أصبحتُ مَضحكة لدى الكثير، بعدما أذاعَت رنا عنّي خبَرًا أصِفُه بالمُحرِج. للحقيقة، حسبتُها امرأة مسؤولة وعاقِلة تعرفُ ما يجب قوَله أو كتمانه، لكنّني كنتُ مُخطئًا. فلَم أكن أعلَم بعد ما كان دافعها الفعليّ، وإلا أخذتُ احتياطاتي وتحضّرتُ على الأقلّ لِما كان سيحدث. كيف لرنا أن تفعل ذلك بي، خاصّة بعد سنة مِن زواج اعتقدتُه سعيدًا؟
فقد اتّضَحَ أنّ مقولة "الزوج آخِر مَن يعلَم" هي بالفعل واقعيّة وليست فقط دعابة. لكن ربّما عليّ البدء مِن البداية، أيّ حين التقَيتُ لأوّل مرّة برنا. فالواقع أنّها كانت مخطوبة لشاب آخَر وهما ينويان الزواج بعد فترة قصيرة. كان الخطيب مُسافِرًا، لِذا هو لَم يستطِع طبعًا حضور ذلك الفرَح الذي كنتُ موجودًا فيه. وهكذا رأيتُ صبيّة فائقة الجمال، على الأقلّ في نظري، ورحتُ أُكلّمها لأعرف إن كانت هي مَن أبحثُ عنها لتأسيس عائلة وقضاء باقي حياتي معها. فكنتُ آنذاك شابًّا طموحًا وأتمتّع بالذكاء الكافي للتخطيط والتنفيذ والوصول إلى حياة مُريحة. كان مُستقبلي أمامي وواعدًا، وكلّ ما كان ينقصُني كانت زوجة مُحِبّة وعاقِلة.
إبتسَمت رنا لي حين رحتُ أتحدّث معها في الفرَح، وجلَسنا سويًّا طيلة الاحتفال. وعندما حان الوقت لنفترِق، كنتُ واثقًا مِن أن بحثي انتهى. أخذتُ رقم رنا وبدأنا بالتواصل على الفور بعد عودتنا. نسيَت رنا أن تقول لي إنّها مخطوبة، ومِن جهتي لَم أتصوّرها بالوقاحة الكافية لتقضي سهرة بكاملها معي وهي موعودة لآخَر. علِمتُ بالحقيقة قبل تحديد الموعد لزيارة أهلها لِطلَب يدها بقليل، ولَم أستوعِب تمامًا ما قالَته:
ـ ماذا تعنين؟ أنتِ مخطوبة؟!؟
ـ لا تخَف يا حبيبي... سأفسخُ تلك الخطوبة خلال يومَين. المسكين... لَم أكن أُريدُ إزعاله كثيرًا، فهو يُعاني مِن مرَض عصبيّ... ثِق بي، أرجوكَ.
وبالطبع كان كلامها غير صحيح، فذلك الشاب لَم يُعانِ سوى مِن مرض واحد: الحبّ، وحبّ رنا بالتحديد. فبعد أيّام قليلة، تلقّيتُ مُكالمة مِن الخطيب: اللهجة كانت صارِمة ومُهدِّدة، فهو طلَبَ منّي التخلّي عن رنا وإلا... الأمر الذي زادَ مِن إصراري عليها، وتأكّدتُ مِن أنّه بالفعل يُعاني مِن مشكلة نفسيّة أو عقليّة. رحتُ أطلبُ رنا مِن أهلها الذين فوجئوا بأن ابنتهم وجدَت خطيبًا آخَر في غضون أربع وعشرين ساعة!
وهكذا تزوّجنا وسكنّا في الشقّة التي حضّرتُها لاستقبال عروستي الجميلة. وهي منذ البدء جعلَت مِن المكان مملكة لها بكلّ ما للكلمة مِن معنى. في البداية، كنتُ سعيدًا أنّ رنا تشعرُ بالراحة التامّة في حياتها الجديدة، فتركتُ لها المجال لتلعَبَ دور الزوجة، بينما أركِّز على عمَلي وتأمين مُستقبل لنا ولأولادنا المُستقبلين. إلا أنّ ذلك اليوم لَم يأتِ لأنّه اتّضَحَ لنا لاحقًا أنّني عاقِر. فبعد سنة مِن المُحاولة، رحنا إلى العيادة لإجراء فحوصات مخبريّة لكلَينا، ووقَعَ الخبَر كالصاعقة. حزِنتُ كثيرًا وشعرتُ وكأنّني لستُ نافعًا، على الأقلّ لبناء عائلة. أمّا بالنسبة لرنا، فهي نظرَت إليّ باحتقار لكنّها لَم تقُل شيئًا، على الأقلّ في ذلك اليوم.
وبعد أيّام قليلة، سألَني جاري في المبنى إن كنتُ بخير. إستغربتُ السؤال وهو أضافَ: "مِن الصعب على الرجُل أن يتقبّل خبَرًا كهذا... ليكن الله في عون زوجتكَ!". وقفتُ مذعورًا لفظاعة الأمر، فكيف له أن يُكلّمني في أمور بهذه الخصوصيّة، وكيف لرنا أن تُخبره بالأمر؟!؟ ركضتُ إلى الشقّة مُستفسِرًا فأجابَتني زوجتي:
ـ وماذا تُريدُني أن أفعل؟ جارتنا رأتني حزينة فأخبرتُها عن السبب، ولا بدّ لها أن أخبرَت بدورها زوجها.
ـ ولماذا لَم تخترعي لها عذرًا آخَر؟!؟
ـ تُريدُني أن أكذب لأُغطّي علّتكَ؟!؟ يا لك مِن أنانيّ! وماذا عن مشاعري؟ هل عليّ طمسها أيضًا؟
ـ إنّها أمور خاصّة جدًّا عليها أن تبقى بيننا، أفهمتِ؟
ولَم تفهَم رنا قدسيّة الموضوع على ما يبدو، فبدأتُ أُلاحظُ مِن حَولي نظرات الناس لي، وكان مِن الواضح أنّهم على عِلم. واتصلَت بي والدتي مُعاتِبة:
ـ هل مِن المقبول أن أكون آخِر من يعلم بمسألة عقمكَ يا بُنَي؟
ـ ماما! أرجوكِ... لا يجدرُ بكِ التكلّم عن هذا الموضوع هكذا!
ـ ولِما لا؟ هل أهل زوجتكَ أفضَل منّي؟!؟ أنتَ ابني وأنا أحقّ بكَ! فلقد حمِلتُكَ في أحشائي تسعة أشهر و...
ـ أعرفُ القصّة عن قلب ظهر! ماذا تُريدين؟
ـ أُريدُ أن أواسيكَ، فأنتَ لا تزال، على الأقلّ في نظري، رجُلاً بكلّ ما للكلمة مِن معنى.
ـ على الأقلّ في نظركِ؟!؟ ماذا يُقال عنّي؟ تكلّمي!
ـ جيراني يقولون...
ـ جيرانكِ؟!؟
ـ أجل... هم تفاجأوا كثيرًا لأنّهم اعتقدوا أنّكَ ستُنجِب دزيّنة أولاد!
ـ كفى أرجوكِ يا ماما!
وأقفلتُ الخطّ بوجهها لكثرة غضبي وامتعاضي. أسرعَتُ إلى رنا وبدأتُ أصرخُ بها بأعلى صوتي إلى حين هي قالَت:
ـ صراخكَ لن يمحو الواقع يا عزيزي... ولا أدري إن كنتَ تُريد إضافة لقب "مُعنِّف" على "عاقِر". أجل، إن بقيتَ هكذا، فسيعرفُ الجميع عن طبعكَ القاسيّ والمؤذٍي وكَم أنّني خائفة منكَ... أنصحُكَ بالتروّي حين تتكلّم معي وأن تزين كلّ كلمة تخرجُ مِن فمكَ.
كان التهديد واضِحًا، فرنا على ما يبدو قرّرَت القضاء عليّ، لكن لماذا؟
ثمّ تسرّعَت الأمور إذ أنّني وجدتُ ذات صباح زجاج سيّارتي مكسورًا عمدًا، ومكتوب على جنب المركبة كلمة "خنزير". لَم أصدّق عَينَيّ فركضتُ أسأل ناطور الذي يسكن المرآب عن الأمر إلا أنّه لَم يرَ شيئًا. إنتابَني شعور غريب، إذ أنّني كنتُ على يقين أنّ لزوجتي دورًا بذلك، بطريقة مُباشرة أو غير مُباشرة. فصعدتُ إلى الشقّة مُجدّدًا وبحثتُ في كلّ أرجائها عن أيّ أثَر للدهان أو ما يشبه، بينما كانت رنا لا تزال نائمة، لكنّني لَم أجِد شيئًا. لكن حين دخلتُ غرفة نومنا، رأيتُ أنّ وسادة زوجتي كانت تحملُ آثارًا سوداء وحمراء مع أنّها لَم تكن تضع مساحيق للتبرّج أثناء نومها. لَم أعرِف ما أفعل بتلك المعلومة لكنّني أبقَيتُها في ذهني لكثرة غرابتها.
رحتُ إلى قسم الشرطة لتقديم بلاغ ضدّ مجهول لِما حصَلَ لسيّارتي، وهم وعدوني بأنّهم سيقصدون المرآب بعد ساعة لرفع البصمات وأخذ الصوَر. لكن لدى عودتي إلى سيّارتي، وجدتُ الناطور يغسلُ المركبة بتأنٍّ فصرختُ به أن يتوقّف. إلا أنّه نظَرَ إليّ بتعجّب قائلاً: "ما الأمر؟ لقد أزلتُ الزجاج عن الأرض ونظفتُ السيّارة جيّدًا... هل أردتَني أن أترك المكان كما هو؟!؟ أنا أقومُ فقط بعمَلي!". عدتُ واتّصلتُ بالشرطة واخبرتُهم عمّا جرى، فاكتفوا بطلب صوَر منّي للسيّارة. هل كان الناطور هو الفاعِل وأرادَ محو الأدّلة التي قد تورِّطه؟ لغز كبير قرّرتُ عدَم التفكير فيه في الحال لعدَم وجود أيّ دليل ضدّ أحَد.
ضحِكَت رنا عاليًا عندما أخبرتُها بما جرى، وأضافَت أنّه مِن الطريف أن ينعتَني أحَد بالخنزير. لَم أجدَ أيّ شيء مُضحِكًا بالأمر، بل العكس، لكن عندما قلتُ لها إنّني قدّمتُ بلاغًا لدى الشرطة وإنّني أشكّ بالناطور، تغيّرَت ملامحها وقالَت عاليًا:
- لماذا أنتَ هكذا؟ إنّه حتمًا عمَل أحَد مُراهقي الحَي... لا تورّط أحدًا بسبب امتعاضكَ. فالناطور ربّ عائلة كبيرة ولا يجب إقحامه بالأمر... كَم أنّكَ بغيض!
مرَّ حوالي الشهر عندما عدتُ مِن عمَلي لأجِد زوجتي بحالة سيّئة، إذ أنّ ذراعها الأيمَن كان ملفوفًا بالشاش بعد أن وقعَت عن سلالم المُجمّع التجاريّ. عرضتُ عليها أخذها إلى المشفى، لكنّها رفضَت قائلة إنّ طبيب المُجمّع اهتمّ بذراعها وإنّ الاصابة ليسَت بليغة. عانقتُها لكنّها أبعدَتني عنها صارخة بأعلى صوتها: "لا تلمسني! فذراعي يؤلمُني!". إعتذرتُ منها وتفهّمتُ وضعها الجسديّ والنفسيّ، وساعدتُها بالأعمال المنزليّة بكلّ طيبة قلب إلى حين تتعافى. فالواقع أنّني كنتُ أحبّ رنا كثيرًا بالرغم مِن امتعاضها منّي بسبب عدَم قدرتي على الانجاب، فأكثر شيء يؤلم المرأة هو العَيش مِن دون أولاد. رحتُ أشتري لها سوارًا مِن ذهب وأهدَيتُها لها، وهي شكرَتني بحرارة في تلك الليلة بالقيام بواجباتها الزوجيّة الحميمة معي... مِن دون أن يؤلمها ذراعها!
وبما أنّني لَم أكن يومًا غبيًّا، إستنتجتُ أنّ اصابتها لَم تكن مؤلمة أو مُعيقة على الاطلاق. فقرّرتُ مُراقبتها جيّدًا، ورأيتُ كيف أنّها تستعمل ذراعها بطريقة طبيعيّة حين لا تعتقِد أنّني موجود بالقرب منها. لكن لماذا الادّعاء؟ هل لتنال اهتمامي؟ هل أنّني أهمِلُها؟ بالفعل كنتُ زوجًا غير نافع!
في اليوم الذي تلا، إلتقَيتُ بالجارة التي رفضَت الصعود معي في المصعد، بل نظرَت إليّ بغضب واضح ثمّ تمتمَت "خنزير" قبل أن تُغلَق الأبواب. ماذا؟!؟ هل أنّ الجميع في ذلك المبنى كان مُتواطئًا ضدّي؟!؟ وبعد ساعات قليلة، وجدتُ تحت مسّاحة زجاج سيّارتي ورقة مكتوب عليها:
- إنّنا نُراقبكَ... بالفعل أنتَ لستَ رجُلاً بكلّ ما للكلمة مِن معنى!
طفَحَ كَيلي إلا أنّني لَم أشتكِ للشرطة خوفًا مِن الفضيحة بسبب ذكر عَدم ذكوريّتي، لكنّني قرّرتَ التصرّف: وضعتُ كاميرات مُزوّدة بالصوت في الشقّة وفي المرآب، بعد أن أعطَيتُ رنا كمّيّة كبيرة مِن المال وطلبتُ منها التسّوق قدر ما تشاء وبعثتُ بالناطور في مُهمّة، فكان لا بدّ لي أن أعرِف ما يدورُ مِن حولي.
ولَم يطُل انتظاري، ففي اليوم التالي، شاهدتُ على هاتفي المحمول كيف أنّ رنا قامَت صباحًا برسم دائرة سوداء حول عَينها ودائرات بنفسجيّة على رقبتها وكتفها، وبِلفّ ذراعها بعد أن كان قد شفى تمامًا. وشاهدتُ مذهولاً كيف أنّها اتّصلَت هاتفيًّا بأحَد ما، ومِن ثمّ فتحَت الباب لتلك الجارة وجلَستا سويًّا تتكلّمان عن رضوضها الوهميّة بينما بكَت زوجتي وعانقَتها الأخرى. ثمّ فتحَت رنا لزوج الجارة ومِن بعدها للناطور، وبدأوا يتكلّمون جميعًا عنّي بألفاظ لا يسعُني ذكرها لفظاعتها، إلّا أنّها كانت تدورُ حولَ عقمي وتعنيفي لرنا. سمِعتُ زوجتي تقول لهم:
- مِن الجيّد أنّكم شاهدون على ما يفعله ذلك المجرم بي، فذلك مُفيد لطلاقي. أرجو أن أحصَلَ مِن المحكمة على تعويض يوازي درجة عذابي وآلامي... وهذا يتوقّف طبعًا على ما ستقولونَه. سيتّصل بكم المُحامي ويقولُ لكم ما عليكم ذكره بالتحديد... ليس مطلوبًا منكم الكذب على الاطلاق، بل فقط قول الحقيقة الجليّة.
فهمتُ اللعبة تمامًا، وحمَدتُ ربّي أنّ ما رأيتُه هو مُسجَّل على الجهاز الموجود في البيت!
لَم أواجِه رنا، بل بقيتُ أتصرّف بطريقة عاديّة لأدعَها تبدأ هي بالمواجهة. أطلعتُ بدوري مُحاميًا على الاحداث كلّها وتحضّرنا جيّدًا. وجاء اليوم الذي تلَقَّيتُ فيه تبليغًا مِن الشرطة، فرِحتُ برفقة المُحامي إلى المُقابلة مُتسلّحًا بالتسجيل. لَم يتطلّب المُحقّق الكثير مِن الوقت لفهم ما يجري، فسألَني إن كنتُ أودّ الاشتكاء بدوري، فأجبتُه "بالطبع!؟". تمّ استدعاء رنا والجارَين والناطور وحُقِّقَ معهم جميعًا. طالَبَ المُحامي الخاص بي بمُغادرة الجارَين والناطور المبنى بأسرع وقت، وعدَم التعرّض لي تحت طائلة السجن، وتمّ الاتّفاق مع رنا على عدَم حصولها على شيء على الاطلاق بعد طلاقي منها. وحين كنّا لا نزال في القسم، سألتُها لماذا فعلَت كلّ ذلك فأجابَت:
- أكرهُكَ... يا لَيتني بقيتُ مع خطيبي السابق، على الأقلّ هو كان رجُلاً حقيقيًّا! أردتُ التخلّص منكَ بسرعة والاستفادة الماليّة لبدء حياتي مِن جديد، وأمِلتُ أن يتعاطَف معي الكلّ خاصّة ذلك الخطيب فينسى كيف أنّني تركتُه مِن أجلكَ.
حزِنتُ كثيرًا لدى سماعي ذلك، فكّم مِن الرجال يُعانون مِن نظرة الناس لهم إن كانوا غير قادرين على الانجاب، وكَم مِن النساء تمّ إبعادهنّ بعد أن تبيّنَ أنّهنّ عاقِرات! أليست تلك إرادة الله؟ أم أنّنا نحترمُها فقط حين يُناسبُنا الأمر؟
حاورته بولا جهشان
