كانت أمّي قد سافَرت عند والدتها المريضة في القرية وبقيتُ لوحدي مع أبي. فرِحتُ كثيرًا لأنّني كنتُ مقرّبة جدًّا مِن والدي الذي دلَّعَني ليس فقط لأنّني وحيدته بل لأنّني كنتُ بنتًا ولطالما أحبَّ أن تكون له ابنة ليُعاملها "كالأميرة".
وفي تلك الليلة، كنتُ قد حضَّرتُ لنا العشاء وببالي أن أقضيَ وأبي سهرة ممتعة أمام التلفاز نشاهد فيلمًا. ولكنّ أمّي اتصَلت بي وطلَبت منّي أن أذهب إلى خالتي التي تعيش في المقلب الأخر مِن المدينة لجلب غرض ما. أجبتُها:
ـ الآن؟ إنّها الساعة سابعة ليلاً! لقد حضَّرتُ لأبي طبقه المفضل وأريد أن أفاجئه به وبالفيلم الذي استأجرتُه مِن أجله.
ـ نعم، الآن!
ـ وكيف لي أن أصل إلى بيت خالتي؟
ـ خذي سيّارة أجرة أو الباص... أريد أن يكون هذا الغرض موجودًا غدًا عند عودتي، لا تجادلي وافعلي ما أطلبُه منكِ!
تفاجأتُ كثيرًا بنبرة صوت والدتي وإصرارها، لِذا أخَذتُ سيّارة أجرة مصمّمة على العودة قبل أبي أو على الأقل بعده بقليل.
طلَبتُ مِن السّائق أن ينتظرني، وصعدتُ خمسة طوابق بسرعة فائقة وقرَعتُ الباب. فتحَت لي ابنة خالتي، وقالت لي إنّ أمّها عند أقارب لها وإنّها عائدة بعد حوالي النصف ساعة.
إستأتُ كثيرًا ونزلتُ لأقول للسائق أن يرحل بعد أن دفعَتُ له أجره.
مرَّت أكثر مِن ساعة قبل أن عادَت خالتي التي أصرَّت أن أبقى معهم على العشاء، ولكنّني رفضتُ قطعًا شارحةً لها أنّني حضَّرتُ مفاجأة لأبي وأحتاج إلى العودة بأسرع وقت، وأنّ عليها إعطائي الغَرَض لأمّي كي أتمكّن مِن الرحيل.
أعطَتني خالتي كيسًا صغيرًا جدًّا مختومًا وطلبَت منّي ألا أفتحه، وقدّمَت لي كوبًا مِن العصير وبدأَت تحكي لي عن الأقارب الذين زارَتهم ومِن ثمّ أطلقَت سراحي. كان قد مرّ على تركي البيت أكثر مِن ساعَتين وكنتُ جدّ غاضبة. أقلّني ابن خالتي، ولكثرة عجلتي نزلتُ مِن سيّارته مِن دون أن أشكره.
ولكن عندما أدخَلتُ المفتاح في بابنا لم أستطع فتحه لأنّ أبي كان قد عاد وأبقى مفتاحه في القفل. قرَعتُ الجرس ومِن ثمّ بدأتُ أخبط على الباب مِن دون جدوى. إمتلأت عَينايَ بالدّموع وجلَستُ على السلالم أغلي مِن القهر، آملة أن ينشغل بال أبي عليَّ ويُخرج مفتاحه. ولكنّ ذلك لم يحصل.
بعد حوالي السّاعة سمعتُ المفتاح يدور في الباب وأصواتًا. لا أدري لماذا، ولكنّني أختبأتُ وراء الحائط وإذ بصبيّة تخرج مِن بيتنا بعد أن قبّلَت أبي على فمه. قال لها والدي "إلى اللقاء يا أميرتي" وغابَت الصبيّة عن نظَري، وسمعتُ الباب يُقفل بالمفتاح.
في تلك اللحظة لم أعد أريد رؤية أبي أو حتى العودة إلى الشقّة، كلّ ما أرَدتُه كان إزالة المشهد الذي رأيتُه مِن ذاكرتي.
بكيتُ كثيرًا لأنّ أبي كان خائنًا وأمّي مسكينة. كنتُ قد سمِعتُ قصصًا عديدة عن خيانة الرّجال لزوجاتهم، إلا أنّني لم أتصوّر أبدًا أن يكون والدي مِن هذا الصّنف بل اعتبَرتُه أفضل إنسان في العالم.
سمعتُ صوت المفتاح مجدّدًا في الباب، وعلِمتُ أنّ أبي أخرجَه لأتمكّن مِن الدخول.
إنتظَرتُ قليلاً، ومسَحتُ دموعي، ورسَمتُ على وجهي شبه بسمة ودخَلتُ. كان المكان مظلمًا، وعندما دخلتُ غرفة والدَيَّ وجَدتُ أبي يدّعي النوم ويغطّ بأعلى صوته. ضحِكتُ باستهزاء وقصَدتُ غرفتي لأعاود البكاء.
لم أنَم طوال الليل، وحين دخَلتُ المطبخ في الصّباح وجَدتُ أبي بانتظاري يتكلّم ويضحك وكأنّ شيئًا لم يحصل. سألَني:
ـ كيف كان عشاؤكِ عند خالتكِ؟
ـ وكيف علِمتَ أين أنا؟
ـ أمّكِ قالت لي ذلك.
ـ لم أتناول العشاء عندها.
ـ كيف ذلك؟ أين كنتِ إذًا؟؟؟
ـ أين كنتُ؟ أنتظر خروج عشيقتكَ مِن الشقّة!
إرتبكَ والدي كثيرًا، وكان منظره يدعو للشفقة ولكنّه استعادَ ذاته وقال لي بحزم:
ـ ما هذا الكلام؟ أنا أبوكِ!
ـ وأنا ابنتكَ! إبنتكَ التي رأتكَ تقبّل فتاة مِن سنّي!
ـ رأيتِنا؟ كان مِن المفروض أن تكوني عند خالتكِ.
ـ وكان مِن المفروض أن تكون وفيًّا لأمّي! شاءَت الظروف أن أصرّ على العودة... لقد خذَلتَني يا أبي، إعتقَدتُكَ أفضل مِن ذلك.
ـ لا تكلّميني هكذا! عليكِ أن تحترميني!
ـ آسفة ولكنّني لم أعد قادرة على ذلك.
عدتُ إلى غرفتي ومكَثتُ فيها حتى عادَت أمّي أخيرًا. إحتَرتُ في أمري، هل أخبرُها بالذي حصل أم أسكت؟ ولأنّني لم أجد الجواب، وقرَّرتُ البقاء مكاني والاكتفاء بتبادل التحيّة معها.
ولكثرة ملَلي، أخَذتُ الكيس الذي أعطَتني أيّاه خالتي وبدأتُ أتحسّسه لأتكهّن محتواه. ولأتأكّد مِن الاحتمالات التي خطَرَت ببالي، فتحتُه. وكم كانت دهشَتي عندما وجَدتُ فيه مبلغًا مِن المال بالكاد يكفي لشراء علبة سجائر.
ما الذي يجري؟ لماذا كلّ تلك الجلبة مِن أجل قروش؟ مَن منهم لعِبَ بي وعليَّ ولماذا؟ هل أُبعِدتُ مِن البيت عن قصد ومِن قِبَل أيّ منهم؟ أبي أم أمّي أم خالتي؟
كانت الأمور تختلط في ذهني ولم أستطع فهمها، فقد كنتُ آنذاك لا أزال في الثامنة عشرة مِن عمري ولا أفهم الناس والحياة.
وعندما عادَ أبي مِن عمله في المساء سمعتُه يتكلّم مع أمّي ويقول لها:
ـ لا أستطيع الاتكّال عليكِ بشيء!
ـ حاولتُ جهدي... آسفة.
هل كانا يتكلّمان عن الذي جرى؟ هل يعقَل أن تكون أمّي على علم بزائرة أبي؟ وساكتة لا بل معتذرة؟
في أيّة عائلة أعيش... شعَرتُ بكآبة عميقة ووحدة لا توصَف، ولكنّني لم أكن مستعدّة لمواجهة والدَيَّ بعد. لِذا قرَّرتُ أن قصد خالتي التي كان لها مِن دون شك دخل بالأحداث.
عندما فتحَت لي الباب، شَعَرتُ أنّها كانت تعلم سبب وجودي أمامها، فقالت لي بحزن "أدخلي حبيبتي". جلَسنا بصمت ثمّ قلتُ لها:
ـ هاتي ما عندكِ... لا تخبّئي عني شيئًا وإلا فقدتُ عقلي!
ـ ما مِن شيء يُقال... إسألي أختي أو زوجها.
ـ أسألكِ أنتِ، فأنتِ التي تأخّرتِ عن قصد عند أقاربكِ وحاولتِ إبقائي على العشاء، وأصَّريتِ على أن أشرب العصير وأستمع إلى حديثكِ، وأنتِ التي أعطَيتِني كيسًا شبه فارغ جئتُ خصّيصًا مِن أجله وسط الليل.
ـ حسنًا... سأتكّلم فلقد قالت لي أمّكِ إنّكِ رأيتِ أباكِ...
ـ ما الذي يجري! أريد أن أعلم! والآن!
ـ أبوكِ يبتزّ أمّكِ... يحملها على قبول أيّ شيء... في البدء كان يخونها خارج البيت، أي يأخذ عشيقاته إلى الفندق، ولكن خَطَرَ بباله أن يأتي بإحداهنّ إلى المنزل الزوجيّ ويخونها في سريرها... أبعَدها وطلبَ منها أن تبعدكِ بدورها، فطلبَت مساعدتي.
ـ يبتزّها؟ لماذا؟
ـ يا إلهي... ربمّا لا يجدر بي أن أقول لكِ لماذا...
ـ إمّا أن تتكلّمي أو أقتل نفسي أمامكِ!
ركَضتُ إلى المطبخ، وأخَذتُ سكيّنًا كبيرًا وضعتُه على عنقي. لم أكن أنوي طبعًا الإقدام على الانتحار بل أن أفزعُها فقط. صَرَخَت المسكينة بأعلى صوتها:
ـ لا!!! سأتكلّم! سأتكلّم!
ـ هيّا!
ـ منذ بضع سنوات إكتشَفَ أبوكِ أنّكِ لستِ ابنته.
ـ ماذا؟!؟ أنتِ تكذبين عليَّ! هو أبي وأنا أبنته!
ـ لا... أمّكِ كانت حاملاً مِن خطيبها الذي قُتِل بحادث رهيب... زوّجَها أهلها بسرعة خوفًا مِن الفضيحة، ولم يشكّ أبوكِ بشيء إلى حين تعرَّفَ إلى شخص كان مقرّبًا جدًّا مِن ذلك الخطيب، وعَلِمَ منه أنّ المسكين كان قد قال له إنّه سيُصبح أبًا. ومنذ ذلك اليوم وهو يتصرّف كما يحلو له، ويُهدّد أمّكِ ليس فقط بتركها بل بإخباركِ الحقيقة... وأختي تتحمّل كلّ ذلك الذلّ بصمت مِن أجلكِ.
ـ ولكنّ أبي... أعنّي... نعم أبي! يُحبّني كثيرًا ويُدلّلني طوال الوقت.
ـ الأمر الذي يُقلق أمّكِ كثيرًا، فهو يُحبّ الفتيات اليافعات.
ـ لا! لا تقولي ذلك أرجوكِ!
ـ ألم تلاحظي أنّ أختي لا تترككِ لوحدكِ معه؟
ـ بلى وكنتُ أغضب مِن ذلك كثيرًا، وفرِحتُ أنّها غابَت عن البيت لأتمكّن مِن الجلوس مع أبي لوحدنا... يا إلهي... يا إلهي!
الأيّام التي تَلَت كانت صعبة بشكل لا يوصف، فلم أكتشف أنّ أبي ليس أبي وحسب بل أنّه قادر على...
فكّرتُ مطوّلاً قبل أن أقول لأمّي إنّني علِمتُ بكلّ شيء وإنّ علينا ترك ذلك الرجل الفاسد الذي يستضعف امرأة لأنّها أخطأت منذ سنين طويلة، فأجابَتني:
ـ وكيف سنعيش؟
ـ سأجد عملاً، لا أريد العَيش مع ذلك الوحش... إستغلّكِ وأذلّكِ ومثَّلَ عليّ دور الأب الحنون والشريف... سأرحل لوحدي إن لم تقبلي تركه، هنيئًا لكِ به!
ـ لا! لم أحبّه يومًا ولم أختَره... فرضوه عليَّ وعملتُ جهدي لأكون زوجة فاضلة وأم حنونة... تحمَّلتُ كلّ شيء مِن أجلكِ وها أنتِ على علم بالحقيقة، فلا داعٍ لبقائي معه بعد الآن. سأبيع مجوهراتي ونستأجر شقّة صغيرة وسيُدبّرنا الله.
رحيلنا كان ضربة قاسية على ذلك الرجل، فكان قد خَسِرَ قدرته على الاستبداد بأمّي وفقَدَ ضحيّة يافعة. هل كان فعلاً ينوي التحرّش بي؟
اليوم وبعدما كبرتُ وتزوّجتُ ورأيتُ كيف يتصرّف زوجي مع ابنتنا، أستطيع أن أرى الفرق والجزم بأنّ دَلَع زوج أمّي لي لم يكن أبويًّا.
حاورتها بولا جهشان