطويلاً، وسألوني الأسئلة ذاتها مرارًا بمحاولة حملي على الإعتراف. إلا أنّني لَم أُغيّر قصّتي: لَم أسرِق شيئًا على الإطلاق! لكنّ أسَفي الأكبر كان أنّ السيّدة سارة بنفسها إتّهمَتني بالسرقة مُضيفةً أنّني أيضًا كنتُ غير لائق معها. صحيح أنّني كنتُ مفتونًا بتلك المرأة، إلا أنّني لَم أجرؤ أن أُفصِحَ لها عمّا دارَ في رأسي.
وبما أنّني لَم أستطِع إثبات براءتي، وبما أنّني كنتُ الإنسان الغريب الوحيد الذي دخَلَ غرفة النوم ومكَث فيها لأيّام، كنتُ المُذنب المثاليّ بنظَر العدالة وقرّروا إتّهامي. عيّنوا لي محاميًا إذ لَم يكن لدَيّ أحد ليُدافع عنّي، إلا أنّه عمِلَ جهده لإقناعي بالإعتراف بما قيل إنّني فعلتُه وإعادة المجوهرات للتخفيف مِن الحكم ومدّة سجني. سجني؟!؟ كلّ ذلك لأنّني حلِمتُ بضع أحلام غير لائقة؟
لَم يكن لدَيّ المال الكافي لدفع كفالتي، لِذا ألقوني في السجن حتى يحين موعد المُحاكمة وجاءَت زوجتي لزيارتي. للحقيقة، هي كانت الإنسانة الوحيدة التي آمنَت ببراءتي، وخجلتُ مِن نفسي لامتعاضي منها في الفترة التي سبقَت، وسألتُ نفسي كيف لي أن أُفضّل عليها إنسانة تافهة ومُتشاوفة كالسيّدة سارة.
جرَت المُحاكمة ولَم يكن المحامي يملكُ أيّة مُعطيات لتبرئتي، فصدَرَ الحكم بسجني لمدّة خمس سنوات. لكن أكثر ما آلمَني، هو حين جاءَت السيّدة سارة وأدلَت بشهادتها ضدّي، فهي وصفَتني بطريقة صَعُبَ عليّ تصديقها، إذ أنّها قالَت إنّني رجل جشع وذو طباع بشعة وإنّني حاولتُ التقرّب منها بفظاظة مُستفيدًا مِن غياب زوجها. أي أنّها رسمَت صورة عنّي توحي بوضوح أنّني قادر على السرقة مِن دون وخزة ضمير.
عندما صرتُ وراء القضبان، قضيتُ ساعات طويلة بالبكاء لشعوري بالظلم والعار، فلقد لطّختُ، مِن دون قصد، سيرة أبي الحميدة وأثّرتُ على مُستقبل إبني الذي لن يفتخر بي يومًا. ثمّ سألتُ نفسي عمَّن أخَذَ المجوهرات. حاوَلَ المُحامي الإيحاء بأنّها قد تكون العاملة إلا أنّها كانت تعملُ لدى هؤلاء الناس منذ سنوات طويلة وكانت سيرتها نظيفة، ولَم يدخل المنزل وخاصّة الغرفة أي شخص آخر وأستطيع تأكيد ذلك. لَم يبقَ طبعًا إلا احتمال واحد، وهو أن تكون السيّدة تكذبُ بشأن السرقة. لكن لماذا تفعل ذلك؟
جاءَني الجواب بعد حوالي السنة، يوم زارَتني زوجتي وقالَت لي:
ـ لن يطول مكوثكَ في السجن يا حبيبي... لدَيّ أخبار سارّة للغاية!
ـ لا تُمازحيني أرجوكِ!
ـ إنّها الحقيقة! فلقد اتّصلَت بي العاملة التي تعمل في بيت تلك الأفعى.
ـ العاملة؟ وماذا كانت تُريد؟ وما شأن ذلك بالخبَر السار؟
ـ هي بقيَت صامتة حتى حانَ موعد إنتهاء عقد عملها وسفَرها إلى بلدها. لو تكلّمَت قبل ذلك لبقيَت مِن دون عمل أو مال.
ـ وماذا قالَت؟!؟ هيّا تكلّمي!
ـ قالَت العاملة إنّكَ بريء يا زوجي العزيز، فالمجوهرات لَم تتمّ سرقتها أبدًا بل أعطَتها السيّدة سارة لعشيقها، وهو شابٌّ كان يأتي باستمرار إلى البيت خلال فترات غياب زوجها. وكانت السيّدة تُساعده ماليًّا وتهديه أفضل ما يكون كي يبقى معها، كما يفعلُ بعض الرجال حين يُعاشرون فتيات أصغر منهم.
ـ تابعي!
ـ وخافَت السيّدة سارة أن يسألها زوجها أين المجوهرات حين يعود، فهما يقصدان سويًّا سهرات فخمة ترتدي خلالها تلك المجوهرات. لذلك وجدَت أخيرًا طريقة لتبرير فقدان المجوهرات والحصول على أخرى مِن زوجها، فهكذا تكون رابحة على الجهتَين!
ـ وكيف علِمَت العاملة بكلّ ذلك؟
ـ لأنّها ترى وتسمع كلّ شيء شأن كلّ العاملات. إضافة إلى ذلك، أمرَتها السيّدة سارة بتأكيّد قصّة السرقة لو اقتضَت الحاجة. لكنّ العاملة رفضَت رفضًا قاطعًا وقرَّرَت ضمنيًّا أن تقول الحقيقة حين يتسنّى لها ذلك.
ـ وهل أنّ العاملة مُستعدّة للإدلاء بشهادتها أم أنّها ستكتفي بما قالَته لكِ؟
ـ لقد اتّصلتُ بالمحامي وهو أخبرَ الشرطة بما علِمَه والتحقيق جارٍ يا حبيبي.
ـ كَم أنت كريم يا رب!!!
ثمّ سكتُّ لثوانٍ وأضفتُ:
ـ سامحيني يا حبيبتي.
ـ على ماذا؟
ـ على عدَم رؤيتي لروعتكِ... أنتِ إنسانة عظيمة ووحدكِ آمنتِ بي. أنتِ وإبننا عائلتي وملجئي وحياتي بأسرها! يا لغبائي!
ـ لأنّكَ كنتَ مفتونًا بالسيّدة سارة؟
ـ كيف؟...
ـ كان الأمر واضحًا للغاية فلقد ذكرتَ إسم سارة مرّتَين أثناء نومكَ! وتأكّدتُ مِن شكوكي حين رأيتُها في المحكمة. إنّها حقًّ جذّابة.
ـ وبقيتِ إلى جانبي؟
ـ لأنّني أحبُّكَ وأعلمُ كَم أنّكَ طيّب. حين تعود إلى البيت سنقلبُ هذه الصفحة نهائيًّا ونُتابع حياتنا وكأنّ شيئًا لَم يحصل.... وكأنّكَ لَم ترَ سارة يومًا... فأنا أغارُ عليكَ يا زوجي الحالِم!
حاورته بولا جهشان