عندما أجرَيتُ مقابلة لنَيل مركز في تلك الشركة، سُرِرتُ لدى معرفتي بأنّ المديرة هي امرأة، فقد كنتُ سئمتُ مِن المدراء وتحرّشهم بموظّفاتهم أو تفضيل إحداهنّ على الأخريات لأنّها تتودّد إليهم، لا بل أكثر مِن ذلك.
قُبِلتُ على الفور بسبب خبرتي العميقة والشركات المعروفة التي توظّفتُ فيها، وبدأتُ العمل بعد أيّام قليلة. كانت مسؤوليّاتي عديدة وكبيرة وكان مرجعي هو أعلى الهرم، أي السيّدة وهيبة.
كانت المديرة قد زارَتني في مكتبي لترحّب بي وتعطيني التعليمات اللازمة، ووجدتُها لطيفة وذكيّة جدًّا. ولأنّني مِن الدّاعمات لتقدّم النساء في مجال الأعمال، إفتخَرتُ بها أيضًا. ومع أنّ سنّي كان يُناهز سنّها، إعتبَرتُها قدوة لي ووعَدتُ نفسي بأن نشكّل سويًّا ثنائيًّا فعّالاً.
جرَت الأشهر الأولى بشكل ممتاز، وكنتُ قد اعتدتُ على المكان والموظّفين وسَير العمل بالإجمال، وساهَمتُ في هذا الوقت القليل بارتفاع إيراداتنا. حصَلتُ على التهاني، وسمِعتُ مِن بعض الزملاء أنّني مِن بين المرشّحين لاستلام مكان وهيبة التي كانت ستترك العمل قريبًا للالتحاق بفرعنا الأساسيّ بنيويورك.
بالطبع طرتُ مِن الفرح، لأنّني رأيتُ بذلك تتويجًا لسنين طويلة مِن العمل الدّؤوب الذي حرَمَني مِن تأسيس عائلة خاصّة بي. لم أكن آسفة على شيء، فلطالما فضَّلتُ الحياة العمليّة على العائليّة، ولكنّني كنتُ أودّ أن أثبتَ للعالم بأسره أنّني لم أخطئ الاختيار، فمجتمعنا الشرقيّ لا يرى المرأة سوى أداة لذّة للرجل ومكينة إنجاب. لا تخطئوا فهمي، فأنا أكنّ لستّ البيت إحترامًا فائقًا، ولكن يجب أن يكون لنا حريّة انتقاء مجرى حياتنا.
فكرة الترقية أعطَتني دافعًا أكبر بعد للعمل ليلاً نهارًا، وأهمَلتُ ذويّ وأصدقائي وحرمتُ نفسي مِن أيّة حياة إجتماعيّة. كان الأمر يستحقّ هذه التضحيات، خاصّة أنّني قرّرتُ أن أرتاح قليلاً فور حصولي على منصب المديرة.
ولكن كما يُقال لا تجري الرياح كما تشتهي السفن. وحَدَث أن وصَلَ إلى الشركة شاب جديد إسمه توفيق ليعمل كمساعدي الخاص بعدما شعَرَت وهيبة أنّني أُتعِب نفسي كثيرًا. شكرتُها على هذه اللفتة وأخذتُ أطلِع مساعدي على أسس عملنا.
إستغرَبتُ بعض الشيء أن تأتي المديرة بموظّف جديد، فقد كان بإمكانها أن تخصّص لي إحدى السكرتيرات اللواتي كنّ معتادات عليّ وعلى الشركة، ولكنّني نسيتُ الموضوع بسرعة.
كان توفيق مجتهدًا ويتعلّم بسرعة، وبتُّ أتّكل عليه بأمور عديدة ولكن بسيطة لأنّني لم أرد أن أجازف بكلّ الذي بنَيتُه.
وذات نهار إستَدعَتني وهيبة إلى مكتبها الفخم وقالت لي:
ـ لا أدري إن كنتُ قد قلتُ لكِ ذلك مِن قبل ولكنّني ممتنّة كثيرًا مِن أدائكِ.
ـ شكرًا سيّدتي... هذا مِن لطفكِ.
ـ إنّها الحقيقة، فمنذ مجيئكِ أشعر أنّني أستطيع فعلاً الاتّكال على شخص كفوء.
خرجتُ مِن مكتبها فرحة جدًّا، فذلك كان يعني أنّها تدرك أنّني الوحيدة التي بإمكانها الحلول مكانها. وأذكر أنّني وعدتُ نفسي بأن أشتري سيّارة جديدة فور حصولي على أوّل راتب كمديرة.
ولكن صفو سعادتي تعكّر عندما دخَلَت أمّي المشفى للخضوع لعمليّة كبيرة جدًّا، واضطرِرتُ لأخذ اجازة. وكانت تلك أوّل مرّة بحياتي أغيب عن عملي. قلتُ لنفسي إنّ الأمر لن يطول وإنّ والدتي ستتعافى بسرعة، ولكنّ الواقع كان مخالفًا خاصّة أنّها التقطَت بكتيريا في غرفة العمليّات، وتمّ نقلها بسرعة إلى العناية الفائقة وأصبحَت أيّامها بخطر بسبب سنّها المتقدّم. جاءَت أختي المتزوّجة لتحلّ مكاني بالقرب مِن أمّي، ولكن تلك الأخيرة بقيَت تطالب بي لأنّها كانت معتادة على وجودي معها في البيت. وأمام خطورة الوضع، لم أعد أبالي بأنّني بعيدة عن عملي لأنّ كانت صحّة وحياة والدتي أهمّ مِن كلّ شيء.
مرّ حوالي الشهر على هذا النحو، ومِن ثمّ استطعتُ العودة إلى الشركة. وكم تفاجأتُ عندما رأيتُ توفيق جالسًا على مكتبي ويستعمل حاسوبي وملفّاتي:
ـ ماذا تفعل هنا؟ لِما لستَ في مكتبكَ؟
ـ كنتِ غائبة وارتأت السيّدة وهيبة أن أتابع ملفّاتكِ.
ـ ولكنّكَ لستَ مؤهّلاً لذلك! أنت مساعدي وبالكاد تعرف مبادئ العمل.
ـ تعلمّتُ منكِ... أقصد راقبتُكِ عن كثب وها أنا أقوم باللازم.
ـ وها أنا قد عدتُ!
كنتُ مستاءة جدًّا فقد كان باستطاعة أي موظّف قديم الحلول مكاني مؤقتًّا. وركضتُ أدقّ باب وهيبة. دخلتُ وقلتُ لها مِن دون أن القيَ التحيّة عليها:
ـ ماذا يفعل ذلك الشاب مكاني؟ هو مجرّد مساعد! إن اقترَفَ أيّ خطأ سندفع الثمَن غاليًا.
ـ صباح الخير! إسمعي... أنا المديرة وأنا أقرَّر مَن يفعل ماذا! أم أنّكِ نسيتِ ذلك خلال غيابكِ؟
ـ أنا آسفة ولكنّ المشهد أثار غضَبي... بالطبع يحقّ لكِ أن تفعلي ما تشائين... إقبلي اعتذاري... لقد مرَرتُ بأسابيع مرهِقة... على كلّ حال أنا عدتُ وكلّ شيء سيأخذ مجراه.
رجِعَ توفيق إلى مكتبه ومركزه وأنا إلى عملي واختفى غضبي.
ولكن بعد شهرَين، وصلَتنا مذكّرة مفادها أنّ وهيبة ستترك الشركة لتذهب إلى الولايات المتحّدة وأنّ... توفيق سيحلّ مكانها. ماذا؟!؟ توفيق، مساعدي؟!؟ ركضتُ كالمجنونة إلى مكتب المديرة، ولكنّ بابها كان مقفلاً مع أنّها كانت في الداخل. كان مِن الواضح أنّها لا تريد التكلّم مع أحد وخاصّة معي. ولكن بعد دقائق إتصلَت هاتفيًّا بي:
ـ أعلم ما تقولينَه عنّي... وأعرف مدى خيبتكِ... أنا آسفة ولكنّني اتخذتُ قراري ولا رجوع عنه.
ـ كيف تسلّمين الشركة لموظّف بسيط؟ صحيح أنّني كنتُ أطمح لمنصبكِ ولكن استمرار عملنا أهمّ مِن كلّ شيء! سيذهب تعَبنا جميعًا مع الريح! ماذا أصابكِ؟
لم تجبني وهيبة بل أقفلَت الخط بوجهي.
رحلَت المديرة وجلَسَ توفيق على كرسيّها وأنا قدّمتُ استقالتي. لم أكن أريد أن أكون جزءًا مِن تلك المهزلة وأتلقّى أوامر هذا الوصوليّ. وبينما كنتُ أجمع أغراضي الشخصيّة مِن على مكتبي جاءَت إحدى السكرتيرات وقالت هامسة:
ـ حصَلَت أمور كثيرة أثناء غيابكِ... أمور تتعلّق بالمديرة وتوفيق... ألم تلاحظي كم هو وسيم؟
ـ للحقيقة لا.
ـ بلى... هو وسيم ويعلم كيف يستفيد مِن ذلك... فور تغيّبكِ، بدأ يقضي وقته كلّه في مكتب المديرة وأحيانًا كانت تقفل الباب بالمفتاح وهو عندها.
ـ لا أصدّق ذلك!
ـ بلى... لماذا إذًا جاءَت به إلى هنا؟ لأنّه جذّاب جدًّا وشاب.... حياة وهيبة الزوجيّة ليست مثاليّة، زوجها فظّ ويكبرها بسنوات عديدة... أقول لكِ الحقيقة.
هكذا إذًا... كانت وهيبة قد فضّلَت توفيق عليّ لأنّه أصبَحَ عشيقها! ولكنّني شكَكتُ بصحّة الأمر لأنّني كنتُ أعلم مدى تعلّق مديرتي بعملها والشركة، وأستبعَدتُ أن تكون قد ضحَّت بما بنَته بسبب نزوة.
علِمتُ مِن السكرتيرة نفسها أنّ وهيبة لا تزال في البلد بانتظار تخليص بعض المعاملات، لِذا قرَّرتُ زيارتها في البيت.
عندما رأتني واقفة أمامها قالت لي:"لنذهب إلى مكان آخر للتكلّم، أعلم لِما أنتِ هنا."
جلسنا في مقهى وقلتُ لها:
ـ وصلَتني أخبار عن... عن علاقة بينكِ وبين توفيق... لا دخل لي بحياتكِ الشخصيّة ولا أحكم عليكِ، ولكن أريد أن أعرف إن كان ذلك هو سبب إبعادي وتدمير الشركة.
إمتلأت عيناها بالدموع وأجابَت:
ـ نعم ولا... صحيح أنّني أصبحتُ "مقرّبة" جدًّا مِن توفيق ولكن لم أكن لأعطيه منصبي لولا...
ـ لولا ماذا؟
ـ أنا امرأة وحيدة جدًّا، زوجي يُهملني منذ سنوات لا تُحصى ولدَيه عشيقات عدّة. وعندما جاء توفيق لتقديم الطلب، وقعتُ تحت تأثيره... واغتنمَ فرصة
غيابكِ ليُقنعني بإقامة علاقة معه، وضعفتُ أمامه فلم أحصل على اهتمام كهذا منذ سنين. ولكنّه لم يكن مهتمًّا بي بل بمركزي، وبدأ يُهدّدني بإخبار زوجي والشركة الأم حيث أنا ذاهبة عنّا. كانت الفضيحة ستقضي عليّ مِن كلّ النواحي، فرضختُ لرغباته.
ـ ودمّرتِ عملنا نحن لإنقاذ نفسكِ.
ـ أجل... سامحيني.
سافرَت وهيبة، وبعد أقل مِن سنة أقفلَت الشركة لأنّها وقعَت في عجز ماليّ بسبب سوء الادارة مِن قِبَل توفيق والذين جاء بهم ليُساعدوه بعد أن طرَدَ كلّ العناصر القديمة.
كنتُ مخطئة عندما سُرِرتُ لأنّ مديرتي امرأة، فالكلّ يُمكنه أن يضعف مهما كان جنسه، وأن ينسى الدنيا بأسرها عندما تلوح أمامه الوعود بالسّعادة.
حاورتها بولا جهشان