عند وفاة زوجي، ظننتُ أنّ همّي الأكبر سيكون الإهتمام بأولادي الثلاثة الذين كانوا ما زالوا مراهقين. ولكنني كنتُ على خطأ، فالذي كان ينتظرني كان أكبر من ذلك.
لا أدري من أين أتوا بهذه الفكرة ولكن بالنسبة لأولادي كنتُ أنا السبب وراء موت أبيهم، رغم أنّه قضى في حادث سيّارة. ولأنني إمرأة متفهّمة، قبلتُ هذه الإتّهامات، إلى حين يتخطون صدمة فقدان أبيهم. ولكن الوضع لم يكن مؤقّتاً، بل زاد حدّة مع مرور الزمن. في البدء حاوطوني لا لأنهم خافوا عليّ، بل ليراقبوني، فتناوبوا بالمكوث في البيت معي، حتى أنني لم أجد نفسي يوماً لوحدي. حتى في زياراتي لأقاربي أو أصدقائي، كان أحدهم يأتي معي. حسدني الناس على هكذا أولاد لا يفارقون أمّهم المحزونة ولو للحظة. أنا أيضاً فرحتُ، رغم شعوري وكأني أنا إبنتهم، لأنني في تلك الوقت لم أكن أفهم لعبتهم الشرّيرة بعد، حتى اليوم الذي قلتُ فيه لإبني:
- حبيبي... لا داعي لأن يكون أحدكم معي بإستمرار... لديكم أشغالكم وأصدقائكم... أقدّر ما تفعلونه من أجلي ولكنني بخير وبدأتُ أتقبّل رحيل المرحوم.
- ومَن قال لكِ أننا نفعل ذلك لكي لا تشعري بالوحدة؟
ثمّ ضحِكَ مطوّلاً وأضاف:
- نحن نراقبكِ... لن تفلتي منّا... هناك حتماً أشياء تخفينها عنّا كما فعلتِ مع أبينا ولكننا سنعرف ما هي...
- لا أفهم عمّا تتكلّم! أفقدتَ عقلكَ؟ أنا لا أخفي شيئاً عن أحد ولا أقبل أن يراقبني أحد! أنا أمّكم وليس العكس!
وإعتقدتُ أن الموضوع إنتهى ولكنني كنتُ مخطئة. فبعد أيّام قليلة لاحظتُ أنّ الناس لم يعودوا يأتون لزيارتي كالسابق، فالعادة تقول أن يلتفّ الناس حول الأرملة المحزونة. ظننتُ أنّهم ربما ملّوا من القدوم أو إنشغلوا عنّي ولكن عندما صادفتُ قريبة لي في الطريق فهمتُ لماذا. صرخَت لي تلك السيّدة عن بعد:
- كيف أصبحتِ؟؟ هل شفيتي من مرضك؟
- أيّ مرض؟
- كنتُ أودّ زيارتكِ ولكن إبنتكِ قالت لي أنّكِ مصابة بإلتهاب في الرئة وأنّ الطبيب منعَ الزيارات عنكِ.
- أجل... حالتي أفضل الآن... شكراً.
ركضتُ إلى المنزل وناديتُ إبنتي وسألتُها عن الموضوع. لم تنكر شيء بل قالت لي بكل وقاحة:
- لا داعي أن يأتي الناس إلى هنا، فهذا بيتنا أيضاً ونريد أن نرتاح. إن أردتِ رؤية أصدقائكِ عليكِ الخروج.
- ولكن إذا فعلتُ يأتي أحدكم معي!
- وهل تزعجكِ رفقة أولادكِ؟ ولماذا تريدين الخروج لوحدكِ؟
لم أجب لأنني وجدتُ نفسي أمام حيرة كبيرة. لم أكن أدري كيف أتعامل مع هذا الوضع دون أن أخلق عداوة بيني وبين أولادي. حتى صديقتي الحميمة إستغربَت ما يحصل لي ولم تستطع إعطائي أي نصيحة، لأنّها لم تسمع قط بهكذا شيء من قبل. فوجدتُ نفسي وحيدة مع ثلاثة أولاد يكنّون لي كره غريب. وجاءت الفرصة الصيفيّة وأصبحوا معي طيلة الليل والنهار. كنتُ أجدهم يتهامسون من وراء ظهري وكأنّهم يتآمرون للنيل منّي وأعترف أنني بدأتُ أخاف منهم. وفي ذات ليلة عندما كنّا جميعاً في الصالون نشاهد التلفاز، قال لي أحد أولادي وهو يدلّ على بطلة الفيلم:
أنظروا إليها... خائنة... ولكنّها ستنال جزاءها...
وأجابته شقيقته وهي تنظر إليّ:
- ككل الخائنات... وإن لم تنال جزاءها في هذه الحياة، سيعرف الله كيف يتعامل معها... الخيانة خطيئة كبيرة خاصة إذا تسبّبت بموت أحد... أرجو أن تحترق تلك المرأة في نار جهنّم إلى الأبد!
عندها لم أستطع السكوت على ما بدا لي إتّهاماً مباشراً فصرختُ بهم:
- ما بالكم؟ ما معنى هذا الحديث وهذه النظرات؟ أتعتبرونني خائنة؟ ومن الذي خنته؟
- أبانا!
- هل جننتم؟ من قال لكم هذا؟
ووقف إبني البكر وإقترب منّي مهدّداً وقال:
- أبي قال لي هذا قبل أن يموت ببضعة أيّام. ومن المؤكّد أنّه وقع ضحيّة حادث السيّارة لكثرة قهره!
- إن قال لكم هذا فهو كاذب!
- لا تقولي هذا عن أبي!
- سأقول الذي أريده! أنا لم أخنه بحياتي، فأنا كنتُ أحبّه كثيراً! ولكن إذا قال أنني أخونه فلقد كذبَ عليكم. وحتى لو كان هذا صحيحاً فلا يحقّ لكم محاسبتي، فأنا أمّكم وعليكم إحترامي مهما حصل. والآن ليذهب كلّ منكم إلى غرفته فلقد طفح الكيل منكم! صبرتُ عليكم وتحمّلتُ تصرّفاتكم لأنّكم حزينين على أبيكم ولأنّكم مراهقين ولكن الأمور تخطّت حدود المقبول. هيّا إلى غرفكم وبسرعة!
ذُهلوا جدّاً بموقفي الصارم وذهبوا إلى غرفهم دون أن يتفوّهوا بكلمة واحدة. ومن بعدها سألتُ نفسي لماذا أخبرهم زوجي أنني لستُ وفيّة له وللحقيقة لم أجد جواباً. بقيَ الوضع متشنّجاً هكذا لفترة طويلة ولكنّم كّفوا عن مضايقتي كالسابق وإكتفوا بالإبتعاد عنّي وتجاهلي وكان هذا مؤلم جداً بالنسبة لي. كنتُ أنوي إحتضانهم بعد فقدانهم أبيهم والتعويض لهم بحناني، لكنّهم لم يدَعوني أفعل ذلك.
وفي ذات يوم، عندما كنتُ أرتّبُ أغراض زوجي لأضعها جانباً وأعطي ثيابه للمحتاجين، وجدتُ بملفّاته أوراقاً مهمّة فهمتُ من خلالها ما كان يجري. ناديتُ الأولاد جميعاً وسألتُ إبني البكر:
- أريد أن أعلم ما قاله أبوكَ لكَ حرفيّاَ عندما ظننتَ أنّه يخبركَ عن خيانتي له.
- قال لي: إسمع يا إبني... أنت الكبير بين أولادي وأعلم أنّك أصبحت بعمر يمكنكَ فهم الحياة ولو بعض الشيء... هناك شخص عزيز عليّ جدّاً رافقني سنيناً طويلة قد خانني... تألّمتُ جدّاً عندما علمتُ بالحقيقة ولا يمكنني أن أبقى حيث أنا بقرب من كذِب عليّ وعاملني كأنني ساذج... ستتغيّر أموراً كثيرة عليكم وأرجو أن تكونوا أقوياء وأن تعذروني...
- لم يكن يتكلّم عنّي... وجدتُ مسودّة لرسالة بعثَها أبوكَ لمديره في الشركة يقدّم فيها إستقالته لأنّ زميله وصديقه الحميم كان قد زوّر إمضاءه ليمرّر شحنات من البضاعة لحسابه الخاص... الشخص العزيز على قلبه، كان هذا الصديق والقرار الذي سيغيّر حياتكم كانت إستقالته من العمل. علِمَ أنّه بتركه عمله سنعاني جميعاً من قلّة المال وقد يتأثّرمستوى علمكم. المسكين لم يعش كفاية ليشرح الأمر لأيّ منّا... يا ليتَه أخبرَني بالأمر، لكنّا تفادينا جميعاً ما عشناه بعد مماته... أحببتُه كثيراً وهو أيضاً عشقَني ولا أحد في العالم يمكنه أخذ مكانه في قلبي.
ركضَ أولادي إليّ وعانقوني بقوّة. ثمّ إعتذروا لي بحرارة لمعاملتم السيّئة لي ووعدوني أن يثقوا بي دائماً وأن يعوّضوا لي ما فعلوه. وبالطبع سامحتهم لأنني أمّ وقلب الأم لا يعرف الكره.
حاورتها بولا جهشان