لِمتُ والدتي كثيرًا عندما تطلّقَت مِن أبي، وأذكر بالرغم مِن سنّي اليافع أنّني بقيتُ أشهرًا لا أوجّه لها الكلام إلا عند الضرورة. فالحقيقة أنّني كنتُ جدّ متعلّقة بوالدي كشأن معظم البنات، ووجدتُ صعوبة كبيرة بالعيش مِن دونه خاصة بعدما سافَرَ إلى بلد آخر.
وتحسّنَت علاقتي بأمّي مع مرور السنين، ولكنّني لم أستطع مسامحتها كليًّا، ووُلِدَ بيننا مناخ أصِفه بالفاتر بالرّغم مِن محاولاتها لِكسب حبّي مِن جديد.
فحين جاء أبي لزيارتنا أخيرًا، شعَرتُ وكأنّ حياتي عادَت إليّ، وعانقتُه دقائق طويلة لاستعادة ما فقدتُه خلال غيابه. كان والدي قد جاء لفترة قصيرة مِن أجل تسوية بعض الأمور، ولرؤيتي والتحدّث معي عن احتمال اصطحابي معه. كنتُ قد كبرتُ وأصبَحَ يحق له أخذي مِن أمّي ولكنّه فضَّلَ سؤالي وترك الخيار لي، عالمًا تمام العلم أنّني لن أتردّد بالقبول ومِن دون تفكير حتى.
لم آبه لشعور التي ربَّتني، وبالكاد ودَّعتُها بعدما حضّرتُ حقيبتي بلمح البصَر.
وعندما وصَلنا أوروبا، ذُهِلتُ بالأماكن والناس، وشكَرتُ ربّي لأنّه أتاح لي فرصة الخروج مِن البيئة التي كنتُ أصنّفها بالـ " متأخّرة". أُعجِبتُ كثيرًا بِبيت أبي الذي كان يُشرف على باقي المدينة، وكنتُ أجلس على الشرفة أشاهد طلوع الشمس وغيابها والبسمة على فمي متمنّية ألا أترك هذا البلد الجميل أبدًا.
مرَّت الأسابيع ومِن ثمّ الشهر حتى جاء والدي وقال لي إنّه وجَدَ لي العريس المثاليّ. لم أكن أفكّر بالزواج، فمانعتُ في البدء ولكنّ أبي كان يعلم كيف يُقنع الناس بالذي يُريده منهم. وهكذا قبِلتُ أن أتعرَّف إلى فرانسوا، وهو شاب أوروبّي مِن أصل شرقيّ.
كان فرانسوا وسيمًا وله مستقبل واعد في الهندسة الملاحيّة وسرعان ما بدأتُ أستلطفه. وكيف لا أفعل حين كان يُجسّد ملتقى حضارتَين أساسيّتَين؟
ولكن ما لم أكن أعلمه هو أنّ فرانسوا كان قد تخلّى عن ديننا، لا بل تخلّى عن كلّ الأديان وبات يُسمّي نفسه "ملحدًا". لم يزعجني الأمر كثيرًا، لأنّني كنتُ أعلم أنّ الأمر شائع في بلاد الغرب، وأؤمِن أنّ اعتناق الدين عليه أن يكون اختياريًّا إذ أنّ الإيمان لا يُفرض على أحد.
وبعدما تناقشنا بالموضوع، إتفقنا أنّ يحترم كلّ منّا معتقد الآخر.
وهكذا ذهبنا إلى القاضي وتزوّجنا مدنيًّا. دعَوتُ أمّي إلى حفل الزفاف، ولكنّها لم تأتِ ربما لأنّها كانت تعارض عدم زواجي دينيًّا. وبالطبع لم أكترث لرأيها، ألم تكن هي نفسها التي حَمَلَت أبي على تركنا والسّفَر بعيدًا؟
حياتي مع فرانسوا كانت جميلة جدًّا، على الأقل قبل أن تأتي فترة الأعياد وأحضّر نفسي لممارسة طقوس ديني. وبدأَت الملاحظات المزعجة والانتقادات والتفسيرات غير المنطقيّة ومحاولات الاقناع التي باءَت بالفشل. فالحقيقة أنّني كنتُ ولا أزال إنسانة مؤمنة، ليس فقط بفضل تربَيتي أو تقاليدنا بل لأنّني كنتُ فعلاً مقتنعة بإيماني.
حاولتُ تجاهل ما كان يفعله فرانسوا حتى أن اكتشفتُ أنّني حامل. هنا بدأت المناقشات الحادّة بخصوص تنشئة ابننا أو ابنتنا. فقد كان زوجي ينوي منعي مِن إيصال ديني لأولادي ويُريد أن نربّيهم على الالحاد، الأمر الذي كان مرفوضًا تمامًا بالنسبة إليّ.
حاولتُ أن أحمل أبي على التدخّل بالموضوع، فهو الذي عرّفَني إلى زوجي بعدما أكَّدَ لي أنّه سيُعاملني كالملكة. ولكنّه رفَضَ رفضًا قاطعًا بذريعة أنّه لا يُحبّ التدخّل بشؤون غيره وخاصّة الزوجيّة منها.
وكنتُ سأتحمّل ربّما المزيد مِن زوجي لولا أنّه بات يمنعني مِن الصلاة. كيف فَعَل ذلك؟ في البدء كان يصرخ عليّ ويشتمني، ومِن ثمّ بدأ يضربني قائلاً: "ربّما ستستفيقين مِن غبائكِ مع الضربات".
وبالرّغم مِن الوجع والشعور بالاهانة والخذلان، لم أقبل أن أتخلّى عن إيماني حتى لو كان سيُكلّفني ذلك حياتي. والذي استفزَّ زوجي إلى أقسى درجة هو أنّني أصبحتُ أكثر اصرارًا على ممارسة ديني، ولم أعد أخاف أو حتى أتألّم كلّما انهالَت عليّ الصفعات. وعندما رأى فرانسوا أنّني لن أخضع له فضَّلَ أن يتركني. شعرتُ بفرحة لا توصف فأنا لم أعد أتحمّل ذلك الرجل البغيض والمريض.
والجدير بالذكر أنّ كونَه ملحدًا لم يكن له علاقة بتصرّفاته، فهناك الملايين مِن الملحدين في العالم ومعظمهم مسالمون، كما أنّ هناك مؤمنين أشرار. كان حظّي السيّء قد جعلَني أتزوّج مِن انسان يحمل في داخله غضبًا تجاه جذوره، وكأنّه بمحاربتي كان يُحارب أيضًا هويّته الأصليّة.
وركَضتُ طبعًا إلى أبي لأتابع حياتي معه وأربّي طفلي إلى جانبه حين يولد. ولكنّ والدي لم يكن مِن رأيي، فلم يتصوّر مستقبله مع ابنة مطلّقة وحفيد، ولم يتقبّل فكرة توديع استقلاليته التي ناضَلَ لينالها. فسرّ طلاق والدَيَّ لم يكن سوء تعامل أمّي مع أبي، بل حبّه لحرّيته حتى لو تطلّب الأمر ترك أقرب الناس إليه.
لمذا جاء بي إلى ذلك البلد إذًا؟ لستُ أدري تمامًا ولكن جزءًا مِن هذا القرار كان لتحطيم قلب أمّي. هل كان هناك مِن هدف خلف تزويجي مِن فرانسوا بالذات؟ لا أملك حتى اليوم الجواب.
وطَرَدَني أبي قبل أن يحين موعد الولادة بقليل. توسّلتُ إليه لأبقائي معه ولكنّه رفَضَ رفضًا قاطعًا:
ـ لا وقت لديّ لمناقشة موضوع عقيم... ستعودين إلى أمّكِ ولن ترجعي إلى هنا... مَن قال لكِ إنّني أملك حاضنة هنا؟ لدَيّ حياتي ولا مكان لكِ فيها أنتِ وابنتكِ.
- ولكنّكَ أبي!
ـ لدَيكِ أمّكِ أيضًا... هيّا! إرحلي!
وصلتُ إلى أمّي باكية ومعتذرة بعدما ظلمتُها لسنين طويلة. كانت الصّورة التي كوّنتُها عن أبي مجرّد سراب اختفى عندما اختبَرتُه. يا له مِن أب! تركَني عندما كنتُ صغيرة ومِن ثمّ عادَ ليأخذني مِن أمّي وبيتي وبلدي ليُزوّجني مِن رجل مريض، وعادَ وطرَدَني وأنا حامل.
اليوم لا أزال أعيش عند والدتي أربّي ابني، مِن دون زوج كما حصل لأمّي مِن قبلي. صحيح أنّ المسؤوليات كثيرة ولكنّني أنسى كل شيء عندما أسمع ضحكات صغيري، وحياتي هكذا أفضل بكثير مِن بقائي مع رجل قبيح كفرانسوا أو كأبي.
سيكبر ابني ويتعلّم أنّ يحترم الناس وخاصة النساء، ويكون وفيًّا ومحبًّا ومسؤولاً كي لا يُصبح مثل هؤلاء الذين يُفسدون الحياة مَن حولهم.
حاورتها بولا جهشان