بعدما فقدتُ والدي في عمر مبّكر، شعرتُ بعَدَم الأمان، خاصة أنّ رابطاً مميّز كان موجوداً بيننا كما يحدث عادة بين الأب وابنته. وصرتُ أخاف أن أنام في العتمة أو أن أذهب لأيّ مكان لوحدي حتى عند أقاربنا أو جيراننا. وبقيتُ على هذا الحال إلى حين جاء أحمد ليسكن مع عائلته في المبنى. وحين رأيتُ شعره الرمادي وطريقة تعامله مع أولاده، أحسستُ بانجذاب قويّ له.
وبدأتُّ أزورهم باستمرار وألاعب أطفالهم وأجلس ساعات لأستمع إلى قصصه. وفي ذلك الوقت وبالرغم مِن سنّي اليافع أدركتُ أنّني بِحاجة إلى رجل أكبر منّي سنّاً.
وحبّي البريء لأحمد بدأ يتلاشى مع الوقت خاصة أنّ كل صديقاتي كانت مغرمة بشبّان مِن عمرهنّ. لِذا اقتنعتُ أنّ عليّ التفتيش بين أبناء جيلي.
وعندما دخلتُ الجامعة وبِسبب جمالي التفّ حولي العديد مِن الزملاء ولم يكن عليّ سوى اختيار الذي يناسبني. وكان سعيد الحظ شابّاً وسيماً اسمه تامر وكان قد فعلَ المستحيل لأكون حبيبته. وبدأنا نتواعد وعرّفتُه على أهلي ومِن ثمّ أخَذَني إلى والدته التي أحبَّتني كثيراً. لم أرَ أباه لِكونه مسافراً، لكنّ تامر أخبرَني الكثير عنه. علِمتُ أنّ الرجل يعمل في اوروبا منذ سنين طويلة ويبعث لهم بالمال الذي يمكّنهم مِن العيش بِرخاء.
ومرَّت الأيّام وكنتُ سعيدة مع الذي أصبح خطيبي وبدأنا نبحَث عن شقّة لتأوي حبّنا. ولكن مجرى الأحداث أخذَ منعطفاً معاكساً عندما عاد جَودت أب تامر مِن السفر لِيستقرّ في البلد بعد حوالي خمسة وعشرين سنة مِن العمل في الخارج. وبالطبع أخَذَني خطيبي إلى دارهم لأتعرّف على الرجل ولحظة ما وقعَت عيوني عليه علِمتُ أنّه الذي سأحبّه طوال حياتي. أمّا هو فبعد أن ألقى التحيّة عليّ أخذَ يمعن بالنظر إليّ وكأنّني مخلوقة عجيبة. وطبعاً لاحظَ الجميع ما يحدث ولكنّهم ظنّوا أنّ السبب هو الحياء والارتباك. ومِن ثمّ جلسنا جميعاً في الصالون وأخذَ جودَت يسألني مئة سؤال وكأنّه يودّ معرفة كامل سيرتي في جلسة واحدة. ودار الحديث بيننا نحن الإثنَين وكان تامر مسروراً أنّ استلطفَني أباه وأنّني وجدتُ الرجل جدير بالاهتمام. وبعد حوالي الساعَتَين على هذا النحو أدركتُ أنّنا أستحوذنا الوقت كلّه لأنفسنا فسكتُّ أخيراً.
وفي تلك الليلة لم أذق طعم النوم لأنّ جودَت كان قد امتلكَ فكري وقلبي.
وفي الصباح خجلتُ مِن نفسي لأنّني لم أفكّر بِتامر ولو ثانية واحدة. لِذا أجبَرتُ نفسي على التركيز على الذي سأتزوّجه وليس على الذي هو مِن عمر أبي. ولكنّني كنتُ قد وقعتُ في غرام مِن النوع الفتّاك والهدّام ولم يخطر على بالي أنّني قادرة على كل ما فعلتُه لاحقاً مِن أجل الحب. وهذا الإصرار وهذه القوّة منبعَها عقدتي النفسيّة التي ولّدها موت أبي، فلم أكن قادرة على التراجع حتى لو أردتُ ذلك.
في أوّل فترة حاولتُ عدم الذهاب إلى بيت تامر واخترَعتُ له شتّى الحجج ولكن عندما نفذَت جميعها لم أعد قادرة على تأجيل ما كان محتوم وهو رؤية جودَت. وحين وصلتُ دارهم تلبية لِدعوتهم إلى العشاء لم أرَ سوى أب خطيبي وكأنّ الدنيا كانت فارغة مِن سكانّها ولم يبقَ سواه. وقرّرتُ تمالك نفسي وعدم النظر إليه والإجابة على حديثه بِكلمات قليلة تجنّباً للذي حَدَث في آخر لقاء لنا. وهذا الأمر أغضبَ الأب كثيراً لأنّه كان ينتظر قدومي بفارغ الصبر واصطدَمَ بِحائط صمتي، فأخَذَ يغيظني ويدفعني إلى الكلام. ولم أتمكّن مِن تحمّل هذا الجو المتشنجَّ فادعيتُ الصداع ورحلتُ قبل إنهاء عشاءي. وأصرَّ تامر على توصيلي إلى بيتي وعندما كنّا في السيّارة سألَني عن سبب قلّة أدبي مع أبيه فأجبتُه:
ـ أنا آسفة حبيبي ولكن هذا الصداع أثّرَ على مزاجي... أرجو منكَ أن تقدّم اعتذاري الحار لأبيكَ.
ولم أرَ جودَت بعد ذلك لأنّه سافرَ لينهي بعض المسائل العالقة ولكنّني تفاجأتُ باتصال هاتفيّ منه.
كان قد أخذَ رقمي خلسة مِن مفكّرة ابنه لأنّه وحسب قوله لم يعد يتحمّل البُعد الذي فرَضتُه عليه. وعندما ادعَيتُ أنّني أجهل عمّا يتكلّم عنه أضافَ:
ـ كفيّ عن التمثيل يا رانيا... تعرفين تماماً ما أقصد... وتعلمين تمام العلم أنّكِ تشاطرينَني شعوري... لقد أحببتُكِ لحظة ما رأيتُكِ...
صحيح أنّكِ بِسنّ أبنتي وصحيح أنّكِ خطيبة تامر ولكنّ الأمر أقوى منّي... ومنّكِ.
ـ مَن قال لكَ ذلك؟ أحبّ تامر ولا أحداً سواه.
وأقفلتُ الخط بِغضب ليس مِن جودَت ولكن مِن نفسي لأنّني كنتُ فعلاً متيّمة به.
ولكنّ جودَت بقيَ يتصل بي هاتفيّاً ويبعث لي بالرسائل حتى أن أصبحنا نتبادل كلاماً في الحب والغرام.
وعندما عادَ مِن السفر طلبتُ مِن تامر أن يأخذَني لِرؤية أبيه كي أعتذر منه على تصرّفي الفظ أثناء ذلك العشاء. وهكذا استطعت التواجد معه وبِقربه والإمعان بالنظر إليه قدر ما أشاء لأنّني كنتُ قد اشتقتُ كثيراً له.
وفي تلك الفترة لم أشعر بأيّ تأنيب ضمير حيال ما كان يجري بيني وبين والد خطيبي لأنّني كنتُ غارقة في الحب ولأنّنا لم نكن قد اقترفنا ذنباً يُذكر. ولكن حين قبّلَني جودَت على فمي حين كان الجميع بعيداً عنّا، بدأتُ بالبكاء لأنّني أدركتُ أنّني أصبحتُ خائنة. ولكن ذلك لم يمنعَني مِن الاستمتاع بالقُبل التي تَلَت أو بالكلام الجميل الذي كنتُ أعشقه.
ولكن في أحد الأيّام أثناء اتصال هاتفيّ مع جودَت قلتُ:
ـ ما نفع غرامنا... لن نستمتع فيه يوماً...
ـ لدَيّ مخطّطاً فيما يخصّنا... اتركي ابني وتعالي معي.
ـ إلى أين؟
ـ إلى أوروبا... سأبدأ أعمالي هناك مِن جديد... ومعكِ إلى جانبي سأتمكّن مِن أن أبنيَ لنا حياة جميلة.
ـ وزوجتكَ وأولادكَ؟
ـ لا يهمّني سواكِ! أنتِ مقدَّرة لي وأنا لكِ... زوجتي تعِبَت منّي وأولادي أصبحوا في سنّ الرشد.
ـ وما سيقوله تامر؟ أنّ أباه سرقَ منه حبيبته؟ ألَن يسبّب له ذلك صدمة كبيرة؟
ـ سيتعافى بِسرعة فلا يزال شاباً.
ولأنّني كنتُ أصغر سنّاً منه بِكثير استطاع جودَت اقناعي بأنّ الأمر ليس بالخطورة الذي أصوّرها. وخطّطنا للهرب سويّاً واتفقنا أن يسبقَني إلى أوروبا وأن أوافيه بعد أيّام. وبعث َ لي بطاقة سفر ولم يعد عليّ سوى ضب بعض الأمتعة سرّاً.
وكي لا يشكّ بنا أحد بقيتُ حتى آخر لحظة أمثّل دور الخطيبة العاشقة مع تامر. ولكنّ حديث جرى بيني وبين خطيبي قلَبَ الميازين كلّها. حَدَث ذلك قبل يوم واحد على رحيلي. كنتُ بِرفقة تامر وكنّا عائدَين مِن المطعم. ولأنّه كان يبدو مهموماً طوال العشاء خفتُ أن يكون قد لاحظَ أنّ شيئاً يتحضّر. لِذا أصرّيتُ أن أعرف السبب لأطمئنّ وأستبق أي حركة قد يفعلها تمنعني مِن الالتحاق بأبيه. عندها قال لي:
ـ إنّها أمّي...
ـ ما بها؟ هل هي مريضة؟
ـ لا... ولكنّ غيابات أبي تحبطها... منذ ما تزوّجا وهو يقضي وقته في اوروبا... أنا تعودتُ على عدم رؤيته وأحياناً أنسى أنّ لدَيّ أباً... ولكنّ المسكينة تحبّه كثيراً.
ـ ولكن لولا أسفاره لما تمكّنتم مِن العيش هكذا... يفعل ذلك مِن أجلكم.
ـ ومِن أجله هو أيضاً! كلنّا على علم بِمغامراته في الخارج... إنّه مولع بالنساء.
ـ وكيف تعرف ذلك؟ هل كنتَ معه؟
ـ لا بل سمعنا أخباراً كثيرة عنه.
ـ قد تكون تلك الأخبار مختلقة.
ـ لا... سأعطيكِ مثلاً... عندما كنتُ في أوّل سنة مِن دراستي في الجامعيّة كانت لي صديقة... أخبرتكِ عنها.
ـ أجل... وما دخل قصّتكَ معها بأبيكَ؟
ـ سيأتيكِ الكلام... جئتُ بها إلى البيت لأعرّفها على أهلي وكان أبي هنا يقضي معنا فرصة العيد...
ـ و...؟
ـ وبدأ يسايرها ويتصرّف معها كالمراهق.
ـ هذه ليست خطيئة... وربما فعَلَ ذلك ليريها لِيرفع الكلفة بينهما.
ـ لا... بعد فترة بدأ يتصل بها ويكلّمها بالغرام.
ـ وماذا فعَلَت الفتاة؟
ـ ماذا تريدينها أن تفعل؟ صدَّته طبعاً أوّلاً لأنّها تحبّني وثانياً لأنّه أبي وثالثاً لأنّه في سنّ أبيها!
ـ طبعاً.
وعندما وصلتُ إلى البيت كان حبّي لِجودَت قد تبخّر. فعندها فقط أدركتُ فظاعة ما كنتُ سأفعله. وبالطبع لم أسافر وتركتُ خطيبي تامر بِحجّة أنّني لستُ واثقة بعد مِن مشاعري. فعلتُ ذلك لأنّني لم أعد قادرة على النظر إليه دون أن أشعر بالذنب ولأنّني خفتُ أن يفضح أبوه أمري. ولكنّه لم يفعل وفضّلَ البقاء حيث هو ربّما لِيعيش الحياة الذي يريدها.
وبعدما انتظرَ تامر أكثر مِن سنة حتى أعود الى صوابي تزوّج مِن غيري وأنجبَ ولَدَين. أمّا أنا فلا أزال عازبة.
حاورتها بولا جهشان