هذه حكاية امرأة عانَت مِن بشاعة النفس البشريّة طوال مراحل حياتها، ومرَّت بالسّحر والشكّ والخداع ومِن ثمّ الخذلان مِن رجال اعتقَدَتهم جديرين بهذا الإسم، حكاية إنسانة بقيَت تحاول حتى آخر لحظة إيجاد السّعادة والطمأنينة والكتف الحنون. هذه حكايتي، أنا ليندا.
مات أبي حين كنتُ لا أزال في الثانية مِن عمري، فربَّتنا أمّي أنا وأخي في منزل سكنّاه مع أعمامي الذين حاولوا بشتّى الطرق التخلّص مِن أرملة أخيهم وتربيتنا على كيفهم. ولكنّ والدتي لم تستسلم بالرّغم مِن الأجواء البشعة التي كانت تحيط بها.
كبرنا أنا وأخي وكَبُر تعلّقنا ببعضنا، وحين تزوَّجَ أخي وتَرَكنا شعَرَتُ بفراغ كبير، خاصّة أنّ والدتي أُصيبَت بعد فترة بمرض خبيث.
مِن جهّتي تعرّفتُ إلى رضوان الذي كان حبّي الحقيقيّ، بعد أن سبقَه حبّ لابن الجيران اختصرَ على تبادل النظرات. كنتُ أعلم أنّني كنتُ لا أزال صغيرة على الغرام، لِذا سرعان ما نسيتُ قصّة لن تصل إلى أيّ مكان.
أمّا رضوان، فكان في التاسعة والعشرين وأنا في السابعة عشرة، ورأيتُه إنسانًا مسؤولاً وحنوناً، خاصّة عندما بدأ يُساعدني بالاهتمام بأمّي المريضة التي توفّيَت بعد آلام كثيرة.
ولولا وجود رضوان في حياتي، لشعَرتُ بضياع كبير وسط أعمامي وعائلاتهم. الشيء الوحيد الذي كان يمنعني مِن أن أكون سعيدة مع حبيبي، كان كره أمّه لي. لم تستوعب تلك المرأة أن يكون بكرها قد اختارَ عروسته مِن دون استشارتها، فقد كانت مِن الصّنف المتملّك والمستبدّ. فعندما تزوّجنا ودخَلتُ بيت هؤلاء الناس، كانت هي الوحيدة التي لم تستقبلني كما يجب، على عكس زوجها الذي فرِحَ جدًّا باسمي بعد أن كان قد قرَّرَ تسمية ابنته ليندا، ولكنّه لم يتسنّى له ذلك.
كان ذلك الرجل الطيّب يأتي لي بالهدايا ويُدلّلني وكذلك أبوه، أي جدّ رضوان، الذي كان يُعيرنا سيّارته لنذهب بها إلى حيث نشاء. وهذا الدلال أجَّجَ طبعًا حقد حماتي عليّ وانضمَّت إليها ابنتها، ولم أستطع أبدًا وبأيّة طريقة الوصول إلى قلبها، حتى عندما أخبرتُها بعد ثلاثة أشهر مِن زواجي أنّني حامل. فبدَل أن تفرح لابنها لأنّه سيُصبح أبًا، نظَرَت إليّ بغضب ومِن ثمّ باستهزاء وقالت لي أمام ابنتها: "إذا أنجَبَت أمّي في قبرها، ستنجبين أنتِ".
وبعد أقلّ مِن ثلاثة أشهر، شَعَرتُ بأوجاع عنيفة في بطني وأصابَني نزيف حاد، ونُقِلتُ إلى المشفى حيث قيل لي إنّ قلب الجنين توقّف عن الخفقان وعليهم إجهاضي. بكيتُ كلّ دموعي، ولكنّني بكيتُ أكثر عندما جاءَت حماتي إلى المشفى وقالت لي: "لن أسمح بأن تصبحي أمًّا". ماذا قصَدَت بذلك؟ لم أعرف آنذاك، ولكنّني خفتُ كثيرًا منها، فالشرّ كان يتطاير مِن عَينَيها وكانت مصمّمة على إيذائي.
بقيتُ في المشفى ثلاثة أيّام، وسرعان ما بدأ رضوان يتغيّر، فباتَ ينزعج مِن كلّ كلمة أتفوّه بها ولم يعد يلمسني بل أصبَحَ ينام في غرفة أمّه، ممّا يدلّ على أنّها كانت قد بدأَت بتنفيذ تهديداتها. حاولتُ التكلّم معه لأعرف مّما يشكو ولايجاد طريقة لإقناعه بالرّجوع إليَّ، ولكنّ حماتي بقيَت تمنعني مِن دخول الغرفة تحت ذريعة أنّ رضوان نائم. ووجَدتُ السّحر في غرفة النوم، فركَضتُ أجلب ماء زمزم وأعطَيتُها لزوجي مِن دون أن يعرف.
وعادَ رضوان إلى غرفة نومنا وإلى حالته السّابقة، وسرعان ما علِمتُ أنّني حامل مِن جديد. وحين مات جنيني بعد ثلاثة أشهر، صدّقتُ فعلاً أنّ حماتي تستطيع إيذائي. كانت قد أصبحَت معنويّاتي في أدنى مستوى، لِذا لم أمانع عندما سمعتُ مِن الأهل والجيران وخضَعتُ لرقية شرعيّة، وسرعان ما وجدتُ السّحر في غرفة نومنا، مرّة أخرى.
ربّما انشغَلتُ أكثر مِن اللازم بأمور السّحر، فلَم ألاحظ إلا لاحقًا أنّ رضوان لم يعد يُفارق هاتفه الجوّال ويحمله خارجًا عندما يتلقّى مكالمة، وأنّه يتغيّب عن عمله. وعلِمتُ أنّه يدّعي المرَض مِن أخيه، الذي يعمل معه والذي سألَني عن حالة زوجي الصحيّة بعدما تخلّف عن وظيفته لأيّام. بالطبع لم يكن رضوان مريضًا، فكان يستفيق ويلبس ويتحضّر ويودّعني قبل أن يقصد الشركة. أين كان يذهب إذًا؟ كان عليّ معرفة الجواب، وكلّ ما كان عليّ فعله هو أن آخذ مِن هاتفه الرّقم الذي يطلبه في أوقات متأخّرة في الليل.
طلّبتُ ذلك الرّقم وإذ بفتاة اسمها فاطمة تجيب. هل تفاجأتُ كثيرًا؟ للحقيقة لا، فكلّ شيء كان يدلّ على أنّ لزوجي أحدًا في حياته. أعطَيتُ موعدًا للعشيقة وقصدتُها في مقرّ عملها. هناك قارنّا قصصنا، واكتشَفنا أنّ رضوان يُهدي لكلّ منّا الهدايا نفسها. خلتُ للحظة أنّ فاطمة ستغيّر رأيها بعدما علِمَتْ أنّ حبيبها متزوّج وأنّه يُعاملنا على حدٍّ سواء، ولكنّني تفاجأتُ بها تقول لي وبكلّ وقاحة: "إسمعيني جيّدًا وضَعي ما يلي في رأسكِ: سأتزوّج مِن الرّجل الذي أحب، شئتِ أم أبَيتِ".
عدتُ إلى بيتي باكية أمام هذا الكمّ مِن الشرّ، عالمةً أنّني لا أستطيع فعل أيّ شيء. ولم أعد قادرة على الحمل بالرغم مِن أنّني لم أكن أشكو مِن شيء، حسب قول الأطبّاء. نعم، كانت حماتي قد حافظَت على وعدها لي.
ومرَّت السّنوات وتابعَ زوجي علاقته بفاطمة، وتزوّجَت أخته أخيرًا ولكنّها عادَت إلى البيت بعد تسعة أشهر لأنّ زوجها طردَها بعد أن سَرَقَت مجوهرات أمّه وأخته. ولكثرة غضبها، قرَّرَت حماتي صبّ سمّها كلّه عليّ، فقالَت لي:
ـ بعد عام مِن اليوم الذي عادَت به ابنتي، ستعودين أنتِ إلى بيت أخيكِ، وإن تزوّجتِ مجدَّدًا فلن تبقي عند زوجكِ أكثر مِن تسعة أشهر... رضوان سيتزوّج مِن فاطمة وسيظلّ هذا الاسم يُلاحقكِ حتى يوم الممات.
تجمَّدَ الدماء في عروقي لدى سماع ذلك، ليس فقط لخطورة معناه ولكن أيضًا لفظاعة كره تلك المرأة لي.
طلَّقَني رضوان بعد سنة وعُدتُ إلى بيت أخي.
كانت الفترة الممتدّة مِن زواجي حتى طلاقي منه قد مرَّت وكأنّها كابوس طويل، يحكمه وحش إسمه حماتي بمساعدة ابنتها الشريّرة وابنها الجبان، ومكوثي عند أخي أعطاني أخيرًا الفرصة لأستعيد نَفَسي ونفسي.
فعندما تقدَّمَ لي سمير، قبِلتُ به لأطويَ صفحة الماضي على أمل أن أجد أخيرًا السعادة بين ذراعيَ رجل حقيقيّ. فالجدير بالذكّر أنّني وبسبب موت أبي المبكّر جدًّا، لم أنعَم برعاية أبويّة ولم أشعر يومًا بالأمان.
وكانت الحياة تعطيني فرصة ثانية مع ذلك الأرمل. فسمير كان قد فقَدَ زوجته التي تركَت له رضيعًا وولدَين، ورأيتُ بذلك فرصة لاشباع شعوري بالأمومة الذي افتقَدتُه حتى ذلك الوقت.
هل كانت لعنة حماتي السّابقة ستلحق بي، أم أنّني سأجد السعادة أخيرًا؟
يتبع...