أناس جاحِدون بالفعل!

دخلتُ سوق العمَل باكرًا جدًّا، أيّ حين كنتُ لا أزال في الثالثة عشرة مِن عمري، كَوني الولَد الوحيد بين أختَين ومِن عائلة فقيرة للغاية. لازَمَ الفقر اسمنا منذ أجيال عديدة وكذلك الكسَل، فالحقيقة أنّ رجال عائلتنا لَم يُحاولوا الخروج مِن حالتهم بل تحجّجوا بها، الأمر الذي أغضبَني وأعطاني حافزًا لكَسر تلك الحلقة وتغيير مصيرنا. كنتُ أنا مَن طلَبَ أن يعمَل، ووافَقَ والدايَ على الفور، فتركتُ تلك المدرسة المجّانيّة التي كنتُ أحبُّها ورحتُ أعمَل لدى النجّار الموجود في آخِر الحَيّ، وهو رجُل كبير في السنّ وتعِب مِن كثرة الأشغال التي قامَ بها طوال حياته مِن دون أن تتحسّن أحواله، إذ كان يبيع للفقراء الموجودين حوله فقط. لِذا هو لَم يُعطِني سوى القليل مِن المال، لكن مِن جهة أخرى، أعطاني كلّ ما لدَيه مِن مهارة، وأنا أخذتُ منه ما كانت ستصبح حتّى اليوم مهنتي. إشتغَلتُ ساعات النهار والليل، وبالكاد كنتُ أرتاح قليلًا عند الظهيرة حين كنتُ أعودُ إلى البيت. كنتُ فخورًا بنفسي، إلّا أنّ أبوَيّ، وأختَيّ لاحقًا، إعتبَروا ما أفعله تحصيلًا حاصِلًا وبالكاد اعترفوا بتضحياتي. إمتعضتُ منهم جميعًا، فها أبي يرتاحُ على ظهري واختايَ تُكمِلان الدّراسة بفضلي وأمّي تُحضّرُ الأكل الشهيّ بعدما كبرنا على البطاطا المسلوقة والحبوب. فالجدير بالذكر أنّ صاحب محلّ النجارة أعطاني كلّ الأعمال الإضافيّة التي كانت تُطلَب منه مِن قِبَل عدَد ضئيل مِن زبائن ليسوا فقراء، فالرجُل كان بالفعل ماهرًا.

وحين أصبحتُ في الثالثة العشرين مِن عمري، أخذتُ مِن النجّار محلّه، ووضعتُ يافطة جميلة مكتوب عليها بأحرف كبيرة اسمي: "عزيز". كنتُ فخورًا لأقصى درجة، فأقَمتُ حفلًا صغيرًا أمام باب المحلّ وجاءَ سكّان الحَي للمُباركة وأكل الحلوى. وحدهم أهلي لَم يأتوا تحت حجّة أنّ ذلك الحفل لا لزوم له، بل أنّه تبجّح مِن قِبَلي. لَم يهمّني غيابهم، لأنّني كنتُ سعيدًا بنفسي بعد سنوات مِن الإرهاق والقلّة.

ثمّ وقعتُ في حبّ صبيّة حسناء تعيشُ بالقرب مِنّا، وصمَّمتُ على الزواج منها بعدما صِرتُ قادرًا على تأسيس عائلة ولو صغيرة، إلّا أنّ أمّي وقفَت في وجهي قائلة إنّ عروسي فتاة غير خلوقة وسُمعتها السيّئة ملأت ليس فقط الحَي بل المنطقة. صدّقتُها أوّلًا لأنّها أمّي، وثانيًا لأنّني لَم أكن أعرفُ شيئًا عن الصبيّة بل رأيتُها فقط عن بُعد. بعد ذلك، نسيتُ أمر الزواج لفترة، وركّزتُ على مهنتي وعلى كيفيّة إعطاء طابع عصريّ للمفروشات الخشبيّة وتوسيع عمَلي. لَم أعرِف طبعًا أنّ ذويّ لن يسمحوا لي بالزواج وصرف المال على أحَد غيرهم.

ثمّ فرَضَ أبوايَ عليّ تشغيل أختَي معي، فاحتَرتُ في أمري، فما كانت حاجَتي إليهما ولا عمَل لدَيهما عندي؟ فكنتُ أعمَل بيَدَي وقد جلَبتُ شابًّا ليُساعدني يوم صارَ لي المحلّ. لكنّني قبِلتُ بعدما قالَت لي أمّي إنّ رفضي يعني أنّني خرجتُ مِن عائلتي، الأمر الذي سيجلبُ عليّ غضبها وغضب أبي، وطبعًا غضب الله. وهكذا جاءَت رانيا وسارة أختايَ إلى المحلّ وجلَستا فيه طوال النهار... مُقابِل راتب طُلِبَ منّي! عندها فقط، بدأتُ أعي الذي يجري، فزادَ مصروفي على أهلي بشكل لَم يعُد يبقى لي شيء، وكان الأمر وكأنّني أعمَل مِن أجلهم فقط. كيف كان سيتسنّى لي يومًا تأسيس عائلة خاصّة بي؟ ولكثرة تأثّري بأمّي وأوامرها، صرتُ أجوبُ البلاد للترويج لمفروشاتي لتحصيل المزيد مِن المال.

وأثناء تلك السفرات، تعرّفتُ إلى جلنار، صبيّة جميلة تملكُ وأبوها صالة عرض للمفروشات، ووقعتُ تحت تأثير جاذبيّتها وذكائها وأناقتها. فهي كانت مُصمِّمة ديكور ولدَيها شهادة جامعيّة، الأمر الذي جعلَني أشعرَ بالنقص بسبب قلّة تعلّمي وغياب أيّ شهادة. إلّا أنّ جلنار بالفعل أرادَتني ولَم تهتمّ لهذا الفارِق، بل رأت أنّنا نُكمِّلُ بعضنا ويجمعُنا حبّ الخشَب والمفروشات. لذلك قرّرتُ المضيّ بالشيء الوحيد الذي صِرتُ أُريدُه، وهو الزواج منها. أب جلنار هو الآخَر أحبَّني، لأنّني ذكّرتُه بنفسه عندما كان شابًّا، فهو أيضًا بدأ بالعمَل باكرًا وأجبِرَ على ترك الدَرس. بقيَ عليّ إخبار أهلي بما في بالي.

وكما تتوقّعون، علا الصوت والمُمانعات تحت حجَجَ لا أساس لها، وبكَت والدتي ونعَتتَني بالابن الجاحِد وهدّدَت بنكرانها لي. إلّا أنّ حبّي لِجلنار كان في ذروته، وكلّ ما استطعتُ أن أعِدَ أهلي به كان أنّهم سيتقاضون المصروف نفسه حين أتزوّج. هدأَت الأحوال قليلًا واستطعتُ التفكير بالحبّ والزواج على سجيّتي. ويوم عرّفتُهم على جلنار، أصابَني الخجَل مِن تصرّفهم الفظ معها، فبالكاد وجّهوا لها الحديث، ودخلَت أمّي وابنتاها الغرَف مِن دون أن يُقدِّمنَ لها حتّى كوبًا مِن الماء. أمّا بالنسبة لأبي، فكان أكثر لطفًا معها. إعتذرتُ مِن حبيبتي كثيرًا، شارِحًا لها أوضاعنا والدوافع التي وراء تصرّفات نساء عائلتي.

تزوّجنا بفضل مال أب جلنار، وسكنتُ معها في شقّة في المبنى الذي تعيشُ فيه باقي عائلتها. جاءَ أهلي لزيارتي في الشقّة وذهلوا لجمالها، فجلنار كانت قد زيّنتها بنفسها، لكنّهم لَم يُثنوا على مهارتها بل بقوا صامتين، ثمّ رحلوا.

وتكرَّرَ السيناريو نفسه، فطُلِبَ منّي تشغيل رانيا وسارة في محلّ زوجتي مُقابل أَجر أكبَر. رفضتُ بقوّة إلّا أنّ جلنار هدّأت مِن غضبي قائلة إنّها بحاجة إلى مَن يُساعدها بعدما صارَ لها مسؤوليّات زوجيّة. وكان الخطأ كبيرًا كما كنّا سنكتشف لاحقًا. فقد تبيّنَ لي أنّني بالفعل لَم أكن أعرفُ أفراد عائلتي جيّدًا، وأنّ الفقر أعطاهم أعذارًا عديدة لفعل ما لا يجب فعله. فالحقيقة أنّ الفقر لا يصنع أناسًا سيّئين بل هم يأخذونه كحجّة لهم.

بدأَت أختايَ بالعمَل في المحلّ، بالتنظيف والترتيب واستقبال الزبائن حالما تصِل زوجتي. أيّ أمور عاديّة لا تُعتبَر شاقّة إن قُسِّمَت على شخصَين. إلّا أنّ كميّة أو نوعيّة عمَل أختَيّ لَم تكن هي المُشكلة، بل ما فعلَتاه.

فلقد لاحظَت جلنار أنّ أغراضًا للزينة صارَت تُفقَد مِن المحلّ، وأحيانًا بعض المال مِن الصندوق. لَم أعلَم بشيء، فكنتُ أقضي نهاري في محلّي لأصنع المفروشات التي ستُعرَض في صالة زوجتي. وهي لَم تقُل لي شيئًا خوفًا مِن إزعالي أو خَلق مشاكل عائليّة. بل هي واجهَت رانيا وسارة اللتَين أنكَرَتا كلّ شيء وبدأتا بشَتمها بطريقة سوقيّة مُقرِفة، وإحداهما رفعَت يدَها على زوجتي لصفعها لكنّها تمالكَت أعصابها في آخِر لحظة. وحين عدتُ في المساء، وجدتُ زوجتي تبكي في سريرنا، وتطلََّبَ الأمر وقتًا طويلًا لِحَملها على البوح بما يُحزنُها لهذه الدرجة. وفي الصباح، أرَتني جلنار فيديو كاميرات المُراقبة التي تُبيّنُ بوضوح أختَيّ وهما تسرقان ولاحقًا أثناء المُشاجرة. إستأتُ كثيرًا واعتذرتُ لزوجتي بإلحاح ووعدتُها بأن أتصرّف.

وصلتُ بيت أهلي ودَمي يغلي مِن كثرة غضبي. ألَم تكفِهم جميعًا تضحياتي مذ ما كنتُ مُراهقًا؟ ألَم يكفِهم المال الذي حصلوا عليه مِن دون تعَب؟ كيف يتوصّلون لاستغلالي وسرقتي هكذا؟ واجهتُهم بشراسة وأطلعتُهم على نيّتي بقطع المصروف عنهم جميعًا، فكان بإمكان أختَيّ العمَل في أيّ مكان وكذلك أبي الذي كان لا يزال بصحّة جيّدة! فليدعوني وشأني!

عدتُ إلى شقّتي الزوجيّة مُرتاحًا بعد أن أفرَغتُ قلبي مِن كلّ الوجَع الذي كان بداخله، ونمتُ مُعانِقًا جلنار حبيبتي.

إلّا أنّ اتّصالًا وسط الليل أيقظَني: كان محلّ النجارة يحترِق، والدفاع المدني يحاولُ إطفاء النيران التي وصلَت ألسنتها إلى السماء!

ركضتُ وزوجتي كالمجنونَين نتفرّج على جنى عمري يتحوّل إلى رماد ودخان. كان الناس مُجتمعين ومِن بينهم أفراد عائلتي، وأقسمُ أنّني رأيتُهم يبتسمون! وعلِمتُ عِلم اليَقين أنّهم مَن أحرَقَ المحلّ بعد أن فهِموا أنّني لن أُعيلهم. يا إلهي، ما هذا الكّم مِن الأذى تجاه أقرَب الناس إليهم، وبعد ماذا؟ بعد أن أعطَيتُهم سنين عمري وتعبَي؟ لَم أقُل لهم شيئًا، فلَم أملك أيّ دليل على تورّطهم، إلّا أنّ إصابة العامِل الذي كان ينام في المحلّ بحروق بليغة دفعَت الشرطة للتدقيق بالحادثة.

وتبيّنَ أنّ أمّي، أجل أمّي، هي مَن قامَت بحرق المحلّ بصبّ مواد مُشتعلة واضرام النار فيها، وذلك بعد أن استفاقَ العامِل وأخبَر أنّه رآها تقومُ بِحرق المحلّ.

لَم يُطاوِعني ضميري على ترك أمّي تدخُل السجن، فأسقَطُّ حقيّ بالنسبة لحرق المحلّ، وأعطَيتُ مبلغًا كبيرًا مِن المال للعامِل ليُسقِط حقّه بدوره. وبما أنّ والدتي لَم ترتكِب أيّ جرم مِن قَبل، حُكِمَ عليها بالسجن مع وقف التنفيذ.

بكيتُ كثيرًا بعد أن استوعَبتُ أنّ أيًّا مِن عائلتي لَم يُحبّني يومًا، بل كنتُ بالنسبة لهم وسيلة للعَيش مِن دون أن يتعَبوا. شعرتُ بالوحدة والخذلان ولولا وجود جلنار إلى جانبي، لغصتُ في حالة نفسيّة لا حدّ لها.

أعطى القاضي لأهلي وخاصّة أمّي أمرًا بعدَم التعرّض لي أو حتّى التواصل معي على الاطلاق، تحت طائلة دخول السجن، فهو أدرَكَ مدى خطورتهم. بعد ذلك، إنتقَلتُ نهائيًّا للعَيش في منطقة جلنار ولَم أعُد أبدًا إلى حيّنا. علِمتُ مِن أناس مُقرّبين مِن الطرفَين أنّ أمّي مريضة وبحاجة إلى المال، فلَم أتأخّر بمُساعدتها عن بعُد، لكن أتّضَحَ أنّها بألف خير وكان غرضَها مِن ذلك الاستفادة منّي ولو لآخِر مرّة. بعد ذلك، قطعتُ كلّ اتّصال مع هؤلاء الناس، ولَم أحضُر حتّى مأتم أبي بعد بضع سنوات. كلّ ما كان يهمُني هو زوجتي والتوأمان اللذان وُلِدا لنا والصالة التي ازدهَرَت وباتَت مشهورة.

حياتي اليوم جميلة واستحقُّها بالفعل، فلقد تعِبتُ كثيرًا وأعطَيتُ أيضًا كثيرًا، والله يرى كلّ شيء.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button