أحبتني أكثر من ابنتها

يوم تزوّج أبي مجدّدًا، خفتُ كثيرًا مِن تلك المرأة التي كانت ستحلّ مكان المسكينة أمّي التي رحلَت مِن هذه الدنيا بسبب مرض خبيث. لكن عندما رأيتُ ابتسامة ردَينة، شعَرتُ بدفء سكَنَ قلبي. رفاقي في الحَي نبّهوني مِن الذي سيحصل لي مع زوجة أبي، أي أنّها ستعذّبني كثيرًا، وترغمني على القيام بكلّ الأعمال المنزليّة كما يجري في القصص التي قرأناها، وإن شاءَت الظروف وكانت تلك المرأة لطيفة معي، فهي ستتغيّر حتمًا حالما تنجب أولادًا منها.

عاملَتني ردَينة وكأنّني ابنتها، والذي ساعدَها على ذلك كان أنّني كنتُ لا أزال في الخامسة مِن عمري، أي بحاجة إلى حنان الأم. عشنا سنتَين جميلتَين حتى علمتُ أنّها حامل وسكَنَني الهمّ. خفتُ كثيرًا من أن أفقد تلك العاطفة الذي حُرِمتُ منها مع موت أمّي، وبتُّ حزينة ومضطربة، أبكي على الدّوام وأرى الكوابيس في الليل. إلا أنّ زوجة أبي استدركَت الأمر، ووعَدَتني بأن تستمرّ في حبّي مهما حصل... ولم أصدّقها، فأيّ إنسانة ستحبّ ابنة امرأة أخرى بقدر ما تحبّ ابنتها؟ فالذي كان في بطنها كانت فتاتًا، وتصوّرتُ كيف ستكون حياتي بعد ولادتها، أي كابوسًا مؤلّفًا مِن تجاهل وكره وعذاب. كانت تلك المولودة ستحظى بكلّ شيء، وينساني أبي وتهملني ردَينة بل تستفيد مِن وجودي لخدمة ابنتها.

أذكر أنّني تمنَّيتُ الموت للجنين، على الأقل قبل أن أرى "أختي" لأوّل مرّة، لأنّني بدَّلتُ رأيي على الفور، فكيف لي ألا أستلطف كائنًا بهذه الرقّة وهذا الصّغر؟ ومنذ تلك اللحظة، قرَّرتُ أن أحميَ وداد مِن كلّ شرّ وأحبّها أكثر مِن أيّ شيء أو أحد.

لم تخلّ ردَينة بوعدها لي، فلم تهملني أو تحب وداد أكثر منّي، لا بل ما حصل كان العكس تمامًا. كنتُ حقًّا المفضّلة لدَيها، الأمر الذي ولَّدَ الاستغراب لدى الجميع. فلقد أحبَّتني زوجة أبي كثيرًا، وأرادَت أن تثبت لي أنّها ليست كباقي النساء اللواتي نسمع عنهنّ، إلا أنّها أخطأت بحقّ ابنتها. فبدأت هذه الأخيرة تشعر بالفرق بالمعاملة، ونما في قلبها حزن سرعان ما انقلب إلى كره تجاهي.

 


بدأت وداد تتصرّف بعدائيّة، وترفض اللعب معي أو التواجد بقربي، وتركض إلى حضن أمّها لتبقى فيه لساعات طويلة باعثةً إليّ نظرات مليئة بالحقد والتحدّي. وبما أنّني كنتُ أكبرها بحوالي الثماني سنوات، كنتُ أبتسم لتلك التصرّفات الولدانيّة وأقول لنفسي إنّ أختي ستشعر يومًا بالأمان معي وتدرك أنّني أحبّها حقًّا.

مرَّت السنوات وتفاقَم الوضع بيننا، الأمر الذي خلَقَ توتّرًا في أجوائنا العائليّة. وأظنّ أنّ ذلك كان السّبب وراء عدم إنجاب والدَيَّ طفلاً آخرًا. فكان مِن الصعب عليهما التعامل مع تصرّفات وداد، ولم يكونا مستعدّين لجلب المزيد مِن المتاعب لنفسَيهما.

كانت ردَينة قد استدركَت خطأها وعدّلَت في معاملتي وأختي، ولكن الأوان كان قد فات ومهما فعلَت مِن أجلها لم تكن وداد مكتفية.

لكن ما لم نكن نتوقّعه هو أنّ أختي كانت ستفعل ما بوسعها للانتقام منّي ومِن أمّها، وبشكل مخيف للغاية.

كنتُ قد أنهَيتُ دراستي الجامعيّة وبدأتُ العمل، وكانت وداد قد أصبحَت في السادسة عشرة مِن عمرها. وبينما اجتزتُ كلّ تلك السنوات بهناء وتفوّق، بقيَت هي ترسب في المدرسة وتتسبّب بالمشاكل. ومِن الواضح أنّها كانت تتدرّب على إيجاد الطريقة المناسبة للوصول إلى درجة قسوى مِن الأذى.

ما لم نكن نعلمه هو أنّ أختي كانت تعرف شبّانًا غير لائقين يتعاطون الممنوعات، إلتقَت بهم أمام مدخل المدرسة حيث يأتون للعثور على فتيات للتسلية معهنّ ولبيعهنّ الحشيشة.

فبدأَت وداد باستعمال المخدّرات خلال جلساتها مع فتيات أخريات حين كانت تتغيّب عن المدرسة. وهذا الأمر سهّل عليها الإيقاع بي في وقت كنتُ قد تعرّفتُ إلى شاب أحَببتُه وقرّرتُ الارتباط به مدى الحياة.

زارَنا جاد مرّات عديدة، ونال اعجاب أبي وردَينة لكثرة جدّيته وحبّه لي، وامتعاض وداد التي رأت أنّ حياتي، كالعادة، أفضل مِن حياتها. لِذا صمّمَت على تسويد صورتي أمام خطيبي وحمله على تركي لتسبّب لي الأسى. فأخَذَت رقمه خلسةً مِن هاتفي، واتصلَت به باكية وشاكية لتخبره أنّ بالها مشغول عليّ، لأنّني منحرفة وأتعاطى الممنوعات على أشكالها مع أناس مشبوهين. بالطبع لم يُصدّقها جاد لأنّه كان يعرفني جيّدًا، إلا أنّها قالت له إنّه يستطيع التأكد مِن كلامها بالتفتيش في حقيبة يدي، فأنا وحسب قولها، لا أخرج مِن دون أن آخذ معي المخدّرات. بالطبع كانت أختي قدّ دسَّت في حقيبتي كيسًا صغيرًا يخصّها وانتظَرَت بفارغ الصبر أنّ يُفضَح أمري.

إستغربتُ كثيرًا عندما طلَبَ منّي جاد أن أريه محتوى حقيبة يدي، خاصّة أنّه كلّمَني بطريقة شبه عدائيّة. وحين امتثلتُ لرغبته، كم كانت دهشتي كبيرة لعثوره على كيس مِن حشيشة. لم أفهم ما كان يجري حتى قال خطيبي:

 

ـ كانت وداد على حق.

 


عندها علمِتُ أنّ لها دخل بما يجري ورجوت جاد أن يُصدّقني. مِن الجيّد أنّه كان على علم بكره أختي لي، فكان قد رأى كيف تتصرّف معي، لِذا قَبِل أن يعطيني فرصة لإثبات براءتي.

ركضتُ كالمجنونة إلى البيت لأجد وداد بانتظاري والبسمة على وجهها:

 

ـ تركَك ذلك الأبله أم بعد؟

 

ـ لماذا هذا الكمّ مِن الشرّ يا وداد؟ ماذا فعلتُ لكِ؟

 

ـ لا شيء وكلّ شيء! أكرهكِ! ولن أتوقّف عند دسّ الحشيشة في أمتعتكِ، بل سأفعل المزيد، سترَين!

 

في تلك اللحظة بالذات، دخَلَت ردَينة التي سمعَت حديثنا، وحاولَت إقناع ابنتها بالعدول عن مخطّطها، إلا أنّها لم تنجح بذلك. عندها اتصلَت زوجة أبي بجاد، وأخبرَته بما سمعَته طالبة منه السّماح على ما فعلَته ابنتها، وواعدة بأنّ الأمر لن يتكرّر. لم تتحمّل وداد فكرة أنّ أمّها دافعَت مرّة جديدة عنّي، واتهمَتها بالخيانة الكبرى، وأنّها لطالما فضّلَتني عليها.

في تلك الليلة، جلستُ مع ردَينة لأواسيها بعدما بكَت كثيرًا على ما آلت إليه الأمور. وحاولنا العثور على وداد التي لم تعد سوى في الصباح لتؤكّد لنا أنّها فكّرَت كثيرًا بما فعلَته وهي نادمة. صدّقَتها والدتها أمّا أنا فلا، فكنتُ أعلم أنّ أختي كتلة بغض وأنّ لا شيء يُمكنه تغييرها، على الأقل ليس بهذه السرعة. لِذا طلبتُ مِن زوجة أبي أخذ حذرها مِن ابنتها، خاصّة بعدما قرّرَت ردَينة إرسال وداد إلى مركز لإعادة تأهيل الذين يتعاطون المخدّرات.

أمّا في ما يخصّني، فطلبتُ مِن خطيبي التعجيل بالزواج كي أبعد قدر المستطاع عن شرّ أختي التي أظهَرَت قدرات مخيفة على الأذيّة. فهي لم تتراجع عن اتهامي بالإدمان وحثّ خطيبي على تركي. كيف لفتاة مراهقة أن تُقدِم على شيء كهذا؟

إحتفلنا بزفافنا بسرعة، وانتقلتُ للعيش مع جاد وارتاح قلبي. إلا أنّ خبرًا أدهشَني كثيرًا بعد أقل مِن أسبوع مِن عودتنا مِن شهر عسلنا: كان أبي قد طَرَدَ ردَينة مِن المنزل وقرَّرَ تطليقها. علِمتُ بالأمر مِن زوجة أبي التي اتصلَت بي باكية:

 

ـ وداد... ليُسامحها الله... أقنعَت أباها بأنّني أخونُه مع أحد الشبّان الذين تعرفهم... صدّقها لأنّ ذلك الشاب إعترفَ له بأنّنا نقيم علاقة منذ فترة وأعطاه تفاصيل مرعبة! حاولتُ الدفاع عن نفسي، لكنّ أباكِ لم يتصوّر أن تكون ابنته بهذا المكر... آه، يا لَيتني أخبرتُه عن المخدّرات وعمّا فعلَته بكِ، إلا أنّني أردتُ حمايتها لأنّني شعرتُ أنّني المذنبة بما آلَت عليه... يا إلهي، ماذا سأفعل الآن؟

 

ـ دعي الأمر لي.

 

وبمساعدة جاد، أقمنا خطّة تقضي بتسجيل كل ما ستقولُه لي وداد بالصّوت حين أذهب إليها لمعرفة ما حصل لأمّها.

ولأنّ الشرّيرين يكونون مشغولين بشرّهم، ويعتقدون أنّهم أذكى مِن غيرهم، لم تتوقّع أختي أنّني سأوقع بها. لِذا لم تتردّد عن الاعتراف بكلّ ما فعلَته بأمّها، وذلك بتفاصيل أكثر مِن مُرضية. شكرتُها على صراحتها، وهي وعَدتني بأنّها لن تتركني وشأني وأنّها ستجلب عليّ الويلات قريبًا. إبتسَمتُ لها قائلة:" لقد وقعتِ في الحفرة التي حفرتِها، والخروج منها سيكون صعبًا جدًّا عليكِ."

نظَرَت إليّ باستغراب، فأشرتُ لها على هاتفي الذي كان مضاءً ففهمَت ما فعلتُه. حاولَت اللحاق بي لأخذه منّي، إلا أنّني غادَرتُ بسرعة إلى أبي الذي استمَعَ بصمت إلى التسجيل.

حين عادَت رُدَينة إلى المنزل، إجتمعنا مع أبي وقرّرنا أنّ على وداد أن تحظى برعاية أناس مختصّين لتشفى مِن إدمانها ومِن عِقَدها النفسيّة.

لذلك جلبنا أمرًا مِن قاضٍ وأدخلناها مؤسّسة خاصّة لتنال الاهتمام اللازم.

لقد مضى على هذه القصّة أكثر مِن سنة ولا تزال وداد موجودة في المؤسّسة. قالوا لنا إنّها تحسّنَت كثيرًا، لكنّني أجد الأمر صعب التصديق. ماذا سيحصل عندما تخرج أختي؟ الوقت وحده سيُقرّر ذلك، إلا أنّني غير مطمئنّة، فالشرّ الذي في قلب وداد أكبر مِن أن يختفي بهذه السرعة.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button