ليس هناك مِن عذاب أقوى مِن فقدان ولد. وبذلك أعني فعلاً الفقدان وليس الموت. فبالموت تعرف الأم أنّ ولدها رحلَ إلى الأبد وحزنها يكون في محلّه أمّا أن يختفي مِن أمام عينَيها ولا تعرف أين هو فذلك بمثابة جحيم تعيشه يوميّاً.
وقصّتي هي صرخة أمّ أمام ظروف قاسية واتهامات وشكوك وصراع دائم لا ينتهي إلاّ بمعرفة الحقيقة. فحين وُلِدَ هاني اعتبَرناه هديّة مِن الله لأنّه جاء بعد سنين مِن الانتظار وحين كنّا قد فقدنا الأمل ونفكرّ بجديّة بالتبنّي. وفي ذاك نهار اكتشفتُ أنّني حامل وكانت لحظة لن أنساها طيلة حياتي.
وبعد حمل صعب سمعتُ صوته حين تنشّقَ الهواء لأوّل مرّة وتدفّقَت دموعي ودموع زوجي الذي كان يمسك بيدي أثناء الولادة. وحين وضعوه على صدري نظرتُ إلى ذلك المخلوق الضعيف والصغير وهمستُ له بأنّني سأفعل ما بوسعي لأحبّه وأحميه مِن أيّ أذى. وركضَ الأهل والأصدقاء للتهاني وذهلوا لجماله بسبب عيونه الملوّنة والشعر الأشقر الذي كان يحيط وجهه الجميل. وخفتُ كثيراً عليه مِن الحسد لأنّني كنتُ ابنة عائلة تعتقد بهذه الأمور رغم ثقافتي الواسعة وشهادتي بالعلوم. ولم أكن أعلم حينها أنّ الخطر لا يأتي مِن الشعوَذة التي لا تأثير فعليّ لها بل مِن الناس وأفعالهم على الأرض.
وبعد أن بلَغَ هاني سنته الأولى بدأتُ أخرجه بِعربته إلى العالم بعدما تأكّدتُ بأنّه قطَعَ مرحلة التأثّر بالعَين. وككل أمّ تفتخر بنفسها وبوَلدها كنتُ أحب أن يوقفني الناس في الأسواق التجاريّة ليتغزّلوا بجمال ابني وهكذا لا حظه هؤلاء العديمين الشفقة. فكما قلتُ سابقاً كنتُ أعتبر أنّ الخطر يأتي مِن النوايا فقط وليس مِن الأفعال فلم أتوقّع أبداً أن يُخطف ولدي لِذا لم ألاحظ انّني وفي كل مرّة أخرج مع هاني كنتُ ألتقي بالثنائيّ نفسه. ومع الوقت اعتبرتُها صدفة لطيفة خاصة أنّ والد المرأة كان معها ما أثّر جداً بي بعدما فقدتُ والدي قبل ثلاث سنوات. وصرتُ أنتظر هذا اللقاء مع هؤلاء الناس لتبادل بعض الكلمات معهم ومِن ثم أتابع تسوّقي.
وفي أحد الأيّام طلبَت منّي المرأة أن أرافقها إلى إحدى المحلات لتأخذ رأيي في ملابس تريد شراءها لنفسها وقبِلتُ بسرور. وبقيَ زوجها وأبوها في الخارج ريثما ننتهي. وبدأَت باختيار القطع ودخلَت لتقيسها بينما انتظرتُها مع هاني وراء الستار. وإذ بها تطلب منّي الدخول إلى غرفة القياس وقالت لي:
ـ اتركي الولد مع زوجي... المكان لا يتّسع لعربة أطفال.
ونادَيتُ بنفسي الرجل وسلمّتُه ابني وركضتُ أساعد زوجته. ولكن عندما خرجنا لم نجد الرجلَين أو ابني وأخذنا نفتّش عليهم في المجمّع. ولم يخطر على بالي أيّ سوء خاصّة بعدما قالت لي المرأة مازحة:
ـ لا بّد أنّهما ضجرا مِن الانتظار... تعرفين كم يكره الرجال التسّوق.
ومِن ثمّ أضافَت:
ـ سأذهب باتجاه هذا الجناح وأنتِ خذي الآخر... سنرى مَن يجدهم قبل الأخرى.
وفعلتُ كما أمَرَتني وغابَت المرأة عن نظَري. وبالطبع لم أجد أحداً لأنّهم كانوا قد أخذوا ولدي وفرّوا بعيداً. وبعد ساعة قضيتُها أبحث عنهم في كل مكان توجّهتُ إلى مكتب الإستعلامات وطلبتُ منهم أن ينادوهم عبر المذياع. ولم يأتِ أحد. عندها خفتُ كثيراً وبدأتُ أصرخ بأنّ ابني ضاعَ أو خُطِفَ. وجاء رجال الأمن وفتّشوا بكل أنحاء المبنى الضخم دون جدوى. عندها طلبنا الشرطة التي جاءَت وأخَذَت إفادتي وشرح عن ملامح الخاطفين. وكنتُ في تلك الأثناء قد اتصلتُ بزوجي باكية ووافاني بسرعة إلى المجمّع وعندما أخبَرتُه بالذي حصل نظَرَ إليّ بِغضب وقال:"كيف تسلّمين ابننا إلى غرباء؟" ما زاد مِن حزني وإرباكي. فعندما أفكّر بالذي فعلتُه أراه حماقة كبيرة ولكن في ذلك الوقت وجَدتُ الأمر بسيطاً ربمّا لأنّ هؤلاء الناس عرفوا كيف يطمئنون بالي حيَالهم بالتصرّف كأيّ شخص يودّ المساعدة.
ولو سألَني أحد يوماً إن كنتُ قادرة على ترك ابني مع أناس لا أعرفهم لصَرَختُ:"طبعاً لا!". وقال لنا المحقّق أنّ علينا الانتظار لنرى إن كانوا سيطلبون فدية ولكن في قرارة نفسي كنتُ أعلم أنّ ما يسعون وراءه ليس المال بل هاني لأنّني رأيتُ بنفسي كيف كانت المرأة تداعب ابني أي بحنان وحبّ. وفهمتُ حينها أنّها تريده لها ربما لأنّها لم تكن قادرة على الإنجاب واعتبرَت أنّ مِن حقّها أخذ أولاد الناس.
وبدأ جحيمي. ولم أعد قادرة على الأكل أو النوم وأنا أفكّر بهاني وأسأل نفسي إن كان بخير أم لا وإن كان الخاطفين يعاملونه بلطف. وموقف زوجي منّي وكل مَن أحاط بي لم يساعدني فالكل اعتبرَني مسؤولة عمّا جرى وكانوا على حقّ. ولكن ما مِن أحد فكّرَ بالعذاب الذي كنتُ فيه على فقدان فِلذة كبدي وشعوري بالذنب.
وأعطاني الطبيب الأدوية المناسبة لهكذا حالة ولكن ما مِن شيء استطاع تخفيف ألَمي. وانعزلتُ عن الناس وبقيتُ في البيت قرب الهاتف أنتظر مكالمة مِن الخاطفين أو مِن الشرطة متجنّبة عائلتي وجيراني وكل التعليقات البشعة والأسئلة المحرجة. وكان يأتي زوجي كل يوم بإخبار مِن أحد زملائه أو أقاربه بوجود ابننا في مكان معيّن وكان المسكين يركض ليتحقّق مِن الأمر. ومرَّت سنة بكاملها على هذا النحو وكنتُ قد أصبحتُ شبه مجنونة أجلس ساعات في غرفة ابني وأحضن ملابسه وألعابه وابكي بمرارة على حماقتي. وفي أحد الأيّام وجَدتُ أمام الباب رسالة تقول:
ـ أعرف أين ابنكِ... اتّصلى بهذا الرقم في تمام الساعة الرابعة بعد الظهر... ايّاكِ أن تخبري أحداً بالأمر!
وقرّرتُ أن أتحقّق مِن الأمر بالرغم أنّني اعتبرتُ الأمر إمّا دعابة وإمّا إحدى الإشاعات الكاذبة أو المغلوطة التي كانت تردِنا. وانتظرتُ الموعد المحدّد واتصلتُ بالرقم المذكور. وسمعتُ صوتها. كانت تلك المرأة هي نفسها التي خطَفَت ابني. وقالت لي دون مقدّمة:
ـ لَديّ هاني...
ـ ماذا تريدين مقابل إعادته لي؟ أطلبي أيّ شيء... أيّ شيء!
ـ لا أريد شيئاً منكِ... اسمعي... الولد ليس سعيداً معنا... بالكاد يأكل... ورغم سنّه الصغير يعلم أنّني لستُ أمّه...
ـ لماذا أخَذتيه منّي؟
ـ لأنّني حُرِمتُ مِن الأطفال... لستُ إنسانة شريّرة... غريزتي تفوّقَت على كل شيء... كل ما أردتُه هو طفلاً...
ـ لماذا إخترتِ هاني بالذات؟
ـ لأنّه جميل... ولأنّه يشبه أبي... الرجل الذي كان معنا ليس أبي الحقيقيّ بل رجل جلبناه ليساعدنا على أخذ الولد... أعني ليتصرّف في حال لم تجرِ الأمور كما يجب.
- أتوّسل أليكِ أن تعيدي لي هاني... سأقول وأفعل ما تريدينه! ليس لديكِ أولاداً لتعلمي في أيّة حالة أنا... أرجوكِ...
ـ لا داعي لذلك... سأعيده لكِ... هذا سبب اتصالي بكِ... لن يكون هاني ابني يوماً... مكانه معكِ... زوجي لا يعلم أنّنا نتحدّث الآن... تعالي إلى المجمعّ نفسه... الآن!
وركضتُ كالمجنونة وعيوني مليئة بالدموع والأفكار تتخبَّط برأسي: هل يُعقل أنّها ستعيد لي فعلاً ولدي أم أنّها تعذّبني لتطلب منّي المال لاحقاً؟ وحين وصلتُ إلى مدخل المجمعّ رأيتُ هاني في عربة يأكل الحلوى وكان قد خسَّ فعلاً ولكنّه كان بخير. وكانت المرأة واقفة بجانبه وتنظر إليّ بخجل. قالت لي حين اقتربتُ منهما:
ـ خذيه وارحلي قبل أن أغيّر رأيي!
ووضعَت قبلة على رأس هاني ورحَلَت. وعانقتُ ابني وقبّلتُه مئة وألف مرّة وبكيتُ دموعي كلّها وعدتُ به إلى البيت. وبعد أن أطعمتُه ووضعته في سريره خابرتُ زوجي وطلبتُ منه أن يأتي في الحال. وحين دخَلَ المنزل ورأى الضحكة على وجهي صرخَ:"وجدتيه!" وعانقتُه وهمستُ في أذنه:"إنّه في غرفته... لا توقظه!"
وركضَ المسكين ووقَفَ أمام السرير وبدأ بالبكاء وكأنّه هو الطفل. وقفتُ قربه ووضعتُ ذراعي حول خصره ورأسي على كتفه وقلتُ:"ها نحن مجتمعين كالسابق... حياتنا تبدأ الآن."
حاورتها بولا جهشان
