حين عدتُ إلى البيت بعد مراسم دفن والدتي، وجدتُ المنزل فارغًا للغاية. فكنتُ قد أمضَيتُ حياتي كلّها هنا وبرفقة التي أعطَتني الحياة. والجدير بالذكر أنّني إبنة وحيدة وفقدتُ أبي بعد ولادتي بخمس سنوات. إهتمَّت بي أمّي لوحدها، وعمِلَت ليلاً نهارًا لتؤمّن لي حياة كريمة... ولن أشكرُها كفاية على ذلك. مِن ناحية أخرى، هي كانت إمرأة قويّة الشخصيّة يصعبُ التعامل معها. وأنا كنتُ قد تعوّدتُ على طبعها وصِرتُ أعرفُ كيف أتجنّبُ الشجارات التي كانت تفتعلُها لِتُثبِت مكانتها. لكنّني لَم أُدرك أبعاد مزاجها هذا إلا حين صرتُ بسنّ الزواج، إذ وجدتُ أنّ ما مِن رجل سيقبلُ بهكذا حمى إلا إذا بقيَت بعيدة عنه. لكنّ أمّي كانت تنوي التدخّل في كلّ صغيرة وكبيرة كما اعتادَت أن تفعل معي، غير مُدركة أنّ زوج المُستقبل ليس إبنها لكن إبن امرأة غيرها.
أبعَدَت والدتي، عن غير قصد، العديد مِن العرسان، ووجدتُ نفسي أمام الأمر الواقع: لن تدَعَني أمّي أعيشُ حياة مُستقلّة، بل أرادَت أن تحصد الذي زرعَته، أي أن أهتمّ بها لباقي حياتها كما هي اهتمَّت بي.
نمَت في قلبي نقمة تجاه والدتي التي كبَرت وصارَ مزاجها أصعَب مِن قبل، وكَم مِن مرّة تمنَّيتُ أن تكون لي أمٌّ غيرها... أو أن يُخلّصَني الله منها. لكن سرعان ما كنتُ أشعرُ بالذنب وأغفرُ لها كلّ تجاوزاتها.
مرَّت السّنوات مِن دون أن أعي ذلك، إلى حين وجدتُ نفسي قد تخطَيتُ الخمسين مِن عمري وشغلي الشاغل هو إرضاء عجوز مريضة لا ترضى بشيء. كنتُ قد نزعتُ نهائيًّا فكرة الزواج مِن بالي، فلا داعٍ أن أبنيَ أحلامًا لن تتحقّق يومًا. كانت أمّي قد دمَّرت حياتي العاطفيّة أو بالأحرى حياتي كلّها. فلَم أُغرَم ولَم أتزوّج ولَم أنجِبَ. نعم، لقد كنتُ خادمة أمّي ومُسليّتها وكبش محرقتها.
وحين توفّيت أخيرًا، شعرتُ وكأنّ وزرًا ثقيلاً قد أُزيحَ عن صدري.
لكن في تلك الليلة، أي بعد الدفن، إنتابَني خوف لا مثيل له لَم أستطِع فهمه. فلَم أتمكّن مِن دخول غرفة أمّي، لِذا نمتُ في الصّالون على الكنبة وليس حتى في غرفتي. هل كان ذلك شعورًا بالذنب؟ لا، لأنّني لَم أقترِف أيّ ذنب بل قمتُ بواجباتي تجاه أمّي على أكمَل وجه. ولم يكن إنزعاجي منها في بعض الأحيان إلا ردّة فعل طبيعيّة ناتجة عن تراكم طويل للأحداث. إذًا، ما الذي كان يُقلقُني هكذا؟
بعد أيّام، صِرتُ أسمعُ، أو خُيّلَ لي، أنّني أسمعُ صوت والدتي وهي تُناديني مِن غرفتها كما كانت تفعلُ في سنَتها الأخيرة حين صارَت عاجزة عن النهوض مِن الفراش. علِمتُ أنّ الأمر ليس سوى خيال، وأنّ مِن المستحيل أن تكون هي التي تناديني، لكنّني ركضتُ لا شعوريًّا إلى الغرفة لأجدها فارغة طبعًا. وبقيَ صوتُها يُدوّي هكذا كلّ ليلة إلى أن اعتَدتُ قليلاً على الأمر.
تكلّمتُ مع صديقة لي بالموضوع وهي أعطَتني تفسيرًا لَم يُرضِني. فهي أكّدَت لي أنّ أمّي تريدُ التواصل معي، وما هو أفظَع أنّها تُريدُني أن أنام في غرفتها. أوّلاً، أنا لا أؤمِن بأنّ الأموات تعودُ أو تبقى في المكان الذي عاشَت فيه، وثانيًا لَم أفهَم لِما ستريدُ والدتي أن أنام في غرفتها في حين لَم يحصل ذلك وهي على قَيد الحياة، فلطالما كانت لي غرفة خاصّة بي.
لكنّ اليوم المحتوم أتى، أي حين اضطرِرتُ لِدخول غرفة أمّي لأرتّب أمتعتها وأرسلها إلى جمعيّة خيريّة، مع الإحتفاظ ببعض التذكارات منها. كنتُ خائفة، ربّما بسبب ما قالَته صديقتي، إلا أنّني جلَبتُ علب كرتون عدّة وفتحتُ خزانتها وبدأتُ أجمع فيها الملابس والأغراض. بكيتُ كلّما رأيتُ ما يُذكّرُني بحادثة أو حقبة ما مِن حياة التي قضيتُ معها كلّ سنيني. كنتُ أحبُّ والدتي إلى أقصى درجة، بالرغم مِن امتعاضي منها ومِن طبعها الحاد.
وبعد انتهائي مِن تفريغ الغرفة، أغلقتُ الباب ورائي عازمة على عدَم دخولها نهائيًّا. فما حاجتي لذلك؟ فبيتنا كان كبيرًا وكافيًا لأعيش فيه مِن دون الإقتراب مِن مكان لا يُريحُني.
مضَت الأيّام هادئة، لكنّني بقيتُ لا أستطع النوم في غرفتي، واستمرَّيتُ أنام على كنبة الصّالون حتى صرتُ مُعتادة عليها رغم عدَم ارتياحي على ما كان مُخصّصًا للجلوس وليس للنوم.
لَم أخَف مِن العَيش لوحدي مع أنّ المكان كان موحدًا، ولَم يكن هناك سوى مُفتاح واحد في البيت كلّه، مُفتاح باب الدخول. فوالدتي لَم تكن تحبّ أن تُقفَل أيّة غرفة، الأمر الذي أزعجَني طوال حياتي لأنّه حال دون حصولي على أيّة خصوصيّة.
تابعتُ حياتي بتفاؤل، ولَم أعُد أبالي حين أسمعُ أمّي تناديني وسط الليالي، بل أبتسمُ للأدوار الذي كان يلعبُها عقلي عليّ. فلَن يُقنعُني أحدٌ بأنّ روح والدتي تريدُ التواصل معي!
وحصَلَ ما لَم أحسِب حسابه. ففي إحدى الليالي، وأنا نائمة على كنبة الصّالون، إستفَقتُ على صوت غريب. كان الأمر وكأنّ أحدًا يُحاول الدخول مِن باب البيت. جلستُ على الكنبة وأخذتُ أستمِع إلى ذلك الصّوت، فاتضحَ لي أنّ شخصًا كان فعلاً يُدخِلُ شيئًا ما في قفل الباب بِغرَض فتحه. بدأ قلبي يدقُّ بسرعة فائقة واحتَرتُ فيما عليّ فعله. لَم يتسنَّ لي التفكير طويلاً، لأنّني سمعتُ الباب يُفتحَ بهدوء وصوت دعسات خفيفة. كان اللصّ قد صار في البيت. لكن أين أختبئ؟!؟ وكيف لي أن أتّصل بالشرطة مِن دون أن يسمعَني الدخيل أو يراني، فأنا كنتُ جالسة وسط الصّالون، أي أقدام قليلة مِن باب الدخول.
وفي تلك اللحظة بالذات سمعتُ صوت أمّي يصرخُ عاليًا: "تعالي بسرعة!".
لَم أفكّر بالأمر بل ركضتُ كالمجنونة إلى غرفة أمّي، فما مِن شيء لأخسره إن فعلتُ. دخلتُ الغرفة وأغلقتُ الباب ورائي سائلة نفسي ما نفع ما أفعله، حين وجدتُ أنّ لِباب غرفة أمّي مُفتاحًا! مِن أين أتى ذلك المُفتاح فجأة؟!؟ أدَرتُ المفتاح بسرعة وركضتُ إلى الهاتف واتّصلتُ بجيراني، عالمةً أنّ الشرطة لن تتمكّن مِن الوصول في الوقت المناسب. حصَلَ كلّ ذلك بغضون دقائق قليلة، لكنّني وجدتُ الوقت طويلاً للغاية. حبستُ نفَسي، وبدأتُ أصلّي وأطلبُ مِن والدتي المُتوفّاة حمايتي كما فعَلَت طوال حياتها.
ثمّ وصلَني صدى أصوات مِن وراء الباب، وعلِمتُ أنّ جيراني وصلوا البيت أخيرًا. لَم أجرؤ على الخروج خوفًا مِن اللصّ، وبقيتُ جالسة على سرير أمّي أبكي مِن خوفي الشديد. وسمعتُ طرقًا خفيفًا على الباب ثمّ صوت جاري يقولُ لي: "يُمكنُكِ الخروج الآن".
أدَرتُ المفتاح وفتحتُ الباب لأجد جاري وأخاه يُمسكان برجل لَم أرَه في حياتي أتى ليسرقَني بعدما علِمَ أنّني أعيشُ لوحدي. جاءَت الشرطة بعد أن طلبَتها زوجة جاري، وأُخِذَ اللصّ إلى التحقيق وجيراني للإدلاء بِشهادتهم. حاولَت زوجة جاري إقناعي بالنوم عندهم، إلا أنّني أجبتُها: "أنا هنا بأمان، فلدَيّ مَن يحميني". نظَرت المرأة إليّ بتعجّب ثمّ عادَت إلى بيتها.
ومنذ تلك الحادثة البشعة وأنا أنام في غرفة والدتي. كيف أفسّرُ ما حدَث؟ لستُ أدري لكن مِن الواضح أنّ دخولي الغرفة وإقفالها أعطاني الوقت الكافي للإفلات مِن اللصّ الذي كان، كما اكتشفَت الشرطة لاحقًا، مُسلّحًا. هل نادَتني فعلاً أمّي أم أنّ عقلي هو الذي أوحى لي بذلك؟ هل ظهَرَ فجأة المُفتاح في القفل، أم أنّه كان موجودًا منذ البدء ولَم أرَه، ولأنّني أعرفُ أنّ أمّي لا تحبّ إقفال الأبواب بالمفاتيح فلَم أتحقّق مِن الأمر يومًا؟
صحيح أنّ ليس لدَي أجوبة على تلك الأسئلة، لكنّني أعرفُ أنّ أمّي لو كانت لا تزالُ موجودة لكانت ستحميني مِن اللصّ حتى لو كان ذلك على حساب حياتها.
مضى على هذه القصّة أكثر مِن عشر سنوات، وأنا أعيشُ اليوم حياة هادئة وهنيئة ولا أنسى أن أصّبحَ وأمسّيَ أمّي يوميًّا ، فأنا أقفُ أمام صورتها وأقصُّ عليها أحداث يومي وآخذُ أحيانًا رأيها بأمور عديدة. هي لا تجيبُني بالطبع، لكنّ ذلك يُريحُني طالما أنا مُدركة أنّ والدتي ميتة بالفعل وأنّني أُحيّي فقط ذكرها.
أمرٌ عجيبٌ عليّ ذكره: منذ حادثة اللصّ، لَم أسمَع ولو مرّة واحدة صوت أمّي وهي تُناديني.
حاورتها بولا جهشان