سارق الطفولة

يوم وصلتُ بيت هؤلاء الناس، كانت إبنة السيّد سعيد تنتظرُني أمام الباب وأسرَعَت بإدخالي مُتمتمةً: "أنا على عجلة مِن أمري فولدَاي ينتظراني في السيّارة... هيّا!". كنتُ أتوقّع استقبالاً أكثر هدوءً وشرحًا مطوّلاً لِما عليّ معرفته للقيام بمهامي، إلا أنّ الإبنة غادرَت بسرعة فور دخولي غرفة العجوز. وقفتُ أمامه غير عارفة ما عليّ قوله فابتسمتُ وعرّفتُ عن نفسي:

 

ـ أنا عبير، وسأهتمُّ بكَ مِن اليوم وصاعدًا.

 

ـ أهلاً بكِ يا صغيرتي. غرفتكِ جاهزة. هل أرَتكِ إيّاها إبنتي وشرحَت لكِ أين تجدين كلّ ما تحتاجين إليه؟

 

ـ للحقيقة... كانت السيّدة إبنتكَ في عجلة مِن أمرها.

 

ـ كعادتها... لا عليكِ، سأُجيبُ على كلّ تساؤلاتكِ. إذهبي إلى غرفتكِ الآن ورتّبي أموركِ... إنّها على يمينكِ عندما تخرجين مِن هنا والحمّام مُلاصق لها.

 

ـ شكرًا سيّدي... أرجو أن أكون عند حسن ظنّكَ.

 

كانت غرفتي لطيفة ومُريحة ولا يفصلُ بينها وبين غرفة الرجل سوى حائط رفيع. رتّبتُ أمتعتي بسرعة لأعود إلى السيّد سعيد حتى آخذ منه التعليمات المُتعلّقة بوجباته وأدويته، فوجدتُه نائمًا. عندها قصدتُ المطبخ أفتَح الخزائن لأعرف أين الأواني والصحون. كان مِن الواضح مِن أثاث البيت الذي جلتُ فيه بعد ذلك أنّ صاحبه مُرتاح مادّيًّا وذو ذوق رفيع. إبتسمتُ لأنّ المنزل الذي وُلدتُ وكبرتُ فيه مُختلف تمامًا من حيث الكبر والجمال. فالحقيقة أنّ عائلتي لَم ولن تتمكّن مِن صعود سلّم المجتمع بسبب فقرها. وحدي إستطعتُ التعلّم بما يكفي للتميّز عن باقي أفراد عائلتي، لكن ليس كفاية لأصبَحَ طبيبة كما في أحلامي. وصلتُ إلى أقرَب ما يُمكن، أي مُساعِدة شخصيّة للمسنّين، وكانت تلك أوّل تجربة لي. كنتُ في الثامنة عشرة مِن عمري وأملتُ أن أنجحَ في مهامي لتصبح تلك مهنتي الدائمة.

علمتُ في المساء مِن السيّد سعيد أنّ لدَيه إبنة وحيدة تزوّجَت وأنجبَت ولدَين وتعيشُ بعيدة نسبيًّا عنه. هي لا تزورُه إلا نادرًا بسبب انشغالها بعملها وعائلتها فلَم يعُد هناك مَن يهتمّ به. سألتُه عن زوجته فقال لي إنّها لا تزال على قيد الحياة إلا أنّها تعيشُ مع زوجها الثاني بعد طلاقهما الذي حصَلَ منذ زمَن بعيد. وهو لَم يُعاود الزواج بل ركّزَ على أعماله.

 


حزِنتُ للسيّد سعيد، فحيث أعيشُ لا نتركُ مُسنّينا بل نهتمُّ بهم حتى آخر أيّامهم. ربمّا كثرة المال والأعمال هي السبب... لستُ أدري.

أحبَبتُ العمل عند ذلك الرجل الطيّب والهادئ، الذي كان بالكاد يتنقّل بل يبقى طوال الوقت على كرسيّه في غرفته أو في سريره. كنتُ أساعدُه في كلّ شيء، حتى في أخذ حمّامه، فاعتبرتُه بمثابة جدّيّ. وفي آخر المطاف، عملي كان يُملي عليّ ذلك، تمامًا كما شأن الممرّضات في المستشفيات.

زرتُ أهلي كلّ أسبوع لِنهار واحد، وكانت تأتي مكاني إمرأة يُرسلُها المكتب نفسه الذي جئتُ مِن قِبَله.

طوال شهر لَم تدقّ إبنته بابنا، وهو شيء مؤسف للغاية. بدلاً مِن ذلك، كانت تكتفي بالإطمئنان هاتفيًّا، وكان الكلام بيننا يدورُ عنّي أكثر مِن عن راحة وسلامة أبيها. كنتُ أعلَم أنّ المسنّين الذين يحتاجون للخدمات هم وحيدون، لكن في أغلَب الأحيان هؤلاء الناس لَم يُنجبوا أو يكون أولادهم في الخارج. لكن أن تترك إبنة السيّد سعيد أباها هكذا، فذلك كان غير مقبول لدَيّ.

مرَّ شهر ثانٍ مِن دون أن أشعر به لشدّة إرتياحي في ذلك العمل، وصرتُ أبني المشاريع بفضل راتبي الجيّد ووعد العجوز بإضافة مبلغ شهريّ أسماه "مكافأة" قد تمكّنُني أخيرًا من شراء سيّارة. لِذا بذلتُ كلّ ما لدَيّ لأستحقّ هكذا مُعاملة.

يوم وضَعَ السيّد سعيد يدَه على صدري أطلقتُ صرخة رغمًا عنّي وهو كادَ يقَعَ في الحمّام. سادَ السكوت ومِن ثمّ قال لي:

 

ـ آسف يا صغيرتي، فلقد شعرتُ بدوار وخلتُ أنّني أهوي، فحاولتُ التمسّك بكِ.

 

تفهّمتُ الوضع طبعًا ونسيتُه سريعًا، فلَم يكن مِن المعقول أنّ رجلاً في مثل سنّه وحالته الصحيّة قد يُفكّر بهكذا أمور ويلمسُ جسدي عمدًا. لكنّ السيّد سعيد بقيَ صامتًا لأيّام وعملتُ على الترفيه عنه قدر المستطاع، لأريه أنّني لَم أُفسِّر حركته تلك على أنّها غير لائقة. كلّ ما قالَه كان: "أرجو ألا تعلم إبنتي بالذي حصَل". طمأنتُه وطلبتُ منه نسيان الموضوع، فهكذا أمور تحصل ولا ينبغي إعطاؤها أيّ تفسير. عادَت الأمور إلى ما كانت عليه واشترَيتُ السيّارة بالتقسيط طبعًا، الأمر الذي ملأ قلبي بالفرَح والأمل، ورحتُ آخذ عائلتي بنُزهة إلى قريتنا لإفراح جدّي العجوز وأخوالي. بارَك لي الجميع وعدتُ ليلاً إلى بيت السيّد سعيد مُنهكة. ولشدّة إرهاقي، رأيتُ أحلامًا مُزعجة ومُفزعة أثناء نومي، الأمر الذي أثَّرَ على مزاجي في اليوم التالي. لاحظَ العجوز ذلك وسألَني عن السبب، فكان مِن المفروض أن أكون سعيدة لشراء سيّارتي، فأجبتُه أنّني حلِمتُ بأنّ سارقًا دخَلَ البيت وغرفتي بالتحديد، فابتسَمَ العجوز وقال: "هذا البيت آمِن للغاية يا صغيرتي، ولَم يحدث بعد أن حاوَلَ أحدٌ التسلل إليه. الكوابيس تحصل وهي ليست سوى أوهام". وافقتُه الرأي ورددتُ الأمر إلى جمال البيت والتحف التي تملأه، فلا بّد أنّني فكّرتُ ضمنيًّا أنّه يكون محطّ أنظار لصّ ما.

بعد أسبوعَين تقريبًا، طلَبَ السيّد سعيد منّي أن نتكلّم في موضوع هام، فجلستُ قُبالته وهو قال لي:

 


ـ لقد اعتدتُ عليكِ يا صغيرتي وأُريدُ أن تكوني سعيدة هنا.

 

ـ عملي لدَيكَ يا سيّدي يُسعدُني للغاية.

 

ـ لقد لاحظتُ ذلك، خاصّة بعدما اشتريتِ السيّارة... هل مِن شيء آخر تودّين الحصول عليه؟

 

ـ بل أشياء!!! للحقيقة ليس لدَيّ الكثير، فنحن أناس عاديّون جدًّا ولقد كبرتُ في العوز.

 

ـ أستطيعُ تأمين لكِ ما تحلُمين به. فأنتِ صرتِ فردًا مِن العائلة، وكما ترَين فأنتِ الإنسانة الوحيدة التي تُشاطرُني أيامّي. أنتِ فعلاً مكان إبنتي.

 

ـ راتبي والمبلغ الإضافيّ الذي تُعطيني إيّاه هما كافيان يا سيّدي... فبوجودي هنا لا أحتاجُ إلى شراء المأكل والمشرب أو حتى الملابس، فالزَيّ الذي أرتديه يُغنيني عن ذلك. أشكرُكَ.

 

ـ لدَيّ الكثير مِن المال! هناك ذهبٌ أيضًا!

 

ـ وكلّ ذلك مِن حقّ إبنتكَ يا سيّدي.

 

ـ إنّها إبنة جاحدة! تُدير ظهرها لي بعد كلّ الذي فعلتُه مِن أجلها! هي تمامًا كأمّها! تلك الأخرى تركَتني آخذة معها إبنتها منذ سنوات طويلة.

 

ـ ألَم تعِش إبنتكَ معكَ حتى زواجها؟

 

ـ لا بل غادرَت مع أمّها منذ أكثر مِن عشرين سنة، وانقطعَت أخبارها طوال ذلك الوقت لتعاود الإتصال بي حين علِمَت بحالتي الصحّيّة. لا بّد أنّها تشفقُ عليّ وحسب... ناكرة الجميل هي! بقيتُ أدفعُ لها ولأمّها المال لمدّة سنين ولَم أسمَع كلمة شكر مِن أيّ منهما!

 

حزنتُ حقًّا مِن أجل العجوز فهو لا يستحقّ هكذا مُعاملة. تركتُه يهدأ ورحتُ أُحضّر وجبة الطعام غاضبةً مِن تصرّفات هاتَين المرأتَين.

كنتُ أعلَم أنّ حديث السيّد سعيد سيُؤثّرُ على نوعيّة نومي، فطلبتُ منه إعطائي حبّة منوّم مِن التي كان يتناولُها أحيانًا في المساء فاستجابَ لِطلبي. دخلتُ سريري وفكّرتُ جدّيًّا بالإتصال بالإبنة لأُطلعُها على امتعاض أبيها منها، لكنّني عدتُ وغيّرتُ رأيي، فَما دخلي أنا؟

نمتُ ناسيةً أخذ المنوّم بعد أن أخذَتني أفكاري إلى أوضاع كلّ هؤلاء المُسنّين المتروكين.

وحين فتحتُ عَينَيّ، كان السيّد سعيد نائمًا فوقي! صرختُ بأعلى صوتي وأزحتُه بقوّة عنّي، فسقَطَ أرضًا. قمتُ مِن سريري وأضأتُ نور الغرفة وإذ بالرجل يقول: "ما الذي أيقظَكِ؟!؟ ألَم تأخذي المنوّم؟!؟". أمسكتُه بذراعه وأخذتُه إلى سريريه مِن دون أن أتفوّه بكلمة مِن شدّة غضبي. وقَبل أن أخرج مِن غرفته قال لي: "أُطلبي ما تشائين يا صغيرتي وستحصلين عليه... أيّ شيء!"

فهمتُ على الفور أنّ الكابوس الذي رأيتُه في إحدى الليالي لَم يكن حلمًا عن لصّ دخَلَ غرفتي بل بالحقيقة مُحاولة السيّد سعيد الأولى للتحرّش بي.

رحتُ أختبئ في غرفتي بعد أن أقفلتُ الباب بالمفتاح، وانتظرتُ طلوع الفجر لأجمَع أمتعتي وأرحَل مِن ذلك المكان النتِن. وعندما صرتُ جاهزة، خابرتُ الإبنة لأُكلّمها عن نيّتي الرحيل. وقَبل أن أفصِح لها عن السبب قالَت لي: "لقد فعلَها مُجدّدًا، أليس كذلك؟ القذِر! لهذا السبب كنتُ أطمئنُّ دائمًا عليكِ... إنّه مُنحرِف وأتمنّى له أن يموت موتًا بطيئًا لوحده... لقد دمَّرَ طفولتي... نعم، فأبي تحرَّشَ بي حين كنتُ صغيرة وسرَقَ منّي براءتي. وحين علِمَت أمّي بما يجري، أسرعَت بأخذي بعيدًا عنه. مع الوقت، قرّرتُ أن أُسامحَه، فبقيتُ على اتصال هاتفيّ به آملةً أنّه قد تابَ وعادَ إلى ربّه. إلا أنّ هكذا أناس لا يتغيّرون أبدًا. سأدفعُ لكِ باقي أقساط سيّارتكِ للتعويض عمّا مرَرتِ به. أنا آسفة... كان يجدرُ بي تحذيركِ."

توجّهتُ إلى مكتب التوظيف وأخبرتُهم بما جرى، طالبةً منهم عدَم إرسال فتيات للعمل عند السيّد سعيد وهم وزّعوا الخبَر على المكاتب الأخرى. لَم أشتكِ عليه لدى الشرطة لأنّني كنتُ أعلَم أنّ ما فعلَه صعب الإثبات خاصّة أنّ إبنته حتمًا لا تُريدُ خوض هكذا معركة، ليس حفاظًا على سمعة أبيها لكن كي لا تتذكّر أمورًا أليمة عمِلَت لسنوات على نسيانها. ومنذ ذلك الوقت لا أقبَل بالعمل سوى لدى سيّدات عجائز.

علِمتُ مِن إبنته أنّ السيّد ماتَ وحيدًا بعد أن رفَضَ أن يهتمّ به رجال، بل بقيَ مُصرًّا على أن تُبعَث له صبيّات يافعات. وهكذا ماتَ ضحيّة شذوذه ولَم يأسَف عليه أحدٌ، بل بموته هو أراحَ قلب كلّ اللواتي سرقَ منهنّ طفولتهنّ.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button