تحوّلَت تلك الخزانة إلى هاجس لدَيَّ، وصرتُ أحومُ حولها طوال الوقت سائلاً نفسي عمّا في داخلها. فالحقيقة أنّ ليس لزوجتي أسرارًا وكَون تلك الخزانة مُقفلة، وجدتُ الأمر مُريبًا وأحبَبتُ طبعًا معرفة نوعيّة مُحتواها. قد يقولُ البعض إنّ للزوج حقوقًا على زوجته، لكنّني لا أجدُ إكراه مايا على فتح خزانتها أحد حقوقي، بل أعتبره طغيانًا وترهيبًا. إضافة إلى ذلك، هكذا تصرّف قد يُؤدّي إلى المزيد مِن الأسرار، الشيء الذي لَم أكن أُريدُه.
سألتُ طبعًا مايا أكثر مِن مرّة عمّا تُخبّئه في ذلك المكان، وهي كانت تبتسمُ وتُجيب:
- لا شيء مهمًّا يا حبيبي، لا تُشغل بالَكَ.
كيف لا أُشغلُ بالي؟ فكلّما دخلتُ غرفة نومنا تظهر الخزانة أمامي شامخةً وكأنّها تُغيظُني وتسخَرُ مِن تفوّقها عليّ. أجل، كنتُ أمقتُ تلك الخزانة الخشبيّة الكبيرة التي جلبتُها بنفسي إلى البيت بعد أن وجدتُها عند بائع أثريّات. ويا لَيتني لَم أفعل!
في ذلك الأوان، لَم أكن أعلم المثَل الأجنبيّ الذي يقول: "ما لا تعرفه لن يؤذيكَ"، وإلا تراجعتُ عن فضولي واكتفَيتُ بحبّ مايا العظيم لي. فتلك المرأة كانت الزوجة المثاليّة لي والأمّ المثاليّة لأولادنا، ولَم أشكُ منها يومًا. لماذا إذًا وجَبَ عليّ فضح أسرار قد لا تكون مُتعلّقة بي؟
مع الوقت تحوّلتُ، للأسف، إلى رجل لن يردعه شيء للوصول إلى مُبتغاه. لِذا تصفّحتُ الإنترنت ليلاً نهارًا لمعرفة كيفية فتح الخزانة مِن دون ترك أيّ أثر، فآخر ما كنتُ أريدُه هو أن تعلم مايا أنّني هذا النوع مِن الرجال. كنتُ أجهل ما قد تكون ردّة فعلها بعد أن طلَبت منّي غير مُباشرةً عدَم التقصّي عن الأمر. فقد نسيتُ أنّ مِن حقّ أيّ إنسان أن تكون لدَيه خصوصيّته وأسراره إن لَم تكن تؤذي أحدًا.
ولأنّني صرتُ فعلاً معدوم الضمير، إنتظرتُ أن حانَ موعد ذهاب زوجتي لزيارة قبر أمّها لأتصرّف. خيانة مُزدوجة مِن جانبي لستُ اليوم فخورًا بها.
خلعتُ قفل الخزانة كما رأيتُ صاحب الفيديو يفعل على الإنترنت، وجلستُ على السرير أتفرّج باعتزاز على أحشائها المفتوحة أمامي... وكأنّني بقرتُ بطن مارد جبّار. لَم أتفحّص ما بداخلها على الفور، بل تركتُ نفسي أتلذّذ على مهلي بانتصاري.
بعد ذلك بدأتُ أفتّشُ في الخزانة، ولفتَت نظري علبة خشبيّة جميلة علِمتُ على الفور أنّها ما أبحثُ عنه. أخذتُها بتأنٍّ وعدتُ أجلس على حافة السرير. كانت بداخل العلبة رسائل وصوَر. بدأ قلبي يدّق بسرعة فقد يكون لمايا عشيق مُتيّم، فمَن يكتبُ الرسائل في أيّامنا هذه إلا إذا كان رومنسيًّا لأقصى درجة؟ الصّوَر لَم تكن مُهمّة، إذا أنّها بالأسود والأبيض أي قديمة للغاية.
قرأتُ بسرعة مُعظم الرسائل التي لَم تكن تحملُ إسم المُرسِل أو المُرسَل له، إلا أنّها كانت مليئة بشغف لَم أعرفه مِن قبل.
وقبل أن يتسنّى لي استيعاب ما كان يتبادله هذان العاشقان، دخلَت مايا الغرفة وصرخَت عند رؤية المشهد. كانت قد عادَت لكنّني لَم أسمعها لكثرة انشغالي. قفزتُ مِن مكاني بإرتباك واضح، وحين لَم أجد مُبّررًا لفعلتي صرختُ بزوجتي:
- هكذا إذًا... لدَيكِ عشيق!
نظرَت مايا إليّ بمزيج مِن الغضب والأسف وقالَت بصوت خافت:
- تمسكُ بالرسائل فلا بدّ أنّكَ قرأتها وتتّهمني؟!؟ ألا تُجيد القراءة أم أنّ الغيرة والفضول أعمَياكَ؟ هاتِ ما في يدِكَ!
كدتُ أمتثل لأمرها لكنّني تراجعتُ في آخر لحظة:
ـ لا! لن تفلتي بفعلتكِ! أريدُ معرفة هويّة ذلك الرجل!
ـ إنّه أبي أيّها الأحمق! كان يُراسل أمّي، ألَم تفهم ذلك مِن قراءة تلك السطور!
ـ دعيني أتأكّد مِن ذلك.
جلستُ ومايا على السرير، وأخذتُ أُعيد قراءة الرسائل على مهل وهي تبكي بصمت.
وسرعان ما توضّحَ لي أنّ المُرسِل يُخاطبُ حبيبته البعيدة التي كانت تعيشُ منذ أكثر مِن أربعين سنة في قرية مِن قُرانا. أمّا هو، فكان يعمل في إحدى دوَل الخليج. في رسائله كان يسألُ عن جنينه، ويعِدُ حبيبته بالعودة بأسرع وقت للزواج منها لإصلاح غلطته. لكنّ الرسائل إنقطعَت فجأة. نظرتُ إلى مايا سائلاً:
ـ لماذا توقّفَ أبوكِ عن الكتابة؟ هل لأنّه عادَ وتزوّجَ مِن أمّكِ؟
ـ لا... بل لأنّه مات قبل أن يتسنّى له ذلك.
ـ يا إلهي! وماذا فعلَت أمّكِ المسكينة بالجنين؟ هل أسقطته؟
ـ أنا الجنين... ألَم أقل لكَ إنّ الرسائل مِن أبي؟
ـ أعذريني يا حبيبتي... فهل يعني ذلك أنّ الرجل الذي عرّفتِني إليه حين خطبتُكِ ليس أباكِ؟
ـ صحيح ذلك... لكنّه أعظم رجل عرفتُه بحياتي.
ـ أنا مُتأكّد مِن أنّه أعظم منّي... كم أخجلُ مِن نفسي! لكن تابعي.
ـ حين ماتَ أبي كادَت أمّي أن تجنّ، فالفضيحة كانت وشيكة، لِذا ركضَت جدّتي تفتّشُ لها عن عريس يقبلُ بعروس حامل. ووجدَت فؤاد وهو شاب مُتيّم بأمّي منذ صغره. وهكذا تزوّجا، ومع الوقت صارَت أمّي تحبّ فؤاد وهو عامَلَني وكأنّني ابنته، حتى أنّه رفَضَ أن يصير لي أخ أو أخت خوفًا مِن أن يُفرّقُ ذلك بيننا... إنّه رجل عظيم بالفعل. لكنّ موت والدتي حطّمه... المسكين.
ـ ومتى علِمتِ أنّ فؤاد ليس أباكِ؟
ـ عندما وجدتُ الرّسائل، أي قبل أن أتعرّفَ إليكَ بفترة قصيرة. كانت أمّي قد توفّيت وقرّرتُ جمع أمتعتها. رحتُ إلى فؤاد أسأله عن الذي قرأتُه، فقد كان مِن الواضح أنّه ليس صاحب الرسائل. عندها، أخذَني بين ذراعَيه وأخبرَني الحقيقة. لَم أغضب، فهو أبي حتى لو لَم أولَد منه. جلَبتُ الرسائل معي إلى هنا، فهي جزء مِن حياة أمّي الحبيبة، وخبّأتُها عنكَ كي لا أشوّه سمعتها لدَيكَ. أمّي أيضًا إمرأة عظيمة ولن أقبل أن يُقال أيّ شيء سيّىء عنها.
ـ سامحيني يا مايا... لا بدّ أنّني أبدو الآن صغيرًا أمام عظمة والدَيكِ.
ـ لا... لكنّكَ لَم تحترم خصوصيّاتي، ولَم تثق بي كفاية لتدَع هذه الخزانة وشأنها.
ـ سأثبتُ لكِ أنّني جديرٌ بكِ، سترَين.
أخَذنا نتفرّج على الصوَر، وأرَتني مايا صورة أبيها البيولوجيّ عندما كان شابًّا وصوَر أمّها قبل لقائها بفؤاد. وسألتُ زوجتي:
ـ هل تظنيّن أنّ والدتكِ كانت لا تزال تحبّ والدكِ الحقيقيّ؟ فهي احتفظَت بالرسائل والصوَر.
ـ ربمّا... لكنّها كانت بغاية السعادة مع فؤاد. قد تكون الرسائل مُجرّد جزء مِن ماضيها إحتفظَت به كما يفعلُ البعض. لن نعرف الحقيقة أبدًا فلا داعٍ للتفكير بالأمر.
ـ ما رأيكِ لو نزورُ فؤاد قريبًا... أشعرُ بحاجة إلى رؤيته، فقصّته حرّكَت أمورًا جميلة ونبيلة في قلبي وقد أحتاجُ إلى أن يمدَّني هذا الرجل بقسم
مِن مروءته.
ـ لنذهب غدًا.
حادثة الخزانة غيّرَت حياتي بأسرها، فلقد أصبَحَ زواجنا أقوى مِن قبل إذ أُضيفَت إليه تلك اللمسة الشاعريّة والرومنسيّة التي كنّا بدأنا نفقدُها مع الوقت. وبالطبع لَم أعد أسمَح لأيّ فكرة سلبيّة أن تخطر ببالي مِن جهة مايا، واختفَى فضولي إلى الأبد.
ماتَ فؤاد بعد بضع سنوات فبكَيتُه مِن قلبي، وصرتُ أذهبُ مع زوجتي لزيارة قبرَي أمّها وأبيها. فليرقدا بسلام... هذا كلّ ما أتمنّاه لهما.
حاورته بولا جهشان