قيلَ لي إنّ صوتي جميل، وعليّ استغلال تلك الموهبة بدلاً مِن اضاعة الوقت في الدراسة. أليس هدَف الدراسة نَيل شهادات لإيجاد عمَل وتحصيل المال؟ وصوتي كان سيقودني إلى المرحلة الأخيرة فورًا! صدّقتُهم مِن دون أن آخُذ رأي أخصّائيّين أو فنّانين، وباتَ الأمر بمثابة هاجِس بالنسبة لي. وفي تلك السنة، رسبتٌ في المدرسة وفي الشهادة الرسميّة، واعتبَرتُ ذلك علامة على وجوب مُلاحقة حلمي. كنتُ في الثامنة عشرة مِن عمري... أي يافِعًا وغبيًّا!
بحثتُ في كلّ مكان عمَّن باستطاعته مُساعدتي في مسيرتي الفنّيّة ولَم أجِد أحَدًا، لكنّني صِرتُ أُغنّي في الأفراح والأعياد مُقابل بعض المال، لأناس لَم يكونوا يكترثون لنوعيّة إدائي بل للأجواء الفرِحة التي أحاطَتهم. وجدتُ نفسي أسير قُرى جاهِلة لا تُقدِّر فنّي، فقرّرتُ ان أقصد العاصمة. هناك سأستطيع ابراز قُدراتي لمَن يُقدِّرها حقًّا. حزَمتُ حقيبة صغيرة وودّعتُ أهلي المليئين بالأمَل في ما يخصّني، وتوجّهتُ إلى بيت أحَد الأقارب الذي انتظرَني بفارغ الصبر لكثرة سماعه عن صوتي الذهبيّ. لكنّ هذا القريب علِمَ على الفور أنّني لَم أكن موهوبًا فخابَ ظنّه، ولن يكون يومًا فخورًا بكونه مِن العائلة نفسها. ونتيجة لذلك، هو طلَبَ منّي بعد فترة قصيرة على قدومي، أن أجِدَ مكانًا آخَر للمكوث فيه. أعطاني الرجُل مُهلة لا تكفي لتدبّر أمري لكنّه نصحَنَي أن أعود إلى قرَيتي وأُتابع دراستي. لَم أصدّق طبعًا تقييمه لصوتي، وحسبتُه غارَ منّي لأنّني كنتُ شابًّا وسيمًا وموهوبًا، على خلافه.
رحتُ أبحَث عن عمَل لدفع إيجار غرفة في فوايي للشبّان، ووقعتُ على مطعم صغير اتّفقتُ مع صاحبه على إحياء سهراته ببعض الأغاني المُسجّلة، أيّ أنّني لن أُغنّي بل أُحرِّكَ فقط شفتيّ مع الموسيقى وصوت المُطرب الأساسيّ. هو أرادَ فقط عرض وسامتي على مسرحه الصغير. قبِلتُ بالعرض على مضض، فما عسايَ أن أفعَل؟ هل اعودُ إلى قريَتي؟ بالطبع لا!
بدأتُ العمَل في ذلك المطعم، الأمر الذي ساعدَني على دفع ثمَن تلك الغرفة الصغيرة التي صارَت مقرّي الدائم، والتي حلِمتُ فيها بمُستقبلي الواعِد. وسرعان ما صِرتُ أعرفُ الجميع هناك، مِن العاملين إلى الزبائن الدائمين. ومِن بينهم السيّدة نغَم، إسم أوحى لي بالكثير، وكأنّه كان ملكي، ألَم أكن ملَك الأنغام كلّها؟ ونغَم كانت مِن إحدى مُعجباتي، ربّما لأنّني كنتُ شابًّا صغيرًا ووسيمًا وكان مِن الواضح أنّني أبحَث عن طريقة لبلوغ نجاحٍ بعيد المنال. بكلمة، كنتُ مُثيرًا للشفقة. وفي كلّ ليلة، كانت نغَم تجلس إلى الطاولة الأماميّة وتصفّق لي بقوّة. وأعترفُ أنّ ما فعلَته أعطاني حماسة كبيرة مع أنّني لَم أستعمِل صوتي، وتصوّرتُ كَم سيكون اعجابها بي إن أُتيحَت لي الفرصة للغناء فعليًّا.
وذات مساء، طلبَتني نغَم إلى طاولتها، وقدّمَت لي العشاء بعد أن انتهى عرضي. في البدء لَم أشأ القبول، لكنّ صاحب المطعم همَسَ في أذني: "عليكَ القبول، فهي مِن أهمّ زبائننا... كن ذا فائدة ولو مرّة واحدة!". لَم يُعجِبني كلامه، لكنّني انصَعتُ له وجلستُ مع السيّدة لآكُل معها، بينما هي سألَتني مئة سؤال عن نفسي، فهي كانت تريد معرفة كلّ شيء يخصّني وكأنّها تكتشِف قارّة جديدة. وعندما إنتهَيتُ مِن الأكل، قالَت لي نغَم: "أُقيمُ حفلاً في بيتي لبعض الأصدقاء وأريدُكَ أن تُغنّي لنا... سأدفعُ لكَ الكثير، فمِن الواضح أنّكَ بحاجة إلى المال". قبِلتُ بسرعة، ليس بسبب المال بل لأريها أنّني قادر على الغناء لوحدي. أخذتُ منها العنوان والتاريخ، ورحتُ إلى غرفتي لأتمرَّن قدر المُستطاع على أحدَث الأغاني.
وفي اليوم المذكور، أخذتُ الميكرفون الذي لَم يكن يُفارقُني ومُكبِّر للصوت مِن المطعم، وقصدتُ بيت السيّدة الذي كان جميلاً للغاية. للحقيقة، كان البيت يشبه القصر، وحسبتُ نفسي في أحَد الأفلام التي كنتُ أشاهدُها. هناك، كان بانتظاري عدَد مِن الناس بملابس أنيقة، فخجلتُ مِن نفسي. لكنّ نغَم أخذَتني جانبًا وأعطَتني بدلة جميلة وحذاءً جديدًا وساعة باهظة الثمَن. وعدتُها بأن أٌحافِظ على تلك الأشياء وأن أُعيدُها إليها فور انتهاء العرض، وهي ضحِكَت عاليًا قائلة: "لا لزوم لإعادتها، صدّقني".
لَم أفهَم تمامًا لماذا ضحِكَ الجميع حين بدأتُ بالغناء، وحسبتُهم فرحين بالأغاني، لِذا لَم أتوقّف خاصّة أنّ نغَم حثّتني على المواصلة. غنّيتُ لساعات ولَم أتوقّف إلا لتناول العشاء بسرعة وبعض المُرطّبات. شعرتُ بالقوّة والنجاح، وبأنّني لَم أخذِل صاحبة البيت بل العكس. كان مِن المؤكّد أنّ أصحابها سيُريدون هم أيضًا أن أُغنّي بسهراتهم وأنّني سأكون مشهورًا قريبًا!
لدى انتهاء السهرة أعطَتني نغَم أجرَتي وشكرتُها كثيرًا، إلا أنّها عرضَت عليّ النوم في بيتها لأنّ الوقت كان مُتأخّرًا. تردّدتُ كثيرًا، فهي كانت تعيش لوحدها ولَم يكن يجوزُ أن أنام عندها، إلا أنّها كانت بسنّ والدتي ووعدَتني بإعطائي غرفة لوحدي. وجدتُ على السرير ثياب نوم أنيقة ارتدَيتُها، ودخلتُ سريرًا لن أرى مثله مرّة أخرى! نِمتُ كالملَك ورأيتُ أحلام عظَمة ونجاح. هل أنّ القدَر بدأ يبتسمُ لي؟ شكرًا يا ربّي!
إستيقظتُ في اليوم التالي مُفعمًا بالحيويّة، لأجِد فطورًا ملوكيًّا بانتظاري في غرفة الطعام. لَم أجِد نغَم وبدأتُ بالأكل بشهيّة.
تحضّرتُ للرحيل بعد أن وضعتُ ملابسي الجديدة والحذاء في كيس، فظهرَت نغَم وأنا عند الباب صارِخة: "أين تظنّ نفسكَ ذاهب؟ أنتَ هنا في بيتكَ، أم تُفضِّل غرفتكَ الصغيرة؟ أستطيع تأمين حياة مُريحة لكَ ونجاحًا مؤكّدًا. أعِد أمتعتكَ إلى الخزانة، هيّا". للحقيقة، حتّى ذلك الحين، حسبتُها حقًّا كأمّ لي، لكنّها أضافَت: "بدءًا مِن هذه الليلة، ستنام في غرفتي، فأنا أنتظرُ ضيوفًا سيمكثون في الغرَف الباقية". لَم أعرِف ما عليّ قوله أو فعله، لكن كان مِن الصعب الوقوف في وجه امرأة كنغَم. أمِلتُ أنّها لا تتوقّع أن ننام في السرير نفسه. لكن لدى دخولي غرفتها، وجدتُ سريرًا واحدًا كبيرًا، وفهِمتُ ما كانت تُريدُه منّي. لِذا تركتُ الهدايا وركضتُ خارجًا بسرعة مِن دون أن أنظر ورائي.
وفي المساء نفسه رحتُ إلى المطعم لأقومَ بتأدية أغانيّ المُعتادة، إلا أنّ صاحب المكان قالَ لي بجفاف: "لَم نتّفِق أن تُثيرَ غضب الزبائن. إرحَل مِن هنا، فلا يسعُني فقدان زبونة كالسيّدة نغَم. ماذا فعلتَ لها؟ يا لكَ مِن مُغفَّل! أتَت لكَ فرصة ذهبيّة وأنتَ ضربتَ بها عرض الحائط. عُد إلى حيث أتَيت!". للحقيقة، سئمتُ سماع تلك الجملة، فلن أعودَ إلى قريَتي مهما كلّفَ الأمر. لِذا، توسّلتُ الرجُل لإعطائي فرصة أخيرة، واعدًا إيّاه أنّني سأكون لطيفًا مع نغَم وأمثالها. عندها أمسَكَ الهاتف وخابَرَ المرأة، مؤكّدًا لها أنّني سأكون مُطيعًا ولطيفًا.
جاءَت السيّدة كعادتها ونظرَت إليّ بعتاب واضح، فتوجّهتُ إلى طاولتها بعد انتهاء العرض، وجلستُ معها بعد أن اعتذرتُ منها لتصرّفي الفظّ حين تركتُ منزلها. أمّا هي، فنظرَت إليّ بحنان وقالَت: "كَم أنّكَ جذّاب حين تتصرّف كالصبيّ الضائع. ستنام في بيتي الليلة، أليس كذلك؟". قبِلتُ عرضها لأنّني كنتُ مُجبرًا على ذلك وليس أكثر.
دخلتُ غرفة نغَم ونمتُ على سريرها وحصَلَ بيننا ما حصَل.
ومنذ ذلك اليوم، أصبحتُ "لعبتها"، أيّ أنّها أخذَتني إلى أفخَم المحلات واشترَت لي ما طلبَته نفسي، وعرّفَتني على كلّ الذين تُعاشرهم مِن أصدقاء ورجال أعمال. لكن ما مِن مرّة هي أثارَت موضوع صوتي وغنائي، الأمر الذي أغضبَني. وحين كنتُ أسألها عن الأمر كانت تُغيّر الموضوع.
مضَت سنة على هذا الحال، وكذبَت خلال تلك المدّة على أهلي ومعارفي، قائلاً لهم إنّني أشقُّ طريقي في الطرَب بينما لَم أُغنِّ ولو أغنية واحدة. لَم أكن سعيدًا مع نغَم، فلَم أجِد لدَيها أيّ شعور حقيقيّ تجاهي، بل فقط فخرًا بمُصاحبة شاب وسيم يفعلُ كلّ ما أرادَته. صحيح أنّني عشتُ بطريقة فاخِرة وهي أخذَتني إلى أماكن لَم أكن أتصوّرها موجودة، إلا أنّ كلّ شيء كان زائفًا كحياتها. وتفاجأتُ بنفسي أٌفكِّر بحياتي بين أهلي وكَم أنّني كنتُ سعيدًا آنذاك.
لِذا قرّرتُ في أحَد الأيام أنّ الوقت قد حان لأرحَل وأضَع حدًّا لتلك المهزلة، لكن ردّة فعل نغَم كانت عنيفة:
ـ تُريدُ تَركي؟ تَركي أنا؟ مَن تخالُ نفسكَ؟ هل اعتقدتَ حقًّا أنّكَ مُميّز؟ أنتَ لست سوى قرويّ جاهل ومغرور. أنتَ مُطرب؟!؟ دعني أضحك! لولايَ لبقيتَ في غرفتكَ الحقيرة تحرّك شفاهكَ لأغاني غيركَ. على كلّ الأحوال، بدأتُ أسأمَ منكَ، فليس هناكَ مِن شيء فيكَ مُثيرًا للاهتمام. للحقيقة، عاشرتُ شبّانًا أكثر حيويّة منكَ، صدّقني، والمال الذي صرَفتُه عليكَ ذهَبَ سُدىً. هيّا، أخرج مِن بيتي ولا تنسَ ترك ما جلبتُه لكَ هنا! هيّا!
خرجتُ مِن بيت نغَم كما دخلتُ، أيّ مِن دون شيء، لكن مع كرامتي وعنفواني. شعرتُ بالخزيّ حيال ما فعلتُه مع تلك المرأة، وكيف أنّني قبِلتُ ان تلبسَني وتُطعمَني، عالمًا تمام العلم أنّ ما أفعله كان يُعتبَر حرامًا. حبّي للشهرة ولإثبات موهبتي لنفسي وللناس طغى على كلّ شيء، وكأنّني لا أملكُ أيّ خيار آخَر. كان قد حان الوقت لأواجِه الحقيقة المُرّة: لَم أكن مُطربًا ولن أكون. صدّقتُ مَن كان يملأ رأسي بالأوهام، صدّقتُ أنّ حياتي تتمحوَر حول الغناء وحسب، ناسيًا أنّ ربّما لدَيّ خيارات أخرى. ربّما وجدتُ الغناء وسيلة سهلة للوصول إلى الشهرة والمال، بدَلًا مِن التعَب لتحصيل العلم وإيجاد عمَل شاق ولكن مُجدٍ. لماذا لا أعود إلى دياري وإلى المدرسة؟ لكن ماذا سأقول للناس هناك؟ إنّني فشِلتُ؟ يا للعار!
بقيتُ في العاصمة أنتقّل مِن مطعم لآخَر، إلى حين اقتنعتُ أنّ مكاني ليس هناك بل عند أهلي وأصحابي. وفهمتُ أنّ اعترافي بفشَلي كان لا بدّ منه لأواجِه الواقِع وأستطيع البدء مِن جديد. تبًّا للكبرياء، فعلى كلّ حال كنتُ قد دستُ عليه مرّات عديدة مع نغَم.
إستقبلَني أهلي بأذرع مفتوحة ولَم يسألَني أحَد شيئًا، ربّما لعدَم اخافَتي ودفعي على الرحيل مُجدّدًا. هم فهموا أنّني فشلتُ لكنّهم لَم يتصوّروا أبدًا كيف قضَيتُ السنة التي فاتَت. وأنا لَم أقُل لهم الحقيقة لكثرة خجَلي.
أعدتُ سنتي المدرسيّة وبالكاد نجحتُ فيها لكنّني لَم أستسلِم. دخلتُ الجامعة في المدينة المُجاورة لدراسة فنّ المسرَح والاخراج، وهو اختصاص كان يستهويني بالفعل.
أنا اليوم مُخرج ولدَيّ اسم معروف في بلَدي ولا أحَد يعلَم قصّتي. لَم أتزوّج بعد لكثرة انشغالي بمهنتي، بعد أن فهِمتُ أنّ على المرء أن يتعَب ليصل إلى أحلامه. إتّصلَت بي نغَم بعد أن علِمَت بنجاحي طالبةً منّي المجيء إلى بيتها "لنتكلّم"، لكنّني رفضتُ دعوتها وحظرتُها. يا للمرأة البغيضة! هي تصطاد الشبّان الضائعين لتتسلّى بهم، قَبل أن ترميهم مِن أجل غيرهم. تمامًا كما يفعل الرجال الأثرياء مع صبايا يافعات، فيُلوّحون لهنّ بحياة فاخِرة فتقَعنَ بالفخ وتخسَرنَ كرامتهنّ للأبد. يا لَيت الجميع يَعي قدراته كما حصلَ معي!
حاورته بولا جهشان