ما حصَلَ لي قد يبدو مضحكًا، ولكن صدّقوني عندما أقول لكم إنّ حياتي كلها تغيَّرَت بسبب الجهل وقلّة التواصل بين الأهل وأولادهم. قصّتي حصَلَت منذ حوالي الثلاثين سنة حين كنتُ لا أزال في الخامسة عشرة مِن عمري.
أنا ابنة أناس طيّبين ولكن أمّيّين، لم يهمّهم يومًا أن يُحسّنوا حالتهم بل اكتفوا بالذي عرفوه: الأرض.
لدَيَّ ثلاثة أخوة وجئتُ بعد أن يئسَت أمّي مِن إنجاب الصبيان، لِذا حظيتُ بمعاملة مميّزة مِن قِبَل الجميع.
ولكن مقابل ذلك الدّلال المفرط، كان هناك اصرار شديد على إبعادي عن صنف الرجال، خاصّة مِن قِبَل إخوَتي الذين قرّروا أنّ لا أحد يستحقّني، فاتّفقوا مع أبوَيَّ على تخويفي مِن الشبّان، وبدأوا يروون لي شتّى القصص المرعبة عن فتيات قبّلنَ صبيانًا وحمِلنَ منهم بمجرّد ذلك.
لم يكن بمقدوري التحقّق مِن صحّة تلك الأخبار، لأنّني لم أكن أعاشر سوى أفراد عائلتي. صحيح أنّني ذهبتُ إلى المدرسة، ولكن في تلك المنطقة البعيدة عن كل شيء لَم يدرّسونا عن جسم الانسان وطريقة الانجاب. إضافة إلى ذلك، كان ممنوعًا عليّ مصادقة أحد، ففي نظَر أهلي كانت كلّ الفتيات سيّئات السّلوك وتشكّلنَ خطرًا عليَّ.
ولكن ما مِن أحد في العالم بمقدوره مَنع الشبّان والصبايا مِن أن يلتقيا يومًا... ووقَعتُ في غرام فادي، شاب جاء ليُساعد أخوَتي في المزرعة. كان أوّل شاب غريب أراه، وأحبَبتُه كأيّ فتاة تحبّ في الخامسة عشرة مِن عمرها. وهو أيضًا أُعجِبَ بي، ولكنّه خافَ مِن أخوَتي الذين أنذروه بألا يقتربَ منّي أو حتى يُفكّر بذلك.
كان مكتوب أن يعصي فادي تلك الأوامر بعد سنة على قدومه، وذات يوم وهو مار بالقرب منّي أعطاني ورقة صغيرة جدًّا كَتَبَ عليها: "وافيني غدًا في الوقت نفسه قرب العَين".
بدأ قلبي يدقّ بسرعة، لأنّني لم أكن أعلم أنّ فادي مهتمّ بي، ومِن ثمّ سَكَنَني الهمّ لأنّني كنتُ أعرف كم أنّ ذهابي لذلك الموعد أمر خطير.
ولكنّني لبِستُ ثيابًا جميلة وركَضتُ ألاقي حبيبي. كيف استطَعتُ ذلك بالرّغم مِن المراقبة الشديدة التي كان يُمارسها الجميع عليّ؟ لستُ أدري، فكما قلتُ كان مقدّرًا لي أن أرى فادي في ذلك النهار وأن يُقبّلني. لم أكن أريده أن يفعل ذلك، على الأقل ليس في الموعد الأوّل ولكنّه كان في الثامنة عشرة مِن عمره، أي مفعمًا بالحيويّة وكان يُراقبني منذ سنة ويحلم بتلك اللحظة.
قد يقول البعض إنّ قبلة بريئة ليست مشكلة بحدّ ذاتها، خاصّة أنّني لم أرَ فادي مجدّدًا، ولكن في حالتي كانت تلك القبلة كالقنبلة التي دَمَّرَت حياتي لسنين طويلة. كيف ذلك؟ بسبب الجهل.
عُدتُ إلى البيت، وزالَت الفرحة مِن قلبي عندما تذكَّرتُ ما قيل لي عن مفعول القُبَل: خِلتُ فعلاً أنّني سأحمل مِن فادي.
مَرَرتُ بأيّام صعبة جدًّا إلى درجة أنّني لم أعد آكل أو أنام. وحين حاوَل فادي رؤيتي مِن جديد صَرَختُ به: "ألا يكفيكَ الذي فعلتَه بي؟". نظَرَ إليّ المسكين باستغراب شديد، ثمّ قرَّرَ ترك المزرعة خوفًا مِن أن أسبّب له المشاكل مع أخوَتي الذين نبّهوه مِن الاقتراب منّي.
وبعد رحيل الذي قبَّلني، وقَعتُ بضياع تام، فكيف له أن يُصلح غلطته؟ بدأتُ أقف أمام المرآة لأراقب بطني، وشَعَرتُ حتى بالغثيان الصّباحيّ الذي سمِعتُ أمّي تتكلّم عنه مع قريباتها.
كان قد مرَّ على القبلة حوالي الأسبوعَين حين قرَّرتُ إخبار أمّي عن حملي. ولأنّني كنتُ مقتنعة بأنّ الحمل يحدث لمجرّد التقبيل، لَم أقل لها إنّ فادي لم يفعل سوى ذلك. وعندما سمِعَتني أقول لها إنّني حامل، بدأَت والدتي بالنحيب وصَفَعَتني بقوّة. أرغَمَتني على البوح باسم والد الجنين، وعادَت تصرخ لأنّه غادَر مِن دون أن يُعطي لأحد عنوانه.
ثمّ بكينا سويًّا، ووعَدَتني بأنّها لن تخبر أحدًا وأنّها ستحلّ المشكلة. وبعد ثلاثة أيّام، أخَذَتني جانبًا وقالت لي إنّها وجَدَت لي عريسًا، وإذا تزوّجتُه بسرعة لن يعرف أنّ الجنين ليس منه. كنتُ على وشك أن أفرح، ولكنّني رأيتُه في ذلك النهار بعدما أخَذَتني أمّي إلى دكّانه في القرية المجاورة. كان محسن رجلاً في الأربعين مِن العمر وقبيحًا جدًّا. بدأتُ بالبكاء ورفَضتُ بقوّة، ولكنّ أمّي أجابَتني:
ـ إخرسي أيّتها الفاجرة! ماذا تنتظرين؟ أن آتي إليكِ بأمير في غضون أيّام؟ إن لم تتزوّجي في الحال... سيقتلكِ أبوكِ وأخوَتكِ! محسن رجل طيّب ونزيه وليس خارق الذكاء أي أنّه لن يُلاحظ شيئًا... إضافة إلى ذلك، هو يملك دكّانًا ومنزلاً جميلاً وقطعة أرض كبيرة.
ـ ومِن أين له كلّ ذلك؟ ولماذا يجلس في الدكّان طوال النهار إذًا؟
ـ لأنّه كسول ووَرَث أملاكه مِن أهله... هذا لا يهم! ستتزوّجينَه أو تموتين!
وبالرّغم مِن أنّ أبي لم يكن موافقًا على محسن ولا أخوَتي، إلا أنّهم قبِلوا بالذي قرّرَته أمّي لأنّها كانت الآمرة الناهية في البيت.
بكيتُ يوم فرحَي وبكيتُ أكثر لاحقًا، أي عندما تواجَدتُ مع محسن لوحدنا في بيته. لم أكن أعلم ما يفعله الرجل مع زوجته، وخلتُ فعلاً أنّه سيُقبّلني وحسب. ولكنّني طبعًا كنتُ مخطئة، وبعد جدال طويل وشبه معركة، سمَحتُ لزوجي بفعل ما كان ينوي فعله بي. لن أقدر أن أصف الاشمئزاز الذي أُصِبتُ به ولا كميّة الدموع التي ذرفتُها. كرهتُ ذلك "العجوز" الذي لوّثَني في تلك الليلة.
وانتظَرتُ أن يكبر إبن فادي في بطني ولكنّ ذلك لم يحصل. إنشغَلَ بالي كثيرًا، وخلتُ أنّ ابني مات بسبب ما كان يفعله معي محسن، فركَضتُ إلى أمّي شاكية. هي الأخرى استغرَبَت أنّ شكلي لم يتغيّر خلال الأشهر التي تلَت زواجي، فأخَذَتني إلى طبيب أكَّدَ لنا أنّني لستُ بحامل، وسألَني كيف استنتَجتُ ذلك فأجبتُه بكلّ بساطة: "لأنّ شابًا قبّلَني".
نظَرَ الطبيب إلى أمّي معتقدًا أنّني معوّقة عقليًّا، فمَن لا يعرف كيف تُصنَع الأطفال؟ عندها شَرَحَت أمّي له عن عزلي عن العالم وتلقيني أفكارًا مخيفة، وأضافَت أنّها لم تكن تعرف أنّ فادي اكتفى بِتقبيلي بل ظنَّت أنّه مارس الجنس معي. سَكَتَ الأخصّائيّ وقال لي:
ـ أنتِ سيّدة متزوّجة الآن... ألَم تلاحظي الفرق بين القبلة وممارسة الجنس؟
ـ بلى... ولكنّني كنتُ حاملاً مِن فادي قبل زواجي.
إستسلَمَ الطبيب أمام غبائي الواضح، وعاتَبَ بقوّة والدتي التي خجِلَت مِن نفسها. وفهِمتُ كلّ شيء، فهِمتُ أنّني تزوّجتُ مِن دون سبب مِن رجل لا أطيق شيئًا فيه. دُمِّرَت حياتي إلى الأبد لأنّ أهلي جعلوا منّي صبيّة شبه بلهاء.
عندما خَرَجنا مِن العيادة، أخَذتُ أصرخ وأبكي، ولعَنتُ الساعة التي ولِدتُ فيها عند هكذا أناس، ولم يعد ببالي سوى شيء واحد: إستعادة حياتي.
أوّل شيء فعلتُه كان مَنع محسن مِن الإقتراب منّي. ولأنّه كان بطبعه مطيعًا وكسولاً، لم يُمانع بل أظنّ أنّني أرَحتُه مِن واجبات كان يقوم بها رغمًا عنه. حاوَلتُ الحصول على الطلاق، إلا أنّ عائلتي مانعَت ذلك بقوّة، حتى أمّي التي كانت هي المذنبة الأولى.
لِذا ركَّزت اهتمامي على رزق محسن المُهمَل، فكان عليّ أن أعطي معنىً لحياتي وأن يكون لي هدف، وإلا أنا متأكّدة مِن أنّني كنتُ قد قتَلتُ نفسي، إذ كان لدَيَّ عائلة متعجرفة وجاهلة وأنانيّة مِن جهة، وزوج غير نافع مِن جهة أخرى.
وفي سنّ السابعة عشرة، أي حين كانت الفتيات الأخريات لا تزَلنَ جالسات على مقاعد الدّراسة، كنتُ أنا أزرَع وأهتمّ بالمواشي التي طلَبتُ مِن محسن أن يشتريها. عمِلتُ كالمجنونة مِن الفجر حتى الليل، لا أنام سوى بضع ساعات لأعود إلى مهامي. عمِلتُ لأنسى وكي لا أبكي. عمِلتُ مِن أجل نفسي وليس مِن أجل أيّ شخص آخر، لأنّني أدرَكتُ أنّني لوحدي في هذه الدنيا.
ماتَ محسن بعد عشر سنوات، مِن جرّاء ذبحة قلبيّة حادّة. حزِنتُ عليه لأنّه كان صديقي الوحيد ورفيقي. تابَعتُ العمل في المزرعة وكأنّ شيئًا لم يتغيّر، فلم أكن أريد أن أنحرف عن هدَفي.
بقيتُ أعمل مِن دون توقَف إلى أن وجَدتُ الحب أخيرًا. كان أسعد أيضًا مزارعًا يملك رزقًا أكبر مِن رزقي. تعرَّفتُ إليه في أحد المعارض للمواشي، وأُعجِبَ بطريقة تعاملي مع المنظّمين ووقَف يتأمّلني وأنا أساوم. جاء إليّ وقال لي: "قولي لي إنّكِ عزباء، أرجوكِ!"
ضحِكتُ عاليًا وكانت تلك أوّل مرّة أضحك بها منذ سنين. طمأنتُه بأنّني غير مرتبطة فارتسَمت بسمة عريضة على وجهه.
نحن اليوم متزوّجَان ولدَينا ثلاثة أولاد.
حاورتها بولا جهشان