عندما التقَينا للمرّة الأولى، لَم أرَ أيّة مودّة في عَينَي دنيا، المرأة التي كانت ستصبحُ حماتي بعد أشهر قليلة. لكنّها بقيَت مُهذّبة وحدَّثتني بلطف أرادَته طبيعيًّا. كنتُ أعلمُ سبَب عدَم ترحيب حماتي بي، فهي كانت مُصرّة على تزويج إبنها رامز مِن ريما إبنة أختها التي كانت تُحبُّها فوق كلّ شيء. لكنّ قلب رامز إختارَني ولَم يقبَل بسواي.
طلَبَ منّي خطيبي إستيعاب أمّه، فهي كانت حسب قوله، امرأة مُحبّة وحنونة، وهو كان مُتأكّدًا مِن أنّها ستُحبُّني بعد أن نتزوّج. لِذا، دخلتُ بيت دنيا ورامز مليئة بالتفاؤل. أجل، كان عليّ السّكَن مع حماتي، لأنّها كانت تملكُ بيتًا جميلاً وكبيرًا ولأنّها أمّ لولد وحيد. لا أنكُرُ أنّني كنتُ في البدء خائفة مِن العَيش مع إنسانة إعتادَت أن تكون الكلمة الأخيرة لها، لكنّ زوجي وعَدَني بأن يقف دائمًا إلى جانبي. إلا أنّ وعوده بقيَت وعودًا، وكان يجدرُ بزوجي أن يعرف ما بإمكان أن تفعله امّه لنَيل مرادها... أي التخلّص منّي.
في الفترة الأولى مِن زواجي، وجدتُ الحياة جميلة مع زوج مُحبّ وحماة لا تتدخّل بشؤوني. لكنّني كنتُ شابّة مُعتادة على مُخالطة الناس والجيران والخروج مع صديقاتي بشكل مُنتظم. لِذا فرِحتُ كثيرًا عندما عرّفَتني دنيا على صديقاتها وبناتّهنّ، وصرتُ أجدُ بعض السلوى معهنّ. أحبَبتُ تلك الصبايا جميعهنّ، لكنّني وجدتُ أنّني أكنُّ مودّة خاصّة لنوال التي كانت تشاطرُني أذواقي وميولي. ومعها كنتُ أشعرُ أنّني مع أختي التي هاجَرت إلى أوروبا منذ سنوات والتي كانت الوحيدة التي فهِمَتني.
كنتُ أعرفُ أنّ أمر مُصادقتي لِبنات معارف دنيا سيُفرحُها، فبذلك كنتُ أثبتُ لها أنّني أقدّرُ ما تفعلُه مِن أجلي وأنّني أحبُّ مَن تحبّ. رامز فرِحَ هو الآخر بعدما سئِمَ مِن سماعي أردّدُ أنّني أملّ في بيت كبير طوال النهار. فالجدير بالذكر أنّ الأعمال المنزليّة والطهو كانت تقوم بها صفاء، عاملة تأتي في الصباح وترحل في المساء.
بعد فترة، صرِتُ أذهبُ مع حماتي لملاقاة صديقاتها عند أمّ نوال، وأجلسُ مع الإبنة بينما كانت دنيا تلعبُ بالورق. ولأنّ تلك السيّدات كنّ تلعبنَ على مبالغ ماليّة، طلبَت منّي دنيا عدَم إخبار زوجي بالأمر لأنّه كان يبغضُ المَيسَر. بالطبع لَم أفشِ سرّها، أوّلاً لأنّني أردتُ نَيل محبّتها لي، وثانيًا لأنّني كنتُ فرِحة بأنّها تأخذُني معها أينما ذهبَت. فبذلك كنتُ أستمتعُ بوقتي بدلاً مِن الجلوس في البيت أثناء وجود رامز في عمله. وبينما كانت دنيا تجلس على طاولة لعب الورق، كنتُ أبقى مع نوال في غرفتها ونتبادل الأحاديث والأخبار. وفي تلك الفترة بالذات، كنتُ فعلاً سعيدة. فنوال كانت فعلاً صبيّة مُحبّة تهتمُّ لأمري كثيرًا، وتفهمُ مدى صعوبة علاقتي بحماتي. فهي الأخرى لم تكن على تفاهم مع دنيا بالرّغم مِن أنّها كانت صديقة مقرّبة لأمّها. لكن في ما مضى جرَت مواجهة بين نوال ودنيا، ولهذا السّبب لَم تكن تأتي صديقتي الجديدة لزيارتي في بيتي. على كلّ الأحوال، لَم نكن بحاجة إلى أن تأتي نوال إليّ ، إذ كان بإمكاني رؤيتها في بيتها ساعة أشاء أو في أحد المقاهي.
لكن بالرّغم مِن كل الدّلائل، لَم أدرك ما كانت حماتي تُحيكُه لي. فحتى في مُخيّلتي، لَم أكن قادرة على تصوّر أنّ بإمكان دنيا أن تكون بهذا الكمّ مِن الحنكة والشرّ. فذات يوم جاء إليّ زوجي غاضبًا:
ـ أصحيح أنّكِ تلعبين المَيسَر؟
ـ أنا؟ هذا أمر مستحيل يا حبيبي!
ـ لقد وصلَني أنّكِ تفعلين، وأنّكِ مُدينة لإحدى السيّدات بمبلغ كبير.
ـ لم أمسك ورقة لعب في حياتي، فكيف لي أن أكون مدينة بشيء لأحد؟
ـ هذا يعني أنّ أمّي تكذب؟
ـ أمّكَ هي التي قالَت لكَ ذلك؟!؟
ـ أجل، المسكينة أرادَت حفظ سرّكِ كي لا تُسبّب لنا المشاكل، إلا أنّ السيّدة التي أقرضتكِ المال باتَت تطالبُها به كونها حماتكِ.
ـ هذا كذب وافتراء! أمّكَ هي التي تلعب بالمَيسَر وليس أنا!
ـ إلى هذا الحدّ وصَلَ كرهكِ لأمّي؟ أهكذا تبادلينَها اهتمامها بكِ بعد أن تقبّلَتكِ وأدخلَتكِ إلى مُجتمعها الخاص؟ لَم أكن أعرفُ أنّكِ، إلى جانب لعب المَيسَر، كاذبة وناكرة للجميل!
ـ ما هذا الكلام الجارح؟ كيف تكلّمُني بهذه الطريقة؟!؟ إسأل صديقاتها وستعرفُ الحقيقة! فهنّ تجتمعنَ عند أمّ نوال كلّ أسبوع للعب الورق.
ـ أمّ نوال؟ ومَن تكون نوال؟
ـ صديقتي! أعني أنّها إبنة صديقة أمَّكَ التي إسمها سامية.
ـ ليس لسامية إبنة إسمها نوال. على كلّ حال، سامية ليست صديقة أمّي بل أختها. هي خالتي وابنتها إسمها ريما.
ـ ماذا؟!؟ ريما نفسها التي كانت تُريدُ أمّكَ تزويجها لكَ؟
ـ أجل. لكن ليس هذا موضوع نقاشنا، بل إدمانكِ على المَيسَر... والكذب. لقد خذَلتِني... وأنا مُحتار لكيفيّة مُعالجة الأمر. فقد أكون أسأتُ الإختيار عندما تزوّجتُكِ.
وخرَجَ رامز مِن دون أن يُعطيني فرصة لأثبتَ براءتي.
هكذا إذًا... لعبَت دنيا عليّ لعبة مُحكمة هي وصديقاتها... ونوال كان اسمها الحقيقيّ ريما. كلّ ذلك لتسويد صفحتي أمام زوجي لحمله على تركي، وتزويجه إبنة خالته كما كان قد قُرِّرَ قبل مجيئي. لكن بغياب أيّ حليف لي، لَم أكن قادرة على الدفاع عن نفسي. فكلهنّ كنّ متواطئات ولا مجال لاستمالة إحداهنّ إليّ. عندها قرّرتُ أنّه مِن الأفضل أن أتركَ مكانًا لَم أعُد مرغوبة فيه، والعودة إلى بيت أهلي وذلك قبل أن أُهان. لقد كان مِن الواضح أنّ دنيا مُستعدّة لفعل أيّ شيء لإبعادي. لِذا، رحتُ أوضّب أمتعَتي وأنا أبكي.
لكنّ الله يقفُ دائمًا إلى جانب المظلومين ويبعثُ لهم مَن ينتشلُهم مِن مصيبتهم. فعندما كنتُ أحزمُ حقائبي، دخلَت غرفتي صفاء، العاملة، ووقفَت تنظرُ إليّ بحزن عميق. ثمّ قالَت:
ـ أنتِ أفضلهم... لماذا ترحَلين؟
ـ لأنّني لا أملكُ القوّة اللازمة ولا الأسلحة لِمحاربة دنيا. لقد كذبَت بشأني والكلّ مُتكاتِف ضدّي.
ـ ليس الكلّ يا سيّدتي.
ـ ماذا تقصدين؟
ـ أعرفُ أنّني مُجرّد عاملة ولا أحد يحسبُ حسابي أو ينتبه لوجودي. وهذا بالذات ما يُتيح لي معرفة كلّ ما يجري. فلقد سمعتُ السيّدة دنيا مرارًا وهي تتكلّم عبر الهاتف مع صديقاتها عن خطّتها للإيقاع بكِ. وخطَرَ ببالي إخباركِ بالذي يجري، إلا أنّني خفتُ على نفسي، فهذا العمل هو كلّ ما لدَيّ، ومِن دونه لا أستطيع إطعام أولادي بعد أن ماتَ زوجي وصِرتُ المُعيلة الوحيدة لهم.
ـ أفهمُ وضعكِ... إنّ مُساندتكِ المعنويّة كافية، فلا تخافي لأنّني لَن أطلب منكِ المُخاطرة بعملكِ مِن أجلي. في كلّ الأحوال، حتى لو أخبَرتِ زوجي بما تعرفينَه، فهو لن يُصدّقكِ. أمّه أهمّ مِن كلّ الناس... وحتى أهمّ منّي أيضًا. هل أستطيع لَومه؟ فهو لا يعرفُني كفاية لتصديقي دون والدته التي يعتقدُها ملاكًا. لكن أن يظنّ أنّني كاذبة ومُدمنة على المَيسَر، فهذا أمر صعب جدًّا عليّ.
ـ قد تستطيعين حَمل السيّد رامز على اكتشاف الحقيقة بنفسه.
ـ كيف؟
ـ بجعله يرى بعَينَيه مَن يلعبُ المَيسَر فعلاً. فالسيّدة دنيا تلتقي بصديقاتها كلّ أسبوع. سأعرفُ بطريقتي في أيّ بيت ستتواجد فيه لأنّها كانت تقصدُ منزل أختها في الأونة الأخيرة حصريًّا مِن أجلكِ، أي لتستفرد إبنة أختها بكِ، وتحصل على كلّ معلومة قد تستعملُها ضدكِ.
ـ يا للفظاعة... حسنًا، سأنتظرُ منكِ إجابة واضحة وأكيدة. لكن كيف أثبتُ لزوجي أنّ نوال هي بالفعل ريما؟
ـ أليس لدَيكِ رسائلها الهاتفيّة؟
ـ بلى، طبعًا، لكن لا بدّ أنّها استعملَت ليس فقط إسمًا مُستعارًا بل أيضًا رقمًا آخر.
ـ هذا لا يهمّ، فمِن مُحتوى الرسائل يُمكنكِ إثبات أنّها على الأقل مُقرّبة مِن السيّدة دنيا وشلّتها.
ـ أنتِ على حقّ! كيف لَم أفكّر بكلّ ذلك؟ كَم أنّكِ حكيمة!
ـ لا يا سيّدتي... هذا لأنّني خارج المأزق، على خلافكِ. فعندما يكون الإنسان واقعًا في مصيبة، خاصّةً بعدما يكون قد ظُلِمَ مِن الذين وثَقَ بهم ووقَعَ ضحيّة خطّة دنيئة، لا يستطيع التفكير بوضوح بل يُفضّل الهروب... كما أنتِ على وشك أن تفعلي.
ـ هل أبقى إذًا؟
ـ لا، إرحلي الآن، لكن ليس قبل أن نتبادل أرقامنا الهاتفيّة. سأتّصلُ بكِ فور معرفتي بما يُفيدُكِ.
ـ لماذا تُساعدَيني هكذا؟
ـ لأنّكِ طيّبة وبريئة وليس لدَيكِ أحد ليحميكِ. وقد يحصلُ الشيء نفسه لإحدى بناتي.
تركتُ البيت قبل عودة رامز مِن عمله وأثناء غياب حماتي، وتركتُ رسالة له تقول: "لقد رحلتُ لأنّكَ لَم تصدّقني ولأنّكَ لَم تُعطِني فرصة لإثبات براءتي. سأتّصلُ بكِ قريبًا للتحدّث معكَ عن معاملات طلاقنا. لا أزالُ أحبّكَ، لكنّكَ الذي خذَلتني وليس العكس."
لَم يُحاول رامز التواصل معي بعد أن اكتشفَ رحيلي، وحزنتُ لذلك كثيرًا. إلا أنّ صديقتي صفاء إتّصلَت بي بعد أسبوع لتُعطيني عنوان وموعد لقاء حماتي بصديقاتها للعب المَيسَر. عندها طلبتُ رامز وقلتُ له إنّني سأمرُّ به في مقرّ عمله لآخذه معي إلى المُحامي في اليوم والساعة التي حدَّدَتها العاملة. حاوَلَ زوجي عدَم رؤيتي، إلا أنّني أصرَّيتُ قائلة: "مِن الأفضل أن نُنهي هذه المسألة بأقرب وقت، والمحامي بانتظارنا." أقفلتُ الخط وقلبي يدقّ بسرعة. فكان مِن الضروريّ أن أبيّض صفحتي أمام زوجي.
وهكذا أخذتُ رامز مِن عمله إلى العنوان الذي أعطَتني إيّاه صفاء. صعدنا السلالم، وقرعتُ باب شقّة صديقة حماتي. فتحَت لنا ريما التي كانت تسمّي نفسها نوال، وتفاجأت لأقصى درجة عند رؤيتي ورامز. لَم أقل شيئًا، بل أزَحتُها جانبًا ودخلتُ وزوجي الصالون لنرى طاولة حولها نساء عديدات ومِن بينهنّ طبعًا دنيا. عندها قلتُ لرامز: "أنظر بنفسكَ مَن هو مُدمِن على المَيسَر. أمّا بالنسبة لإبنة خالتكَ ريما، فسأبعثُ لكَ بعد قليل كلّ محادثاتها معي تحت إسم نوال، وستعرفُ مدى مكرها هي وأمَّكَ. الوداع."
...وركضتُ أنزلُ السلالم وقلبي خفيف كالفراشة. لَم يعد يهمُّني شيء بعدما أثبتُّ براءتي علنًا وبيّنتُ لرامز كَم أنّ أمّه بشعة.
بقيتُ مُصِرّة على الطلاق حتى بعد أن حاوَلَ رامز إسترجاعي. فكيف أعودُ إليه بعد أن أهانَني هكذا؟ وحتى لو غفرتُ له، هل سيستطيع الإفلات مِن تأثير أمّه عليه؟ أشكُّ بذلك، خاصّة أنّ دنيا ستنوي حتمًا الإنتقام منّي.
بقيتُ طبعًا على علاقة وطيدة مع صفاء، وصِرتُ أزورُها في بيتها وأدرّسُ أولادها لأخفّف مِن حملها الثقيل. وحين بدأتُ العمل، ساعدتُها ماديًّا قدر المُستطاع. فتلك المرأة إنسانة عظيمة تستحقُّ كلّ خير بعد أن عاملَتني وكأنّها أمّ أو أخت كبيرة لي. وحين أقرّرُ الزواج ثانية، سأعملُ جهدي لأجلب صديقتي للعمل لدَيّ لأريحُها قليلاً وأردُّ لها بعضًا مِن جميلها.
حاورتها بولا جهشان