كنتُ صبيًّا في الحادية عشرة مِن عمري، ولَم يكن يُخيفني شيء أو أحد سوى الخالة عايدة. فعند مُجرّد ذكر إسمها أمامي كانت ترتجفُ أطرافي وأسدّ أذنيَّ بيدَي مُحاولاً محو صورتها وأخبارها مِن رأسي. للحقيقة، كانت تلك المرأة مُسنّة للغاية وشعرها الأبيض منكوشًا حول رأسها ووجهها، وينقصُها عدد كبير مِن الأسنان في فمها. جسمها النحيل أعطاها طابعًا خياليًّا، وحين كانت تمشي يخالُ المرء أنّها تطوف فوق الأرض. شكلها الخارجيّ لَم يكن هو السبب الوحيد لخوفي منها، بل أيضًا القصص التي تداولها أفراد البلدة حولها، فهي كانت موصوفة بأعمال شعوذة ويُقسمُ البعض أنّها وراء موت دجاج ومواشٍ ومرَض أولاد مَن أساء إليها. الإقتراب مِن منزلها كان أمرًا يوصَف بالشجاع، فالويل لمَن يجرؤ على إزعاج الخالة عايدة أو أحد قططها التي لا تُحصى.
كنتُ آنذاك فردًا في مجموعة صبيان في مثل سنّي، وكنّا نقوم بأمور عديدة خلال فرصنا المدرسيّة لنقتل الوقت، ومنها تحدّي بعضنا للقيام بما هو غير اعتياديّ. وحصَلَ أنّ التحديّ القائم في تلك الفترة كان التجوّل عند الغروب حول منزل "الساحرة"، وصفر لحن معيّن. ووقَعَ الإختيار عليّ بالذات، فقمتُ طبعًا بالرفض وبقوّة، مِمّا جلَبَ عليّ سخرية رفاقي الذين صاروا ينعتوني بالجبان ويُكلّموني وكأنّني بنتًا. طفَحَ كيلي ففكّرتُ جدّيًّا بقبول التحدّي فقط لإسكات أصدقائي حتى لو كان سيكلّفُني ذلك حياتي. فالموت كان احدى المخاطر التي كنتُ سأواجهُها وتصوّرتُ حزن أهلي وبكائهم عليّ حين يجدون جثّتي في النهر وعليه آثار سحر تلك المرأة البغيضة. لَم أقُل لذويّ ما أنوي فعله كي لا يُمانعوا ويظنّ باقي أفراد المجموعة أنّني افتعلتُ تلك المُمانعة. حضّرتُ شنطة ظهر صغيرة وضعتُ فيها سكّينًا أيضًا صغير وشعلة وحبلاً، في حال أردتُ الهروب مِن جهة التلّ.
إجتمَعَ الصبيان عند آخر البلدة بانتظاري، وحين وصلتُ هنّأوني على شجاعتي وأعطوني توصيات عديدة لأتفادى "الساحرة". وقبل أن أنطلِق، ودّعوني وكأنّني لن أعود حيًّا، الأمر الذي زادَ مِن الخوف الذي فعلتُ جهدي ألا يظهر عليّ. خلتُ حقًّا أنّ حياتي ستنتهي في ذلك المساء وحبستُ دموع حزن على نفسي.
مشيتُ وحدي تحت ضوء القمر، وبدأتُ أتمرّن على اللحن الذي عليّ أن أصفره، لكن لَم يخرج أيّ صوت منّي لأنّ شفتَيَّ لَم تنفكّان عن الرجفان. ثمّ رأيتُ بيت العجوز في آخر الطريق وفكّرتُ بالعودة، لكنّني تراجعتُ عن قراري خوفًا مِن تهكّم أصدقائي. كان قد حلَّ الظلام وخيَّمَ سكون مُقلق، حين بدأَت تتعالى أصوات سكّان الليل، أيّ الكائنات التي تخرج في مثل هذا الوقت لتصطاد، وصِرتُ ألتفِتُ عند أقل صوت أو حركة وألعَن ساعة قبولي التحدّي.
وصلتُ قرب البيت المذكور واختبأتُ خلف شجرة لأُراقب أيّ تحرّك. أخرجتُ سكّيني مِن الحقيبة وتقوقعتُ على نفسي. عندها سمعتُ صوتًا غريبًا ليس بعيدًا منّي وظننتُ حقًّا أنّ قلبي توقّفَ عن الخفقان. إستمرَّ الصوت الذي كان يُشبه أنين استغاثة فتحرّكَ فضولي ورحتُ أبحث عن مصدره. تفاجأتُ بإيجاد هرّ عالق بين أغصان يابسة ويموء مِن الخوف والألَم، فرجله كانت قد انكسرَت مِن كثرة مُحاولته الافلات. إطمأنّ قلبي، فهو لَم يكن سوى هرّ عاديّ، وأخذتُ أقصّ الأغصان الواحد تلو الآخر بسكّيني لتحرير الحيوان المسكين. كنتُ أحبّ الحيوانات وأردتُ اقتناء كلب أو هرّ إلا أنّ والدتي لَم تقبل بذلك. حمِلتُ الجريح بين ذراعَيّ وداعبتُه ليهدأ قليلاً ويشعر بأنّني لستُ عدوًّا له بل أنوي مُساعدته. لكن ما كان يجدرُ بي أن أفعل بشأن رجله؟
في اللحظة نفسها فُتِحَ باب "الساحرة"، وبانَت العجوز على العتبة وبدأَت تُنادي "فرفور! فرفور! أين أنتَ يا شقيّ؟ لقد حان وقت العشاء!". أدركتُ طبعًا أنّ الهرّ الذي أمسكتهُ هو "فرفور"، فخطَرَ ببالي أن أُطلقَ سراحه ليذهب إلى العجوز وأهربُ أنا مِن الجهة الأخرى. إلا أنّ المسكين لَم يكن قادرًا على المشي، فبقيتُ مكاني أصلّي ألا تعرف المرأة بوجودي.
لكنّ الهرّ، عند سماعه صوت صاحبته، بدأ بالمواء بقوّة، فاتّجهَت "الساحرة" إلى ناحيَتي. في غضون ثوانٍ تسارعَت دقّات قلبي وبدأتُ أتعرّق، وخلتُ أنّني سأموت حين رأيتُ العجوز واقفة أمامي. أفلتُّ الهرّ لأتمكّن مِن الهروب لكنّني وقعتُ أرضًا، وصرتُ أُتمتِم: "لَم أؤذِه... لَم أؤذِه بل العكس... لقد أنقذتُه... لا تقتليني أرجوكِ!". وأغمضتُ عَينيَّ بانتظار الموت حين سمعتُ العجوز تقول لي بصوت ناعم:
ـ الحمد لله! أشكرُكَ يا بنَيّ... إنشغَلَ بالي على "فرفور" فهو يخرجُ دائمًا مِن البيت ويدخلُ مناطق خطيرة... قُم وتعالَ معي.
ـ لا! لا أُريدُ أن أذهب إلى أيّ مكان معكِ! أُريدُ العودة إلى أهلي!
ـ حسنًا... إحمِل فقط "فرفور" إلى الداخل لنرى ما يُمكننا فعله مِن أجل رجله.
قمتُ عن الأرض وحملتُ الهرّ الذي كان يتألّم، ودخلتُ خائفًا بيت "الساحرة" الذي تصوّرتُه مليئًا بالاعشاب السحريّة والأغراض الغريبة. بدلاً مِن ذلك وجدتُ المكان لطيفًا ومُرتّبًا تفوحُ منه رائحة زكيّة للغاية. وضعنا "فرفور" على طاولة الطعام وهدّأناه قليلاً، قبل أن تُمسِّد العجوز رجله وتضَع حولها رباطًا. نظرتُ إليها وهي تهتمّ بالحيوان فوجدتُها تبتسمُ لي. ثمّ قالَت:
ـ أعلَم ما يُقال عنّي ولا أبالي، فهكذا يتركني الناس وشأني. أحبُّ الوحدة فأنا اخترتُ هذه الحياة بعد موت أبويَّ ورحيل أخوَتي بعيدًا. أجدُ الراحة مع هرَري فهي تبادلني حبّي لها. فالحيوان مخلوق لا يؤذي سوى ليأكل، على خلاف البشَر. ستتعلّم ذلك عندما تكبر. ما رأيكَ بقطعة كيك لذيذ؟ لقد حضرّتُها للتوّ.
ـ لا أدري إن...
ـ ليس مسمومًا لا تخَف! هاهاها! سآكل قطعة منه أمامكَ لتتأكّد مِن كلامي.
أكلتُ الكيك وشربتُ العصير وشكرتُ الخالة عايدة واعدًا إيّاها بعدَم إفشاء سرّها، أي أنّها ليست عجوزًا شرّيرة. قبل أن أرحَل طلبتُ منها الإذن بزيارة "فرفور" مُجدّدًا للإطمئنان عليه، وهي قبِلَت بسرور.
خرجتُ مِن البيت وأنا أُصفّر اللحن الذي أوكلَ لي، فقد يكون أحد أصدقائي قريبًا منّي. عدتُ وقلبي فرحًا وخفيفًا إلا أنّني ادّعَيتُ الخوف الشديد لدى عودتي بين المجموعة، وقصَّيتُ لهم أحداث مغامرتي مُكتفيًا بالقول إنّني رأيتُ "الساحرة" عن بعُد فقط. هنّأني الجميع وعُدتُ إلى البيت.
بتُّ أقصدُ منزل الخالة عايدة في البدء لأطمئنّ على "فرفور" الذي تحسَّنَت حالته بفضل اهتمام صاحبته به، والعلاجات الطبيعيّة التي استعملَتها له. لكن حتى بعد تعافي الهرّ الكُلّي بقيتُ أزورُها سرًّا، للجلوس معها وأكل الكيك اللذيذ وشرب العصير المنعش. كنتُ أستمتعُ بأحاديثها المشوّقة، فتلك المرأة كانت تعرفُ الكثير عن كلّ شيء، وشعرتُ أنّني مُميّز لمجرّد دخول بيتها المليء بالكتب والذكريات. كيف حدَثَ أن اعتقَدَ أهالي البلدة أنّها ساحرة شرّيرة؟ بكلّ بساطة لأنّها تعيش لوحدها وسط مكان مُنعزِل، ولأنّها ساعدَت بشفاء بضع سكّان بفضل خليط عشبيّ. وعندما بدأَت تنتشر الإشاعات حولها، لَم تُكذّبها بل صارَت تنكشُ شعرها عن قصد لإبعاد الذين كانوا ينوون الإستفادة مِن معرفتها الواسعة بالطبّ البديل، وكانوا كثيرين. مِن أين جاءَت بالمال لتصرّف على نفسها مِن دون أن يكون لها عمل؟ مِن بضع أراضٍ كان يملكها أهلها في مناطق حيث العقارات غالية الثمَن. وعلى مرّ السنوات، لَم يتبقّ لها سوى ذلك البيت والأرض الواسعة التي تُحيطُ به.
لَم يشكّ أحدٌ بأنّني كنتُ بالفعل أقصد "الساحرة" حين كنتُ أتحجَّج بالذهاب إلى رفاقي، فمَن سيظنّ أنّ فتى يجلس مع عجوز ويتكلّمان عن الحياة والدنيا؟
علّمَتني الخالة كيف أهتمّ بالقطط وسائر الكائنات الموجودة في الطبيعة، وكيف أميزّ بين الأعشاب لأستعمالها. لكنّها لَم تشأ إعطائي وصفة الكيك الشهير قائلة: "قد تتوقّف عن زيارتي لو بدأَت أمّكَ تصنعه لكَ!". فهي لَم تكن تعلَم أنّها صارَت جزءًا مهمًّا في حياتي ولا يُمكنُ لأيّ كيك في العالم إبعادي عنها.
مرَّت السنوات ولَم يُفضَح سرّي ودخلتُ الجامعة... لتعلّم الطبّ البيطريّ، طبعًا! عندها اضطرِرتُ للعَيش في المدينة عند عمّتي، ولَم أعُد أرى الخالة عايدة سوى خلال فرصة نهاية الأسبوع والأعياد.
إلا أنّ صحّة العجوز تدهورَت بشكل ملحوظ نظرًا لسنّها، وهي قالَت لي في إحدى المرّات:
ـ نهايتي صارَت قريبة... لا، لا تُجادلني أرجوكَ، فهذه سُنّة الحياة. يحقّ للخالق استرجاع عبيده، ومَن أكون لمُناقشته؟ عند وفاتي سيتّصل بكَ مُحاميّ لتستلِم بيتي وأرضي وكلّ ما فيها مِن مخلوقات. إهتمّ بإرثي جيّدًا، أرجوكَ، ولا تبِعه إلا إذا كان الأمر بغاية الضرورة. لا أقولُ ذلك بدافع التمسّك بالمقتنيات الدنيويّة، فما حاجتي إليها حين أموت؟ بل لأنّ هذا المكان له توازنه الطبيعيّ الذي لا يستطيع أحد فهمه سواك. هنا، الطبيعة وسكّانها يعيشون بسلام، وسيعطونكَ كلّ ما يحتاجُ إليه كما فعلوا مِن أجلي. فبفضلهم عشتُ حياة صحيّة وهادئة وهنيئة وأُغادرُ حياتي سعيدة. لا أتوقّع منكَ أن تسكن هنا، فأنت شابّ مُتعلّم وعصريّ، بل أن تهتمّ بالمكان كلّما جئتَ إلى البلدة. خُذ، هذه وصفة الكيك... لا تُعطِها إلا للتي ستكون زوجتكَ، وتذكّرني كلّما أكلتَ منه. كم أحمدُ يوم وجدتُكَ قرب بيتي تُنقذُ هرّي! أنتَ الإبن الذي لَم ألِده وأشكرُكَ لاعطائي تلك المتعة. قد لا تجِدني في المرّة القادمة، ولا أُريدُكَ أن تبكي عليّ بل أن تُدركَ أنّني عشت حياة جميلة وطويلة.
حبستُ دموعي خلال استماعي لها وعانقتُها مُطوّلاً. وعلى طريق العودة رحتُ أبكي لأنّ أجمَل قسم مِن حياتي كان سينتهي.
ماتَت الخالة عايدة فعلاً خلال غيابي، وأسفتُ لسماع بعض السكّان يقولون: "ماتَت أخيرًا الساحرة!". إتّصَلَ بي مُنفّذ وصيّتها وصارَ البيت والأرض مُلكي. وعندها فقط قلتُ لعائلتي حقيقة ما حدَثَ خلال أكثر مِن عشر سنوات.
بقيتُ أهتمّ بمنزل العجوز وحيوناتها حين أقصد البلدة، وأوكلتُ أحدًا بإطعام الهرر خلال غيابي. صرتُ طبيبًا بيطريًّا وفتحتُ عيادة في مدينة مُجاورة للبلدة، وسرعان ما تزوّجتُ مِن فتاة رائعة، وقلتُ لها قبل الزواج:
- ها أنتِ تعرفين قصّة الخالة عايدة الآن وكَم أنّها أثَّرَت بي وبمُستقبلي، لِذا إعلمي أنّني أنوي السكَن في بيتها قدر المُستطاع، أي كلّ نهاية أسبوع. سنجلبُ معنا لاحقًا أولادنا ليتعلّموا حبّ الطبيعة والحيوانات وسأُعلّمهم ما علّمَتني الخالة، فإرثها لَم يكن حجارًا وعقارًا، بل حبّ الحياة والطبيعة ومخلوقاتها، وهذا بالذات ما سيكون إرثي لأولادي. وأُريدُ منكِ تحضير كيك خاص جدًّا لي ولأولادنا كلّما كنّا في ذلك البيت، ففي وصفته مكوّن سرّيّ: إنّه مصنوع مِن الحبّ الصافي.
حاورته بولا جهشان