منذ صِغَري، كان لدَي حلم وهو أن أصبَح راقصة باليه، لكنّ الظروف شاءَت غير ذلك، فبقيَ الموضوع مدفونًا داخلي إلى حين رأيتُ إعلانًا لمدرسة تُعلِّم رقص الصالات أو ما يُعرَف عامّة برقص الصالونات. لَم يكن الأمر كالباليه طبعًا، لكنّه رقص بطريقة فنّيّة ومُحترمة. عرضتُ على زوجي أن يُرافقُني، لكنّه بدا لي غير مُرتاح أو مُتحمِّس للفكرة، إلّا أنّه لَم يُعارِض، إذ قالَ لي: "خُذي إحدى صديقاتكِ بدَلًا عنّي"، فذلك الرقص يتطلّب شريكًا أو شريكة. أعجبَتني الفكرة فرافقَتني صديقتي وبدأنا الدروس. كنتُ سعيدة لأقصى درجة، وكأنّني طفلة صغيرة تعيشُ أفضل أيّامها.
كنّا نقصد المدرسة كلّ يوم خميس مساءً، ونقضي هناك حوالي الساعة والنصف، وأعودُ إلى عائلتي سعيدة ومليئة بالحماس. فالحقيقة أنّني منذ زواجي وانجابي لولَدَيّ، لَم يتسنَّ لي التركيز على نفسي شأن العديد مِن الأمّهات، وها أنا أحظى بساعة ونصف فقط لمُمارسة فنّ أعشقُه.
لاحَظَ الجميع التغيّر الذي حصَلَ لي وهنّأوني على طباعي المرِحة وبسمتي الدائمة، وعلى رشاقتي كلّما أرَيتُ أقاربي وأصدقائي ما أتعلّمه في تلك المدرسة. وهذا بالذات ما حمَلَ زوجي على إبداء رغبته بحضور حصّة معي. كَم كنتُ سعيدة إذ تمنَّيتُ منذ البدء لو أنّني أرقصُ معه لأنّني كنتُ أحبُّه كثيرًا. في البداية، جلَسَ زوجي جانبًا، لكنّ الأستاذ حثَّه على الاختلاط بالراقصين، وعلّمَه بضع خطوات سهلة، ثمّ أخذتُ بِيَده وبدأنا نرقص على مهل كَي لا أخيفُه. بعد دقائق، صارَ زوجي أكثر ثقة بنفسه، وبدأ يستمتِع بالموسيقى والخطوات. عُدنا في تلك الليلة إلى البيت وبسمة على وجهنا ونمنا مُتعانقَين.
قد تنتهي قصّتي هنا، لكنّها لَم تبدأ بعد. فهنائي كان قصير الأمَد، لأنّ الطبيعة البشريّة مُعقّدة وغالبًا شرّيرة ومؤذية، للأسف.
فلقد نمَت في قلب زوجي غيرة مِن مُدرِّب الرقص، لذلك ردَّ سبب فرحَتي إلى علاقة غراميّة بيني وبينه! كيف يخطر بباله هكذا أمر في حين هو يعرفُني جيّدًا، ويعرفُ مدى التزامي بزواجنا واخلاصي له. إضافة إلى ذلك، ألَم ألِحّ عليه للانضمام إليّ ومُشاركتي تلك الصفوف؟ وهل امرأة خائنة تفعل ذلك، أم أنّها تفعل جهدها لإبعاد زوجها قدر المُستطاع؟ لكن حين تستَيقِظ الغيرة ينامُ المنطق، للأسف. وهكذا، حاوَلَ زوجي إقناعي بعدَم الذهاب إلى تلك المدرسة، قائلًا إنّ سيّدة مثلي لا يجب عليها الرقص، بل ترك ذلك الأمر للصبايا العازبات، وإنّني أبدو سخيفة وأنا أرقص. حزنتُ كثيرًا لدى سماع تلك الكلمات مِن فم زوجي الذي استمتَعَ يوم أخَذَ درسًا، وهنّأني على رقصي. لكنّني لَم أتوقّف وصديقتي عن الذهاب إلى المدرسة، فلَم أكن أفعَل أيّ شيء مُضِرّ بصورتي الاجتماعيّة.
بعد ذلك، صارَ زوجي يؤلِّف الحجَج لِمَنعي مِن الذهاب، ففي كلّ أسبوع كان إمّا يختلقُ مناسبات علينا حضورها، أو يتمارَض. نجحَت خطّته في بادئ الأمر، لكنّه لَم يعُد يجِدُ الأعذار، فتوقّفَ عنها.
ما لَم أكن أعرفُه آنذاك، هو أنّه صارَ يتبعُني إلى المدرسة، ويُراقبُني كاللّص مِن خلف الشبابيك بعد أن يتركُ ولدَينا لوحدهما. هما لَم يكونا صِغارًا وبإمكانهما المكوث لوحدهما في البيت، لكن لماذا يضعُهما في خطَر ما؟ ماذا لو حدَثَ أمر مُفاجئ في البيت؟ إلّا أنّ غيرته صارَت قويّة ومُقلِقة، فهو لَم يُفكِّر بعقله وإلّا فهِمَ أن ليس هناك مِن علاقة حميمة بيني وبين ذلك المُدرِّس، فكيف وأين ومتى كنّا نتلاقى؟ فأنا لَم أغِب يومًا مِن دون حجّة مُقنِعة عن البيت أو عن أيّ التزام. إضافة إلى ذلك، كان هاتفي مُتاحًا للجميع، إذ أنّني لَم أضَع له كلمة سرّ ولَم آخذه معي إلى الحمّام أو إلى مكان أنفرِد فيه كما يفعلُ الذين لدَيهم أسرار.
يا لَيته فاتحَني بشكوكه، لَطمأنتُ بالَه أو عرَضتُ عليه مُجدّدًا مُرافقتي في كلّ مرّة إلى المدرسة. فلَم أعُد أُصِّر عليه لأنّه أعرَبَ بوضوح عن عدَم رغبته بالتعلّم، ولذلك تركتُه وشأنه.
وذات يوم، قرَّرَ زوجي التصرّف... بِدَفعي عن السلالِم! أجل، قرأتم جيّدًا، زوجي دفعَني عن سلالم بيتنا عن قصد. حدَثَ ذلك حين كنّا ذاهبين جميعًا لزيارة أحَد الأقارب، ونزلنا سلالم المبنى كوننا نسكنُ في الطابق الأوّل ولا نستخدِم أبدًا المصعد إلّا إذا كنّا عائدين مِن السوبر ماركت ومُحمَّلين بالأكياس.
للحقيقة، لَم أشعُر بالدفعة، بل حين وجَدتُ نفسي في أسفَل السلالم، فهِمتُ أنّني وقعتُ. كان جسمي كلّه يؤلمُني، وركَضَ زوجي ليحملَني إلى المشفى، بينما بدأ ولَداي بالصراخ مِن كثرة خوفهم. فحَصَني طبيب قسم الطوارئ، وتبيَّنَ أنّني كسَرتُ معصمي وأُصِبتُ برضوض في مُختلَف أنحاء جسمي. كانت رِجلايَ سليمتَين، على عكس ما أرادَه ذلك المُجرِم. قالَ لنا الطبيب إنّني محظوظة، فالبعض يتأذّى كثيرًا مِن هكذا سقطة ويكسرُ رقبته! حمَدتُ ربّي وشعرتُ بالغباء لأنّني وقعتُ، خاصّة حين وبّخَني زوجي عاليًا، وقالَ للطبيب إنّني لَم أكن أنظرُ أمامي وأنا أنزِل السلالم، الأمر الذي لَم يكن صحيحًا. حزنتُ لأنّ تلك لَم تكن ردّة الفعل التي توقّعتُها منه.
لدى عودتنا إلى البيت، لاقاني ولَداي بالبكاء لكثرة همّهما عليّ، لكنّني طمأنتُهما بأنّني سأكونُ بخير. إلّا أنّ ابني الكبير قالَ لي حين دخلتُ الغرفة:
ـ لماذا البابا فعَل ذلك؟
ـ فعَلَ ماذا؟
ـ لماذا دفعَكِ عن السلالم؟ فلقد رأيتُه وأخي.
نادَيتُ ابني الأصغَر وسألتُه عمّا رآه، فقال:
ـ دفعَكِ البابا حين كنّا نازلين، أقسمُ لكِ يا ماما!
صدّقتُ ولدَيّ لسبب وجيه، فهما لَم يكذِبا ولو مرّة واحِدة بشأن أيّ شيء. إضافة إلى ذلك، ردّة فعل زوجي في المشفى كانت غريبة، فلماذا يقولُ للطبيب إنّني لَم أكن أنظرُ أمامي؟ ليُبرِّر سقوطي ويُبعِد الشبهات عنه؟
نمتُ في غرفة ولدَينا في تلك الليلة لأنّني خفتُ حقًّا مِن زوجي، فالذي يدفَعُ بزوجته أسفَل السلالم قد يفعلُ ما هو أفظَع. لكن لماذا هذه الأذيّة تجاهي؟؟؟
في الصباح، أخَذتُ ولَدَينا إلى أهلي، وقلتُ لزوجي إنّنا سنبقى هناك حتّى يتعافى معصمي، لأنّني غير قادِرة على تحضير الطعام أو القيام بواجباتي المنزليّة، وبإمكانه اللحاق بنا إن شاءَ أو البقاء لوحده في البيت. لكن كلّ ما قالَه لي كان: "هل ستذهبين إلى الرقص؟". لَم أنتبِه في البدء، لكنّني فهِمتُ قصده وقلتُ له: "لا، فجسَدي مُغطّى بالكدمات ويؤلمُني كثيرًا". عندها رأيتُ بسمة عريضة على وجهه، بسمة انتصار لا ارتياح، وكأنّه كان فخورًا بنجاح خطّطه البشِعة.
عند أهلي، أخبرتُهم بما فعلَه زوجي وأكَّدَ ولدَايَ أمام أفراد عائلتي ما رأياه، الأمر الذي أثارَ الغضب العام. فماذا لو مُتُّ؟ نصحَني البعض بالذهاب إلى الشرطة ليخاف زوجي ويتراجَع عن تكرار أذيّتي، إلّا أّنّني رفضتُ ذلك، فهو كان في آخِر المطاف أب ولَدَيّ.
طلَبتُ مِن زوجي أن نتلاقى في أحَد المقاهي، لأنّني أُريدُ التحدّث إليه بموضوع هام. وحين جلَسَ قُبالتي، قلتُ له:
ـ أعلَم أنّكَ دفعتَني عن السلالم... لا تنكُر! فولدانا رأياكَ بوضوح وهما اللذان أخبراني بالأمر. ألّا تخجَل مِن نفسكَ أيّها الرجُل المريض؟!؟ تؤذيني وأمام ولدَيكَ؟ ماذا تظنّ سيقولان عنكَ الآن؟ يا للعار... تزوّجتُ مِن مُجرِم... أجل مُجرِم! كان بالإمكان أن أموت ويتيَتَّم ولدايَ! ومِن أجل ماذا؟ قُل لي! مِن أجل ماذا؟!؟
ـ مِن أجل مَنعكِ مِن اللقاء بعشيقكِ، مُدرِّب الرقص!
ـ أيّها الغبيّ! أوّلًا هو ليس عشيقي! أنتَ غِرتَ منه لأنّ بسببه شعرتُ بالسعادة بالرقص، غِرتَ منه لأنّكَ أدرَكتَ أنّني لَم أكن سعيدة هكذا معكَ! بدَلًا مِن اتّهامي بالخيانة ومُحاولة إيذائي، فتِّش عن طريقة لتُسعِدَني بطريقتكَ الخاصّة. إضافة إلى ذلك، غيرتكَ القويّة والمرَضيّة منعَتكَ مِن الانتباه إلى ما الكلّ رآه بوضوح: المُدرِّب مِثليّ! أجل، ألَم ترَ ذلك أيّها الغبيّ!؟!
تلبَّكَ زوجي وبدأ بالبكاء وتَمتَمَ بضع كلمات اعتذار، ثمّ سألَني عمّا أنوي فعله فأجبتُه أنّني بحاجة إلى التفكير، وأنّني سأبقى مع ولدَينا عند أهلي إلى حين أجِد حلًّا مُناسِبًا، فلَم أعُد أشعرُ بالأمان معه وكذلك ولدَانا.
أنا اليوم لا أزال حائرة، ولَم أتّخِذ قراري بعد. ماذا يجدُرُ بي أن أفعَل؟ ساعدوني!
حاورتها بولا جهشان