رسائل مِن مجهول

تفاجأتُ كثيرًا بتلك الرسالة التي وصلَت إلى هاتفي ذات يوم، والتي تقول مِن دون شرح أو مُقدِّمة: "زوجكِ سامِر إنسان كاذب وغشّاش وماكِر. إفتحي عَينَيكِ!" وبالرّغم مِن ذلك اعتبَرتُ تلك الرسالة غير مُهمّة لأنّها قد تكون دعابة ذات قلّة ذوق أم نابعة مِن أحَد ينوي الأذى المجانيّ. فالكلّ يعلَم كَم أنّ سامِر هو صادق ومُحبّ، وطيلة زواجنا لَم أعرِف له عدوًّا. تراه أغضَبَ أحدًا مِن دون قصد؟ وهل كان عليّ اطلاعه على الرسالة؟ قرّرتُ إبقاء الأمر لنفسي، فالمسكين زوجي كان في ذلك الوقت مشغولاً للغاية وهو بغنى عن أمور تافهة. ربّما لو كنتُ امرأة أخرى، لعلّقتُ أهمّيّة على الأمر، وحاولتُ معرفة المزيد مِن ذلك الشخص المجهول، لكنّني اكتفَيتُ بحَظر الرقم لأُثبتَ للمُرسِل أنّني لستُ مُهتمّة وأنّ لا حاجة له ليقول المزيد. سُرِرتُ بنفسي، لأنّني زوجة فاضِلة تغارُ على راحة بال زوجها.

بعد حوالي الأسبوع، وصلَتني رسالة أخرى مِن رقم آخَر تقول الشيء نفسه لكن مع إضافة: "أنتِ مُغفّلة". غضبتُ كثيرًا مِن هذا الكلام، فإضافة إلى مُحاولة زرع الشكّ والفتنة، كان هذا المجهول يُهين ذكائي! لن أسمَح بذلك أبدًا! لِذا أجَبتُ: "أنتم المغفّلون لأنّكم تعتقدون أنّني سأصدِّق كلامكم... بل أنتم جبناء لأنّكم تختبئون وراء شاشة هاتف وتستعملون أرقامًا مجهولة! سأظلّ أحظركم حتّى لو اتّصلتُم بي مُن مئة رقم!". عندها أجابَ المجهول: "إنّني أملكُ إثباتات على ما أقوله، وإن حظَرتِني الآن، بإمكانكِ فكّ الحظر ساعة تشائين". لَم أُجِب، بل حظَرتُ الرقم كما في المرّة السابقة. بقيتُ غاضبة طوال اليوم، وحين عادَ سامِر مِن عمَله في المشفى، نظرتُ إليه مُعاتِبة، وهو لَم يفهَم سبب موقفي هذا. هدأتُ لاحقًا لكنّ رأسي كان مشغولاً بتلك الرسائل. أخبرَني زوجي عن نهاره وكيف هو أجرى عمليّات جراحيّة عديدة، ومِن بينها عمليّة دقيقة جدًّا تكلّلَت بالنجاح. إمتلأ قلبي بالفخر، فسامِر كان قد أنقَذَ خلال حياته المهنيّة عددًا لا يُحصى مِن المرضى، ولا يُمكنُه أن يكون كما وصفَه المجهول. وبعد الانتهاء مِن تناولنا وجبة العشاء، جلَسنا قليلاً مع الأولاد الذين دخَلوا كعادتهم إلى غرفهم، فبقيتُ لوحدي مع زوجي. عندها قلتُ له:

 

ـ هناكَ مَن يُرسل لي أخبارًا سيّئة عنكَ يا حبيبي... أيّ أنّكَ كاذب وغشّاش وماكِر.

 

ـ ماذا؟!؟ أرِني رقم المُرسِل!

 

تفاجأتُ قليلاً مِن ردّة فعله، فأيّ إنسان آخَر كان ليستنكِر لهذا الوصف الشنيع، إلا أنّه كان مُهتمًّا أكثر بمعرفة هويّة المُرسِل. أرَيتُه الهاتف لكنّه لَم يتعرّف على الرقم. للحقيقة، هو رأى فقط الرقم الثاني وليس الأوّل، فلَم أفكِّر أنّ ذلك مهمّ. رأيتُ علامات الإستياء على وجه زوجي لكنّه لَم يقُل شيئًا، بينما اعتقدتُ أنّنا سنتباحث بالأمر سويًّا ونضع احتمالات. خلَدنا إلى النوم لكنّني بقيتُ صاحية في الفراش لساعات طويلة. سامِر هو الآخَر لَم ينَم، لكنّه ادّعى النوم وعلِمتُ ذلك مِن صوت نفَسه، فكلّ امرأة تعرف تمامًا إن كان زوجها نائمًا أم لا. ومنذ تلك الليلة، أمسكتُ هاتفي مرّات عديدة لأفكّ الحَظر عن ذلك الرقم ولكن تراجعتُ. لا، لن أقَع في الفخ! أنا حتمًا أُفسِّر خطأً ردّة فعل زوجي بالنسبة للرسائل ومُحتواها.

مرّ حوالي الشهر وقد وضعتُ الموضوع ورائي، فكنتُ ربّة منزل وأمًّا كثيرة الانشغال، إلى حين وجدتُ تحت باب مدخل البيت ظرفًا أبيض عليه إسمي. فتحتُ الباب لأرى إن كان هناك أحَد، لكنّني لَم أجِد أحدًا. فتحتُ الظرف مهمومة لأنّني فهمتُ أنّ ما بداخله يُشبه الرسائل الهاتفيّة. ولَم أكن مُخطئة. فلقد وجدتُ داخل الظرف، ورقة مكتوب عليها: "لا تكوني عنيدة، إرفعي الحَظر ودعينا نتكلّم بالموضوع". يا إلهي، ذلك الشخص لا يعرفُ فقط رقم هاتفي بل أيضًا عنوان سكَني! شعرتُ بخوف شديد، إذ أدركتُ أنّني وعائلتي لسنا بأمان. لِذا فضّلتُ رفع الحَظر، كَي لا يضطرّ المُرسِل للقدوم إلى بيتي شخصيًّا مُجدّدًا. كنتُ عازِمة على أن أبلِغ الشرطة عمّا يجري حالما أجمَع تفاصيل إضافيّة عن المجهول. لِذا أرسلتُ له ما يلي:

 

ـ ها أنا، ماذا تُريدون؟

 

ـ وأخيرًا! أشكركِ عن رفع الحَظر، فالموضوع بغاية الأهمّيّة.

 

ـ مع مَن أتكلّم؟

 

ـ هذا لا يهمّ؟

 

ـ أنثى أم ذكَر؟

 

ـ هذا لا يهمّ... ما يهمّ هي المعلومات التي بحوزتي والتي عليّ مُشاركتها معكِ.

 

ـ قَبل أن نبدأ بالكلام، أريدُ سماع صوتكم وبعد ذلك نعودُ إلى الرسائل الخطيّة.

 

ـ لا.

 

ـ إذًا سأُعيد الحَظر.

 

ـ وسأجِد وسائل أخرى للاتّصال بكِ.

 

ـ ما هذا الإصرار على إحداث الضرَر للناس؟!؟ دعونا وشأننا!!!

 

ـ بل ستبقَين معي لمعرفة كلّ شيء. بعد ذلك، أعدُكِ بأنّني سأختفي كلّيًّا مِن هاتفكِ وستتوقّف الرسائل مِن أيّ نوع.

 

ـ حسنًا، تفضّلوا.

 

ـ شكرًا...

 

ـ منذ سنوات، توفّيَ في المشفى الذي يعمل فيه زوجكِ سامِر اليوم، جرّاح ماهر وأثَّرَ ذلك على سَير المشفى لأنّ باقي الجرّاحين كانوا معروفين بعدَم تميّزهم. لذا، إبتكرَت إدارة المشفى خطّة ذكيّة، وهي جَلب جرّاح جديد، أي سامِر والترويج له على أنّه ماهِر. فهم اختلقوا لسامِر ماضٍ عريق وإنجازات لَم تحصل، وأُذيعَ الخبَر في كلّ مكان بمُساعدة الأطبّاء والجرّاحين الآخرَين والمُمرّضات. الكلّ دخَلَ اللعبة لأنّ مصيرهم كان مرتبطًا بنجاح سامِر. وكلّنا نعلَم كَم يتأثّر الناس بالأقاويل والأخبار، خاصّة إن كانت آتية مِن جانِب طاقم طبّيّ.

 

ـ إنّها قصّة لا يُصدّقها ولَد صغير! إدارة مشفىً تصنع جرّاحًا؟!؟ وإن كان زوجي فاشلاً كما تدّعون، لماذا تنجَح عمليّاته دائمًا.

 

ـ لأنّ في كلّ عمليّة يُجريها يكون معه جرّاح آخَر أو اثنان وعدد كبير مِن المُمرّضات المُتخصّصات. هو يعلَمُ تمامًا كَم أنّ قدراته محدودة، لِذا يقبَل بهذه المُراقبة الدائمة.

 

ـ المُهمّ أنّ العمليّات تنجَح، وأنّ المرضى يخرجون سالمين مِن تلك العمليّات. للحقيقة لا أرى سببًا لإصراركم على اخباري بالأمر. حبّي له لَم يتأثّر، بل حزِنتُ قليلاً مِن أجله لأنّني أعلَم كَم أنّ حياة مرضاه عزيزة عليه.

 

 

ـ هناك المزيد.

 

ـ لن يهمّني ما ستقولونه بعد ذلك، فلقد فهِمتُ أنّ ما تملكونه مِن تفاصيل وأدلّة هو خاصّ بعمَله، أيّ أنّ لا دخلَ لحياته الشخصيّة معي أو مع أولاده.

 

ـ بل العكس. فسامِر أيضًا مُرتبط بإحدى المُمرّضات.

 

ـ ماذا تعنون؟!؟

 

ـ لقد أقامَ علاقة غراميّة معها، ومنذ سنوات عديدة...

 

ـ تفاهات! هو أخبرَني كيف تلك الممُرّضات تحُمنَ حوله باستمرار.

 

ـ ... ولقد انتهى المطاف به أنّه تزوّجها وله ولَد منها.

 

ـ ماذا؟!؟ أُريدُ إثباتات!

 

ـ ستحصلين عليها، إطمئنّي.

 

ـ أنا لا أصدّقكم، هذا مُستحيل! أين ومتى يراها وابنها؟!؟

 

ـ يراها في المشفى يوميًّا، ويذهب إلى الشقّة التي اشتراها لها ليرى ابنه بعد الدوام وخلال المُحاضرات التي يدّعي الذهاب إليها.

 

ـ لن تقبَلَ أيّة امرأة أن تقضي فقط هذا الكمّ مِن الوقت مع زوجها وألا يرى ابنه إلا قليلاً.

 

ـ هي قبِلَت لأنّه يؤمِّن لهما حياة مُريحة للغاية. إضافة إلى ذلك، هو لطالما وعدَها بتطليقكِ.

 

ـ لكنّه لَم يفعل!

 

ـ حتى الآن! فضميره لا يسمَح له بأن يُطلّق امرأة مريضة.

 

ـ لستُ مريضة!

 

ـ على الاطلاق؟

 

ـ بل أتمتّع بصحّة جيّدة والحمد لله! على كلّ الأحوال، مِن المُستحيل أن يكون سامِر كما تُصوّرونه، فأنا أجِدُ صعوبة مُطلقة بتصديق رواية المشفى، وخاصّة رواية الزوجة الثانية والولَد ومرَضي! لَم يكن يجب عليّ الاستماع إليكم! سأُنهي المُحادثة!

 

ـ مهلاً!

 

وفي اللحظة نفسها، أرسَلَ لي المجهول صورة وثيقة زواج بين سامِر وامرأة تُدعى ميساء وشهادة ميلاد ولَد يحمِل اسم زوجي. بدأ قلبي يخفقُ بسرعة فائقة وشعرتُ بدوار حاد. لَم أجِب ولَم أحظُر المُرسِل، بل أطفأتُ هاتفي لأفكّر بالمُصيبة التي حلََّت عليّ. هكذا إذًا... سامِر كان بالفعل غشّاشًا وماكِرًا في كلّ جوانب حياته. فهو جرّاح مُبتكَر وخائن وضيع. وفهمتُ أنّ المُتّصِل هو حتمًا زوجته الثانية، التي أدركَت أنّها وابنها لن يكونا في المرتبة الأولى في حياة سامِر، أو يحصلا حتّى على حقّهم الأسريّ منه. وهي أرادَت أن تتحقّق مِن حالتي الصحّيّة، لأنّها شكَّت حتمًا في أنّه يكذب عليها. فمَن يدّعي المهارة المهنيّة ومَن يتزوّج ويُنجِب سرًّا لا يكون محطّ ثقة. هي حتمًا وقعَت في حبّه تمامًا كما حصَلَ معي، بعد أن صوّرَ نفسه لها بأنّه محطّ ثقة، على الأقلّ عاطفيًّا.

إتصَلتُ بالتي فضَحت زوجي وقلتُ لها بهدوء: "أريدُ أن أراكِ والصبيّ. أعرفُ أنكِ تلك الميساء، لا تخافي، لن أؤذيكما أو أحدِث المشاكل. أُريدُ أن أراكما لأستوعِب أنّ الأمر حقيقيّ. لن أقولَ شيئًا لسامِر، فلَم أتّخِذ قراري بعد في ما يخصّه.

 

دخلتُ شقّة زوجة سامِر الثانية، وهي كانت بانتظاري بصحبة ولَد صغير وجدتُه جميلاً للغاية. فتلك المرأة كانت رائعة الملامح وصغيرة السنّ. ألقَينا التحيّة على بعض وركضَ الولَد إليّ حامِلاً معه لُعبته. جلَسنا بصمت، فلَم أتصوّر أبدًا حدوث ذلك الموقف. كنتُ قد أخذتُ معي آخِر تحاليلي الصحّيّة التي أُجريها سنويًّا، لأثبتَ لها أنّني لستُ مريضة. ثمّ هي اعتذرَت على مطاردتي هكذا، إلا أنّها لَم تعُد تتحمّل الوضع، فحياتها كزوجة كانت شبه معدومة وابنها يربى تقريبًا مِن دون أب. ثمّ نظرتُ إلى الشقّة النظيفة والمُزيّنة بذوق وإلى ميساء وابنها، وعلِمتُ ما عليّ فعله.

في المساء، لدى عودة سامِر، جلَستُ معه قائلة:

 

ـ أعلَم بخصوص زواجكَ الثاني وابنكَ.

 

ـ مَن... لا، ليس هناك...

 

ـ أصمُت! لن أدعكَ تخدعني بعد اليوم، كفاكَ كذبًا! إعلَم أنّكَ لَم تعُد تعني لي شيئًا على الاطلاق، ولَم أعُد أحترمُكَ كزوج أو كرجُل.

 

ـ ماذا تُريدين منّي؟ الطلاق؟

 

ـ لا يا عزيزي، فأنا لا أعمَل وليس لي مدخول... لقد أعطَيتُكَ سنوات عمري وأولادًا رائعين. لن أقبَل بأن أُرمى جانبًا بسبب امرأة شابّة... لكنّني لن أقبَل أن تهمل عائلتكَ الثانية خاصّة ابنكَ الصغير الذي لا دخل له بشيء. سأبقى زوجتكَ وستقسم وقتكَ بين هنا وهناك بِعدل، كما أوصاكَ الله أن تفعل، وستصرفُ علينا جميعًا بعدل.

 

ـ لا أُريدُ ذلك.

 

ـ بل ستُريد... وإلا فضحتُ أمركَ في ما يخصّ عملكَ في المشفى، نعم، أنا على علِم بكلّ شيء.

 

ـ لكن...

 

ـ سأُدمّرُكَ إن رفضتَ، صدّقني، فأنا إمرأة مجروحة لأقصى درجة. لن يعرف أولادنا بأمر عائلتكَ الثانية إطلاقًا فلا أُريدُهم أن يتأذّوا نفسيًّا، وسيربى ابنكَ الآخَر أيضًا مُتّزِنًا نفسيًّا لأنّكَ ستُعامله كما عامَلتَ أولادنا. لن تلمُسني مُجدّدًا فأنا أشمئزُّ منكَ، بل ميساء ستلعبُ دوري، وهنيئًا لها بكَ!

 

أدرَكَ سامِر أنّ لا خيار له، وأنّني على حقّ في ما يخصّ زوجته الثانية وابنه منها. وللحقيقة، أعيشُ اليوم حياة هنيئة للغاية!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button