عندما أستعيد تلك الأحداث، باحثة عمَا أخطأتُ به، أجدُ أنّ ذنبي الوحيد هو إيماني وثقَتي بالجنس البشريّ. الحقّ يقع أوّلاً على والدَيّ اللذَين لقّناني حبّ الآخر وتفهّمه وتصديقه. هما أيضًا وقعَا ضحيّة قلبهما الطيّب، ولكنّهما لم يكفّا عن الاعتقاد بأنّ الخير ينتصر دائمًا على الشرّ. أمّا أنا، فأدركتُ متأخّرة أنّ الحياة ليست رواية شاعريّة بل واقع مرير.
متاعبي بدأَت سنوات عديدة قبل وقوع الكارثة، أي عندما جاءَ إلى الشركة مدير جديد إسمه رضا. كان ذلك الرجل في متوسّط عمره، ممتلئ القوام وذو بسمة عريضة توحي بالثقة. إلى جانب ذلك، كان رضا يعرف كيف يستمع إلى الناس ويُبدي لهم تعاطفه الذي كان، بمعظم الأحيان، صادقًا.
إستلطَفتُ مديري على الفور، ورأيتُ فيه صورة خال أو عمّ أو حتى أب ثانٍ، فهو أخذَني تحت جناحه وحماني مِن المنافسة الشديدة التي كانت تسود بين الموظّفين، في وقت كانت فرَص العمل قليلة بسبب سوء الوضع الاقتصاديّ.
وعلى مرّ الأشهر ومِن بعدها السنوات، أصبَحَ رضا حافظ أسراري ومرشدي، وكانت حياتي العمليّة هنيئة، وبفضله استطَعتُ تعلّم أسرار المهنة وصعود درجات الترقيات. لا تسيؤوا فهمي، فلم يستعمل مديري نفوذه مِن أجلي بل درّبَني بشكل جيّد، حتى لو تطلّبَ الأمر أن يقسو عليّ بعض الشيء.
لم يفهم أحد لماذا بقيَ رضا عازبًا، فهو كان يملك كلّ الصفات اللازمة لايجاد أفضل فتاة أو امرأة، فقد كان حنونًا وكريمًا ومتفهّمًا. وعندما تكلّمتُ معه بالموضوع قال لي:
ـ لا أملك الجواب... ربمّا لأنّني وضعتُ عملي في المرتبة الأولى... للحقيقة ولِدتُ فقيرًا ولم أتحمّل فكرة أن يُضحّي والدايَ بكلّ شيء لتوفير ما يسمح لنا أن نأكل. ووعدتُ نفسي بأن أبذل جهدي لأريحهما وأهتمّ بهما وبأخوَتي... ومرَّت السنوات بسرعة وها أنا في الخمسين مِن عمري ولن أجد مَن يحبّ عجوزًا مثلي.
ـ أنتَ عجوز؟ لا تزال في مستهلّ عمركَ! أنا متأكّدة مِن أنّكَ ستجد أفضّل عروس على الاطلاق، شرط أن تقرّر ذلك.
وكنتُ أنا التي وجَدتُ الحبّ في شخص وائل، شاب طموح ومحبّ فكنتُ أسعد الفتيات. ولكن كان يلزمني رأي رضا بحبيبي، أوّلاً لأنّه كان قادرًا على التمييز أكثر منّي مِن حيث خبرته بالحياة، وثانيًا لأنّني كما قلتُ اعتبَرتُه مرشدي وبمثابة أبي.
إلا أنّ رضا لم يُحبّ وائل، ولم يتردّد بإبداء رأيه شبه علانيّة وأمامه، الأمر الذي أحرجَني إلى أقصى درجة. فبعد أن سأله رضا عن وضعه الاجتماعيّ والماديّ، تابع بأسئلة عن حياته الشخصيّة، أي عن مغامراته العاطفيّة. ووجَدَ وائل صعوبة في الإجابة أمامي، ولكنّه اضطرَّ للقول إنّه عاشَرَ نساءً كثيرات. إنتهَت المقابلة ببرودة، وحين رأيتُ مديري في اليوم التالي وبّختُه فقال لي:
ـ فعلتُ ذلك مِن أجلكِ... لا تزالين صغيرة ولا تعرفين ما يدور في عقل الرجال وما هي دوافعهم الحقيقيّة... ذلك الشاب ليس مناسبًا لكِ وسينتهي الأمر بكِ مجروحة وتعيسة... إفعلي ما يحلو لكِ ولكن إيّاكِ أنّ تتزوّجيه.
غضبتُ مِن رضا كثيرًا لأنّه كان يقف ولو بصورة غير مباشرة بيني وبين سعادتي مع وائل. أمّا هذا الأخير، فلم يعد يُريد رؤية رضا أو سماع اسمه وطلَبَ حتى منّي أن أبتعد عنه. ولكنّني أجبتُه:
ـ مستحيل أن أفعل، رضا صديقي قبل أن أعرفكَ وأحترمُه كثيرًا وأكنُّ له مودة خاصّة... إضافة إلى ذلك فهو مديري وأراه يوميًّا.
ـ عليكِ إذًا تغيير عملكِ، هذا إذا أردتِ أن نرتبط رسميًّا.
وقعتُ في حيرة مِن أمري، فمِن جانب كنتُ أحبّ وائل كثيرًا وأعتبرُه مناسبًا جدًّا ليكون زوجي وأب أولادي، ومِن جانب آخر لم أكن أبدًا مستعدّة للتخلّي عن رضا وأن يُمارس حبيبي ضغوطًا قد تتزايد بعد الزواج.
إرتأيتُ أنّ الحل الأنسب هو أن أكفّ عن ذكر رضا أمام وائل وذكر وائل أمام رضا، على أمل أن تزول المشكلة مِن تلقاء نفسها.
وتمَّت خطوبتي مِن دون أن أدعو رضا إلى الحفل الذي أقمناه، الأمر الذي أغضبه كثيرًا ودفعَه إلى التصرّف معي بجفاء ملحوظ. وبالرغم مِن ذلك، بقيتُ أتعامل معه كالعادة ولكنّ قلبي كان حزينًا للغاية.
كنتُ قد بدأتُ أتحضّر للزفاف حين استدعاني مديري إلى مكتبه:
ـ سأوفّر عليكِ عناءً كبيرًا باخباركِ عن خطيبكِ أشياء لا تعرفينها.
ـ لا أريد أن أعلم!
ـ بلى... ستشكريني لاحقًا، بعد أن يزول افتتانكِ بذلك الانسان... لقد تحرَّيتُ عنه قليلاً و...
ـ ماذا فعلتَ؟!؟ تحرَّيتَ عنه؟ ومَن أذَنَ لكَ بذلك؟
ـ أنتِ لا تدركين حقيقة ذلك الرجل.
ـ كفى، أرجوكَ يا رضا!
ـ سُجِنَ وائل عندما كان في الثامنة عشرة... هل قال لكِ ذلك؟
ـ لا... لم يقل لي.
ـ أرأيتِ؟ الرجل غامض وله ماضٍ غير مشرّف... وأنتِ مُغرمة به وتريدين الزواج منه!
ـ سأسأله عن الأمر.
ـ وسيكذب عليكِ... إسمعي نصيحتي وابتعدي عنه.
أكمَلتُ نهاري في الشركة وركضتُ أوافي خطيبي لأعرف الحقيقة منه. هكذا كنتُ ولا أزال، أواجه الناس وأقول لهم عمّا يُزعجني. أخبرتُه أنّني أعلم بشأن دخوله السجن، وهذا ما قاله لي:
ـ آه... علِمتِ بالأمر... أنا متأكّد مِن أنّ صديقكِ هو الذي بحَثَ في ماضيّ... السّافل... سأقول لكِ ما حصل فعلاً... كنتُ قد حصلتُ لتوّي على دفتر القيادة ولم أكن متمرّسًا بعد. وشاءَ القدر أن أصدم بسيّارتي رجلاً عجوزًا... لم يمت، لا تخافي، ولكنّه عانى كثيرًا مِن كسور عديدة، وجرَّاء ذلك تمّ سجني لمدّة قصيرة.
ـ يا إلهي... ولكن كيف لي أن أتحقّق مِن الموضوع؟
ـ تشكّين بمصداقيّتي؟ سآتي لكِ بالحكم، ولكن إعلمي أنّني لم أعد أريدكِ... تأثير مديركِ عليكِ أكبر مِن أن يُحتَمل وعدَم ثقتكِ بي لا يُناسب مشروع زواج. الوداع!
لا أدري إن حزنتُ على ترك وائل لي أم ارتحتُ، فكان قد أخفى عنّي مسألة مهمّة والله وحده يعلم ما كان يُخفي أيضًا. ومع أنّه أرسَلَ لي نسخة عن الحكم، بقيتُ أشكّ به.
فرِحَ رضا بخبر فسخ الخطوبة إلى أقسى درجة ودعاني إلى العشاء للاحتفال. ومع أنّني كنتُ أعرفه منذ سنوات، كانت تلك أوّل مرّة أخرج معه.
تناولنا العشاء وقضَينا وقتًا ممتعًا للغاية، وأثَرنا موضوع وائل ولكن باختصار لأنّ رضا لم يكن يُريد افساد اللقاء. وفي طريق العودة، أوقَفَ سيّارته إلى جانب الطريق وأطفأ المحرّك واستدار نحوي قائلاً:
ـ أحبّكِ.
ـ ماذا؟ أقصد تحبّني كيف؟ كابنتكَ؟
ـ لا... أحبّكِ مثلما يُحبّ رجل امرأة وأريدكِ بكلّ جوارحي.
ولحظة ما أنهى جملته، إنقضَ رضا عليّ وبدأ يُقبّلني بوحشيّة. صَرَختُ بأعلى صوتي طالبة منه الابتعاد عنّي، ولكنّه لم يفعل بل بدأ يفكّ أزرار قميصي قائلاً:
ـ ستكونين لي ولي وحدي... أضعتُ سنوات وأنا أسايركِ وحان الوقت لآخذ حقّي.
أشكر ربيّ لأنّه أعطاني الوعي الكافي لأفتح الباب وأدفَع رضا عنّي. وبدأتُ أركضُ كالمجنونة على الطريق، وأوقفتُ أوّل سيّارة وجدتُها. وصلتُ البيت باكية وأخبرتُ أهلي بأنّ الرجل الذي وثقتُ به واعتبرتُه أبًا ثانيًا كان يُمثّل عليّ دورًا سئِمَ منه وأنّه أرادَ اغتصابي. إتّصل والدي على الفور بالشرطة التي استدعَت رضا للتحقيق ولكنّه أنكَرَ كل شيء وقال إنّني تودّدتُ إليه. قدّمتُ استقالتي في الصباح الباكر ولزمتُ البيت أبكي كالطفلة. لم أكن قادرة على تصديق ما حصل، وكانت خيبَتي لا توصف فلَم أعد قادرة على إعطاء ثقتي لأحد بعدما أراني رضا وجهًا لم أشكّ بوجوده. كنتُ قد خسرتُ خطيبي وائل وصديق خلتُه وفيًّا.
أحاطني أهلي كثيرًا، وقال لي والدي إنّ الذنب ليس ذنبي لأنّ رضا مِن حيث سنّه لدَيه خبرة واسعة بإيقاع بالناس، وإنّني لم أكن لأعرف حقيقته أبدًا.
لزِمَني وقت طويل لأتغلّب على الاكتئاب الذي أصابَني ونسيان خذلاني، ولكنّ الحياة فعلاً كريمة وتعطينا الحلو بعد المرّ: تعرّفتُ إلى إنسان صادق ومحبّ عرف كيف يُنسيني خوفي مِن الرّجال.
حاورتها بولا جهشان