عندما رأى سامر زوجي أنّني غير قادرة على الإنجاب، وجَدَ أنّني لَم أنجَح بالقيام بما أسماه "مُهمّتي الوحيدة كزوجة"، وقرَّرَ استبدالي بأخرى أكثر خصوبة. وهكذا نقلَني وأمتعتي إلى بيتنا على الشاطئ، وأمّن لي مُساعِدة منزليّة كي لا يقول أحدٌ إنّه أساءَ مُعاملتي، وكأنّ هناك إساءة أكبر مِن نَفيي بسبب عدم إنجابي! لكنّ سامر كان إبن عائلة كبيرة وعلى رأس ثروة وأعمال أيضًا كبيرة ويلزمه ذريّة قادرة على مواصلة مسيرته مِن بعده. يا ليتني لَم أتزوّجه ولَم أصدّق وعوده بحبّ أبديّ لا يقهره شيء أو أحد! لكنّ الله يعلم ما في القلوب، ولا يترك عبيده يُقهرون على يد الظالمين والفاسدين.
بعد أن استقرَّيتُ في بيت الشاطئ، بدأتُ أنظّمُ أيّامي التي كانت مُتشابهة. لَم أستوعِب ما فعلَه بي زوجي، وعملتُ جاهدةً لتفادي الإكتئاب خوفًا مِن أن أمسي ضحيّة، الأمر الذي لَم أكن لأقبله لنفسي. فأنا لستُ إمرأة ضعيفة أو راضخة، بل لطالما كنتُ ذات شخصيّة قويّة أعرفُ كيف أُثبتُ نفسي وآرائي. لكنّ الشرع كان إلى جانب سامر، وتطليقه كان يعني العَيش في القلّة بعد أن تركتُ حياتي القديمة ورائي للزواج مِن الذي وعدَني بالنجوم. صمّمتُ طبعًا أن لا يكون نفيي إلا فترة إنتقاليّة وتحضيريّة لِما هو الأفضل لي. فكنتُ لا أزال في الثلاثين مِن عمري والحياة تفتحُ ذراعَيها لي لأقطف أفضل ما لدَيها.
ترَكني أهلي لمصيري وكأنّ عقري كان وسمة عار عليهم، ولَم أتفاجأ برّدة فعلهم فهم أناس غير مُثقّفين ومِن بيئة لا تؤمِن بدَعم النساء بل بإذلالهنّ عند أوّل فرصة وإلقاء اللوم عليهنّ. أجل، كنتُ مختلفة عنهم، الأمر الذي سبَّبَ لي مرارًا مُشاجرات عنيفة مع باقي أفراد عائلتي. لكنّهم نسوا هذا التباعد عندما علِموا أنّني سأتزوّج مِن رجل ثريّ ومعروف، وباتوا يفتخرون بي عاليًا ويتباهون بتربيتهم الحسنة لي.
وهكذا عشتُ لوحدي مع "ميمي"، العاملة الإثيوبيّة التي أرسلَها زوجي معي وصِرنا مع الوقت صديقتَين نحكي أمورنا لبعضنا ونتقاسم كلّ شيء.
في تلك الأثناء، تزوَّجَ سامر مجدّدًا بعد أن أقامَ حفلاً ضخمًا لتتويج أمله بأن يُصبَحَ أبًا. قرأتُ عن فرَحه في المجلات، وضحكتُ عند رؤيته في الصوَر وكأنّه طاووس سعيد يفردُ ريشه الملوّن بفخر واعتزاز. وإلى جانبه كانت هناك فتاة جميلة ربمّا في الثامنة عشرة مِن عمرها تنظرُ إليه بشيء مِن التبجيل والهمّ. فكان هناك ضغط كبير عليها بعد أن رأَت ما يحدثُ لمَن لا يقوم بعمله على أفضل وجه. حزنتُ مِن أجلها بدلاً مِن أن أكرهها، فما ذنبها؟ المُذنب الحقيقيّ كان سامر الذي لَم يُحبّني كما أنا. ولو انقلَبَت الأدوار، أي لو أنّ زوجي هو العاقر، لَم أكن لأتركه أبدًا.
مرَّت الأيّام بهدوء، وكنتُ أقومُ بنزهات طويلة على الشاطئ برفقة ميمي لنعود ونحضّر الغداء ونأكل سويًّا. كنتُ شبه سعيدة لولا الذكريات التي كانت تسكن عقلي في المساء عندما أتحضّر للنوم. ذكريات صوت سامر وهو يُقسمُ لي بحبّه الأزليّ ومِن ثمّ الجمل البشعة التي استعملَها لتحطيمي وإبعادي.
وحصَلَ ما لَم أنتظره، وهو أنّني تعرّفتُ صدفة إلى رجل صارَ بسرعة مُهمًّا بالنسبة لي.
كنتُ ككلّ يوم أمشي مع ميمي على الرمل وأتفرّج على الأمواج وهي تموتُ على قدميّ، حين ركَضَ نحوي كلب صغير وبدأ ينبحُ. خفتُ قليلاً، فذلك الشاطئ كان خاليًا مِن الناس والحيوانات. وإذ بصوت رجل يُنادي الكلب ويُؤنّبه. وحين وقعَت عينايَ على صاحب الكلب، بدأ قلبي يخفق بسرعة ووقفتُ أمامه غير قادرة على الكلام. كنتُ قد اختبَرتُ للتوّ ما يُسمّى الحبّ مِن أوّل نظرة. وحصَلَ الشيء نفسه لوائل، وصرنا نتلاقى يوميًّا على الشاطئ ونمشي معًا ونتبادل قصصنا وأفكارنا. وتغيّرَت حياتي بشكل جذريّ، فلَم أعد خائفة مِن الغد، وما هو أهمّ أنّني لَم أعُد أفكّر بسامر بتاتًا. كان وائل قد أعادَ لي حبّي للحياة.
إلا أنّني لَم أحسِب حساب ميمي التي كانت موكلة بالتجسّس عليّ مِن قِبَل سامر الذي كان يُحافظ على سمعته بمُراقبة التي كانت لا تزال زوجته. وثقتُ بتلك العاملة وكانت غلطة منّي، فهي أخبَرت زوجي بأنّني تعرّفتُ إلى رجل وأنّني ألتقي به يوميًّا. لم يكن لدَيها المزيد، فلَم أرتكِب أيّ خطأ مع وائل، بل كنّا نمشي سويًّا على الشاطئ وحسب.
تفاجأتُ كثيرًا بقدوم سامر إلى بيت الشاطئ. لَم أعرف السّبب لكنّني شعرتُ بأنّ هناك مُشكلة مِن ملامحه. وبعد دقائق قال لي:
ـ أنا على علم بعلاقتكِ الجديدة، أقصد خيانتكِ لي.
ـ لَم أخنكَ، فذلك الرجل بمثابة صديق. على كلّ الأحوال، حان الوقت لنُنهي مهزلة زواجنا. أريدُ الطلاق.
ـ لن أطلّقكِ! ستبقَين زوجتي إلى الأبد وأيّ علاقة تقومين بها أكانت بريئة أم لا، فسوف أعتبرُها خيانة وأجعلُكِ تدفعين ثمنها.
ـ وما حاجتكَ لي؟ لديكَ عروس فتيّة وأنتَ الذي قرَّرَ إبعادي!
ـ أفعلُ ما اشاء بكِ، فأنتِ مُلكي.
ـ لستُ ملك أحد بل ملك نفسي! إن كنتَ ترفض تطليقي فسأطلقّكَ أنا! أعرفُ أنّني سأخسر أيّ حقّ عندما أفعل، لكنّني لا أريدُ شيئًا منكَ أو مُتعلّقًا بكَ!
ـ إن فكّرتِ بتطليقي فسأحمل ميمي على القول إنّكِ تجلبين عشيقكِ إلى البيت!
ـ لن تفعل ميمي ذلك!
ـ ألَم تكن مَن أخبرَني بحبّك الجديد؟
عندها استوعبتُ أنّني لَم أسأل نفسي كيف علِمَ سامر بوجود وائل في حياتي، وحزنتُ كثيرًا على خيانة ميمي لثقتي بها. قلتُ لسامر إنّني بحاجة إلى بعض الوقت لاتخاذ قراري وهو غادرَ فخورًا بنفسه... كالعادة.
ركضتُ أطلبُ مِن وائل عدم موافاتي إلى الشاطئ لفترة مُعيّنة بعد أن أخبرتُه بالذي حصل. بقيَ لي أن أواجه ميمي وأطالبُها بتفسير مُقنع للذي فعلَتَه. رحتُ إلى غرفتها، وبعد أن أغلقتُ الباب ورائي قلتُ لها إنّني على علم بخيانتها لي. وهذا ما قالته:
ـ سامحيني سيّدتي! سامحيني! أحبُّكِ مِن قلبي وتشرّفتُ بصداقتكِ فأنتِ الوحيدة التي عاملَتني كإنسانة وليس كخادمة.
ـ ولماذا إذًا ركضتِ لإخبار زوجي عن وائل، عالمةً تمام العلم ما فعلَه بي سامر وأنّ لا شيء مُعيبٌ بعلاقتي مع وائل؟
ـ لأنّ السيّد سامر يحتفظُ بجواز سفري وبِمالي... فهو لا يُعطيني راتبي نقدًا بل يُرسله حين يشاء إلى عائلتي وأولادي الذين يعيشون ممّا أتقاضاه. أحبُّكِ كثيرًا لكن هناك أولادي. هل تفهمين المأزق الذي أنا فيه؟ أرجوكِ يا سيّدتي، لا تظلميني!
لَم أجِب بل رحتُ أخبرُ وائل بوضع ميمي، وهو وعدَني بأنّه سيتكفّل بأن يدفع لها ما يحتجزه سامر. أمّا بالنسبة لجواز السفر، فقال لي إنّ بإمكان ميمي اللجوء إلى سفارتها والتبليغ عمّا يحصل لها.
أوصلتُ كلام وائل لميمي وأضفتُ:
ـ سيُحاولُ زوجي إرغامكِ على الكذب بما يخصّ علاقتي بوائل، ولَم يعد هناك مِن سبب لتخافي على نفسكِ وعائلتكِ. هل يُمكنني الوثوق بكِ أم أنّكِ ستخونيني مُجدّدًا؟
ـ لا يُمكنُني نسيان معاملتكِ لي يا سيّدتي، فالكرامة شيء عزيز على كلّ إنسان.
طلبتُ الطلاق مِن سامر وهو حاربَني كثيرًا لكنّه لم يستطع حَمل ميمي على الشهادة ضدّي، الأمر الذي أغضبَه إلى أقصى درجة فأعادَها إلى بلادها مِن دون مال.
وفور زواجي مِن وائل، طلبتُ مِن ميمي العودة إلى البلد والعمل لدَيَّ. حضّرنا أوراقها وتذكرة سفرها وانتظرناها في المطار. كان اللقاء مؤثّرًا للغاية وبكينا كثيرًا. وبعد فترة، علِمتُ مِن ميمي أنّ زوجي السابق كان يخونُني باستمرار خلال سنوات زواجنا الخمس، وأنّه كان يوكلُها بحمل الهدايا لعشيقاته وإلهائي قدر المستطاع خلال تواجده معهنّ. وأضافَت أنّ أفضل شيء حدَثَ لي هو أنّه أبعدَني عنه، فكان لا بّد أن أعلم بشأن خياناته يومًا وأتألّم كثيرًا.
أمّا بالنسبة لزوجة سامر الفتيّة فهي أنجبَت له ولدًا... معوّقًا. حزنتُ كثيرًا للخبر، ليس مِن أجل سامر بل لزوجته وذلك الطفل البريء. هل عاقبَه الله على رذالته أم أنّها صدفة بحت؟ لا أملكُ الجواب طبعًا ولا أُريدُ التفكير بالأمر، فما يهمّني هو إسعاد زوجي الحبيب والإستمتاع بحبّه غير المشروط لي.
مضى على زواجي مِن وائل عشر سنوات، ولا نزال ننعمُ ببعضنا وكأنّنا عرسان جدد ولا تزال ميمي معنا. فهي تذهبُ كلّ سنة إلى عائلتها وتعود إلينا لأنّنا أيضًا عائلتها. فمَن يزرعُ الحبّ يحصدُ الحبّ.
حاورتها بولا جهشان