أحبَبتُ لصًّا

حسبتُ أنّهم على خطأ عندما نبّهوني مِن عماد، لأنّني كنتُ أعتقدُ أنّه عكس ما حكوا لي عنه، على الأقل في المرحلة الأولى. لكن الذي يؤسفني الأكثر، ليس أنّني تزوّجتُ مِن محتال وسارق، بل أنّني، على مرّ الأيّام، صِرتُ أجدُ ما يفعلُه مقبولاً. فقد كان لعماد تأثير كبير عليّ، ربمّا لأنّه أعطاني ما تطلبُه كلّ امرأة: الإنتباه والأمان وحياة جنسيّة ممتازة. وكانت تُحَل مشاكلنا كلّها بالطريقة نفسها، أي بعدما يقول لي زوجي كم أنّه يحبّني، ويجلب لي الهدايا ويُمارس الحبّ معي بشغف. إلا أنّ نهاية علاقة مع هكذا رجل كان لا بدّ لها أن تكون سيّئة، فما مِن خير يأتي مِن سرقة الناس.

كان عماد يملكُ كاراجًا لتصليح السيّارات، لكنّ نمط حياته لم يكن يتماشى مع نوعيّة عمله، أي أنّه كان يملكُ شقّة كبيرة في حيّ جميل وسيّارة سريعة، كما كان يأخذُني إلى أفضل المطاعم والأماكن. بالطبع سألتُ نفسي مِن أين له كلّ ذلك، لكنّني لم أزعج نفسي بالحصول على جواب. فأنا اعتبرتُ أنّ مورد رزقه ليس مِن شأني أو مسؤوليّتي، طالما كنتُ لا أزال امرأة صالحة.

بين الحين والآخر، كان عماد يعود إلى البيت بصحبة أناس مريبين، وكنتُ أبقى في الغرفة إلى حين يرحلون. وعندما أسألُه عمّا تحدّثوا سويًّا، كان يُجيبني: "لا يجدرُ بامرأة بجمالكِ الإهتمام بأمور تافهة... هل قلتُ لكِ اليوم أنّني اشتقتُ إليكِ كثيرًا؟" وكنتُ بالطبع أنسى كلّ شيء حين كان يأخذُني بين ذراعَيه ويُشعرُني بأنّني أغلى ما عنده.

كانت الأموال تتدفّق علينا، وكنتُ أصرفُها على البيت وعلى التسوّق، وعشنا كالأمراء. وكلّما كنتُ أزورُ أهلي محمّلة بالهدايا أو يزوروني في بيتي، كانت أمّي تهزّ برأسها وتتمتم: "هذا لا يجوز"، الأمر الذي حملَني على الإبتعاد عن عائلتي لأتجنّب الملاحظات التي تذكّرني بأنّنا نعيش مِن مال مشكوك به. للحقيقة، لَم أكن أبالي كثيرًا، بل فضّلتُ التمتّع بما كان زوجي "الذكيّ" يجلبُه لنا.

صحيح أنّني لم أكن أحبّ أصدقاء عماد أو حتى زوجاتهم، لكنّني تعلّمتُ أن أعاملهم بلطف وأستقبلهم إلى مائدتي والبسمة على وجهي. وفي تلك الحقبة بالذات، نسيتُ أصدقاء الطفولة الذين حسدوني أو أمتعضوا مِن أحوالي الماديّة.

 


يوم اكتشفتُ أنّ لزوجي عشيقة، إحترتُ في أمري. فمِن جانب كنتُ غاضبة لأقصى درجة، ومِن جانب ثانٍ فكّرتُ بما كنتُ سأخسره لو واجهتُ عماد وخيّرَني بين القبول بالأمر الواقع أو الرّحيل. لِذا قرّرتُ التزام الصّمت والإدّعاء بأنّ زواجي كان مثاليًّا.

كيف وصلَت الأمور بي بأن أقبل بمقاسمة زوجي مالاً مشكوكًا به والتخلّي عن أهلي ومبادئي، والقبول بوجود امرأة أخرى في حياة شريك حياتي؟ أنا التي كنتُ منذ صغري أحبّ وأدافع عن الحق والنزاهة والقيَم الأخلاقيّة؟

مرَّت السّنوات على هذا النحو وكان كلّ منّا سعيدًا بحاله، أي أنّني أصرفُ ما أشاء وأحصلُ على كلّ ما أريدُه، وزوجي يقومُ بأعماله المشبوهة ويُعاشر أيّة امرأة أرادها. وعندما كنّا نلتقي في المساء، كانت الأمور بيننا بأفضل حال، وكأنّنا عرسان جديدان يربط بينهما حبّ عميق. لَم نُرزَق أطفالاً لأنّ عماد لم يكن يُريدُ ذلك، ربّما بسبب نوعيّة عمله الذي كان يُعرّضُه لخطر دائم.

في إحدى الأمسيات، دخَلَ عماد البيت كالمجنون وسحبَني مِن يدي إلى غرفة النوم وأقفلَ الباب علينا. ثمّ أعطاني حقيبة صغيرة قائلاً:

 

ـ خذيها وإذا طلبَها منكِ أحد، أعطِها له مِن دون مناقشة.

 

ـ ما الأمر؟ على ما تحتوي الحقيبة ومَن سيطلبُها منّي؟

 

ـ هذه التفاصيل غير مهمّة. إفعلي ما أقولُه لكِ.

 

وفور انتهائه مِن الكلام، خرَجَ زوجي مِن البيت ولَم أكن أعلم حينها أنّه هرَبَ إلى وجهة مجهولة. حاولتُ فتح الحقيبة إلا أنّ قفلاً متينًا منعَني مِن ذلك، فوضعتُها في خزانة ملابسي وعدتُ إلى تحضير وجبة العشاء.

لكن بعد حوالي الساعة، سمعتُ خبطًا على الباب وأصواتًا تأمرني بفتحه: "إفتحوا على الفور! نحن الشرطة!"

بدأَت رجلايَ بالرّجفان وملأَ الخوف قلبي، فكنتُ أخشى منذ سنين حصول هذه اللحظة المخيفة.

دخَلَ عناصر الشرطة وسألَني الضابط عن عماد، فقلتُ له إنّه خرَجَ ليعود بعد فترة قصيرة لتناول العشاء. ثمّ دخلوا الغرف وفتّشوها ووجدوا الحقيبة. حين سُئلتُ عمّا في داخلها، لم أستطع طبعًا الإجابة، فوضعوها في كيس للادلّة وطلبوا منّي مرافقتهم إلى القسم. إندهشتُ كثيرًا للأمر، فما ذنبي بما حصل أو يحصل؟

بعدما طلبتُ عماد على هاتفه ووجدتُه مقفلاً، إتصلتُ بمحاميه وأخبرتُه أنّني سأكون بانتظاره في القسم، وأنّ عليه إخبار زوجي على الفور بما يجري.

 

تمّ التحقيق معي بشأن عمليّة سرقة مال ومجوهرات مِن بيت أناس أغنياء، ولَم أتمكّن مِن الإجابة عن أيّ سؤال لأنّني لم أكن أعلم شيئًا. بالطبع أدركتُ أنّ عماد هو المسؤول عن تلك السرقة، إلا أنّني لم أفضح زوجي بل بقيتُ مصرّة على إنّني لا أعلم مِن أين أتَت الحقيبة وعلى ماذا تحتوي. وكَم كانت مفاجأتي كبيرة عندما أخبرَني المحقّق أنّهم رفعوا البصمات عن الحقيبة ولَم يجدوا عليها سوى بصماتي! عندها تذكّرتُ أنّ عماد كان يرتدي قفّازات حين سلّمني الحقيبة، وفهمتُ مذهولة، أنّه أرادَ بذلك إلباسي التهمة!

 


إنتابني شعور بالذعر، خاصّة أنّ محامي زوجي لم يُوافيني إلى القسم. فقد كان عماد قد تخلّى عنّي ووجّه الشكوك كلّها إليّ. قادوني إلى السجن بانتظار إكمال التحقيق وتعيين محام لي. وحين رأيتُ باقي السجينات وأمسَيتُ وسطهنّ، بدأتُ بالبكاء لأنّ حياتي كانت قد انتهَت. كنتُ طبعًا بريئة مِن تهمة السرقة، لكنّني كنتُ شريكة صامتة لمجرّد غضّ النظر عن مصدر أموال زوجي. وها أنا أدفع الثمن غاليًا، فليس هناك أبشع على الانسان وخاصّة على امرأة، مِن أن تدخل مكانًا رهيبًا كالسجن.

بقيتُ محجوزة مدّة أسبوعَين كاملَين، لم أرَ خلالهما أحدًا سوى المحامي الذي عمِلَ على التقصّي عن الحقيقة. ولَم يُفرج عنّي إلا بعدما تأكّدوا مِن أنّ لا دخل لي بالقضيّة بفضل تسجيلات الفيديو وإفادات شهود عيان.

أفرجوا عنّي ولكن كان عليّ المثول أمام المحكمة لتهمة التستّر على سارق، فهم لم يُصدّقوا أنّني لا أعلم أين يختبئ عماد.

عدتُ إلى البيت مُنهكة ومكسورة، لا علم لي بالذي سيحدث وكيف سأعيش. وبعد حوالي العشرة أيّام، إستيقظتُ مِن النوم على صوت عماد يقول لي:

 

ـ كَم اشتقتُ لكِ!

 

ـ ماذا تفعل هنا أيّها السّافل!؟! لقد ورّطَني بجريمتكَ! أكرهُكَ!

 

ـ إهدئي يا حبيبتي... أنا هنا الآن. هيّا، إحزمي حقيبة وتعالي معي.

 

ـ إلى أين؟

 

ـ لا يهمّ. لدَيّ الكثير مِن المال، فما كان في الحقيبة الصغيرة لم يكن سوى جزء بسيط مِن الغنيمة. هيّا!

 

وحصَلَ ما لَم أتوقّعُه: قبِلتُ بمرافقة زوجي في حياته كهارب. نسيتُ في لحظة خياناته لي مع نساء أخريات، ونسيتُ توريطه لي بمسألة السرقة ونسيتُ هروبه وتركه لي في أصعب الأوقات. رافقتُه لأنّني كنتُ أحبُّه، ولأنّه كان يعلم ذلك ويعرف كيف يستغلّ ضعفي تجاهه. هل كان يُحبّني؟ أعتقدُ أنّه أحبّني فعلاً وإلّا لَما عادَ ليصطحبُني معه.

هربنا سويًّا وكان بانتظارنا بعض الأصدقاء المريبين الذين أخذونا بحرًا إلى منطقة بعيدة ونائية. لكن قبل وصولنا البرّ، أحاط بنا رجال خفر السواحل وأمرونا بإلقاء المرساة. طلَبَ منّي عماد النزول إلى المقصورة وعدَم الخروج منها وامتثلتُ لرغبته. ولكن بعد دقائق، سمعتُ صوت تبادل نيران كثيف ومِن ثمّ الصّمت التام. علِمتُ أنّ شيئًا فظيعًا قد حصل لكنّني لم أجرؤ على الصعود.

دخَلَ رجال الشرطة المقصورة وأخبروني بأنّ عماد قد مات. لم أتصوّر يومًا أنّ رجلاً مثله قد يموت فعلاً، فأمثاله يتحدّون المصائب ببراعة. بكيتُ كلّ دموعي قبل أن يُكبّلوني ويأخذوني مرّة أخرى إلى القسم. هناك أخبرتُهم كلّ شيء لأنّني فقدتُ السبب لأكذب. سجنتُ بضعة أشهر ومِن ثمّ أطلقوا سراحي. وعند خروجي كنتُ امرأة محطّمة.

واجهتُ صعوبة كبيرة لإيجاد عمل بسبب قلّة خبرتي وسجلّي العدليّ، فمَن كان سيُوظّف إنسانة خرجَت لتوّها مِن السجن؟ عملي اليوم بسيط وأجني بالكاد ما يكفي لطعامي ولدفع إيجار الغرفة التي انتقلتُ للعيش فيها، وحياتي اليوم لا طعم لها ولا لون، وعزائي الوحيد ذكرياتي مع عماد. فعندما تسودّ الدنيا مِن حولي، أقفلُ عينيَّ وأرى بخيالي زوجي وهو يُغازلُني، وأسمعُه يقول لي كم أنا جميلة وكم أنّه يُحبّني.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button