المُتنمّر

عندما نسمَع كلمة "تنمّر" تأتي تلقائيًّا إلى ذهننا صورة ولد أو أولاد يُزعجون آخرين، ونكتفي بالإبتسامة وكأنّ الأمر ليس بتلك الأهمّيّة. لكنّ للتنمّر أشكالاً عديدة وخطيرة للغاية. هل للضحيّة دخل بالموضوع، وهل بإمكاننا الإفلات مِن مُتنمِّر أو التغلّب عليه؟ هذه قصّتي مع مُتنمِّر عرِفَ كيف يُدمّر حياتي مِن دون أن يشكّ به أحد.

أتكلَّم عن زوجي الذي تحمّلتُه سنوات طويلة وأليمة، ولقد أعطَيتُ لتصرّفاته معي ألقابًا عديدة ما عدا التنمّر. والحقّ يقَع في نظري على مُجتمعنا الشرقيّ الذي يُعطي الحقّ للرّجُل تحت غطاء "الرجولة"، أن يُمسكَ بحياة زوجته أو اخته أو ابنته ويفعل بِهنّ ما يشاء، حتى لو تطلّبَ منه الأمر تحطيمها للسيطرة عليها.

تزوّجتُ مِن كريم ليس لأنّني أحبَبتُه بل لأنّ أهلي أرادوا ذلك، فالكلّ اعتبَرَني "جاهزة" لِخوض الحياة الزوجيّة، وأنّ ذلك العريس مُناسب لي فقط لأنّه مَيسور ويستطيع تأمين حياة مُريحة لي. مُناسبٌ لي؟ على الأطلاق يا ناس! فذلك الرجُل يحتقِرُ النساء، لأنّه يعتبرُ نفسه أذكى وأشطَر منهنّ كُونه رجُلاً وحسب.

لن أدخُل في تفاصيل ليلة زفافنا احترامًا لمشاعركم، لكن أستطيع القول إنّ كريم حسِبَ نفسه يُعاشِر قطعة لحم وليس امرأة. ولأنّني لَم أكن أعرف شيئًا عن الموضوع، إعتبرتُ أنّ ما حصَلَ، وما سيحصلُ لاحقًا في غرفة النوم، هو أمر طبيعيّ. لِذا بقيتُ آملُ بأن أسعَد مع عريسي.

بالطبع بدأتُ أنظّفُ البيت وأطهو، وأُلبّي طلبات زوجي كما تفعل السيّدات غير العاملات، وفعلتُ ذلك مِن كلّ قلبي ولأثبتَ لكريم أنّه لَم يُخطئ الاختيار. لكن لدى أيّة هفوة منّي، بدأ ينعتني بألفاظ مُجرِّحة ويهزّ برأسه وكأنّه نادم أو آسف على اختياري بالذات، أو يُكلّم إنسانة مُتأخّرة عقليًّا. وكلّ ما زادَ بِتجريحه لي، كلّما زادَ إرباكي وارتكابي للأخطاء. أيّ أخطاء نتكلّم عنها؟ أخطاء جسيمة؟ لا بَل ترك الطعام يبرُد أو إحداث طيّات بالكاد مرئيّة بكوي الملابس.

وهكذا، بدأتُ يومًا بعد يوم أخافُ مِن تأنيباته وأصبُّ كلّ جهدي على القيام بما يجب، أي ما يُحبُّه كريم. وماذا عمّا أُحبُّه أنا؟ للأسف ذلك لَم يكن ضمن المُعادلة. للحقيقة، أنا بالذات لَم أكترِث لِراحتي أو سعادتي، فهو كان أهمّ منّي ويأتي أوّلاً.

لَم أُنجِب إلا بعد سنتَين، لأنّني حسب قوله: "غير فالحة بأبسط الأمور، كالإنجاب، الأمر الذي يُحسنُ فعله حتى الكلاب والقطط." وحين رأى ابني النور، شعرتُ وكأنّني تسلّقتُ جبل الإفرِست وغرَزتُ علَمي على قمّته. ورجوتُ أيضًا أن يرى زوجي كَم أنّني فالحة ويتوقّف عن تصغيري وتحجيمي، إلا أنّني لَم أحظَ بأيّ تهنئة منه بل هو حضَنَ ولَده قائلاً: "آملُ أن تكبر لتصبحَ مثلي وليس مثل تلك البلهاء."

 


بكيتُ كثيرًا بعد أن أحسَستُ أنّ لا شيء سيُرضي زوجي يومًا. لا شيء؟ بلى: مُعاشرته لنساء أخريات. أجل، كان زوجي يخونُني. كيف علِمتُ ذلك؟ لأنّه لَم يُخفِ عنّي الأمر، بل اعتبرَ ذلك حقّه كرجُل قويّ وذي رغبات لن أستطيعُ يومًا إشباعها. ربّما استطعتُ إشباع تلك الرغبات لو هو عرِفَ كيف يُثير رغبتي به، بدلاً مِن أن أرتعِب وأشمئزّ كلّما هو لمَسَني. عدتُ وقلتُ لنفسي ما تقولُه مُعظم الزوجات المخدوعات: "المُهمّ أن يعودَ زوجي إلى البيت في المساء". ترَهات! هو يعودُ إلى البيت ليس لِشعوره بالانتماء إلى مؤسّسة الزواج، بل لِينام في سريره ويأكل أكلاً مطهوًّا على ذوقه ويلبس ثيابًا نظيفة ومكويّة بشكل يُرضيه.

سرعان ما باتَ كريم يُهينُني أمام ابننا وكلّ مَن زارَنا أو التقى بنا. كانت كلمات مؤذيّة يتلفظّ بها وكأنّها دعابة، وتصبُّ كلّها في خانة تحجيمي وتكبيره هو. أرادَ زوجي بذلك أن يرى الجميع إلى أيّ مدى هو مغبون معي، وكيف أنّه يتحمّل امرأة مثلي. لكن ممّا أشكو بالفعل؟ ألَم أكن زوجة صالحة وربّة بيت مُمتازة وأمًّا مثاليّة؟ صحيح أنّني لَم أنَل شهادات عالية، لكنّني لَم أكن أُمّيّة أو جاهلة بل أتحلّى بمستوى لا بأس به مِن المعرفة. لماذا لَم يتزوّج كريم مِن مُحامية أو طبيبة أو مُهندسة؟ لأنّه بكلّ بساطة كان ليشعرُ بالنقص تجاههنّ، ولن يتمكّن مِن الظهور بكامل رجولته معهنّ. إختارَني أنا بالذات لأنّه علِمَ أنّني أُمثّلُ الضحيّة المثاليّة لِتنمّره. فالجدير بالذكر أنّ المُتنمِّر إنّما هو جبان وحسب.

وخلال تلك السنوات، تحطّمَت معنويّاتي لِدرجة أنّني بالفعل صرتُ أؤمِن بِعدَم وجود قُدرات لدَيّ، ونسيتُ نفسي لأنصهر في زوجي. تركتُه بِصمت يقودُني إلى حيث هو يُريد.

ويوم أخبرَني كريم أنّه تزوّجَ عليّ، لَم أجرؤ على الزَعَل منه. مُحيطي نفسه لَم يرَ مانعًا في ذلك، فكان مِن المنطقيّ أن يجدَ كريم لِنفسه زوجة تليقُ به. ما آلَمني حقًّا هو أنّ زوجي كان يُعير أهميّة كبيرة واهتمامًا ملحوظًا بتلك المرأة، الأمر الذي لَم يفعله معي. لِذا تقصَّيتُ عنها وعلِمتُ أنّها ابنة أناس ذوي مركز اجتماعيّ مرموق، وأنّها مُتعلِّمة وتتحلّى بشخصيّة قويّة. فهِمتُ أنّ كريم وجَدَ بالفعل زوجة تليقُ به. وبعد ذلك غرقتُ في الكآبة، فلَم أعُد مُتعلّقة بالحياة، ليس لأنّني أحبُّ زوجي وأخافُ أن أخسره، بل لأنّني صرتُ بالفعل نكِرة. فكّرتُ بالانتحار لكنّني لَم أجرؤ على ترك ابني مع زوجي وزوجة أبيه.

وأنقذَني الإنترنِت. أجل، لَم يأتِ فارس شجاع أو صديق أو قريب لِنجدتي، بل مُجرَّد إعلان ظهَرَ يومًا على شاشة جوّالي يعرضُ تعليم لغات جديدة ومهارات مُختلفة. كانت الدروس مجّانيّة ولا تتطلّب وقتًا مُحدّدًا، بل أستطيع التعلّم على سجيّتي. إنتسبتُ للموقع بداعي الفضول، وبسبب ملَلي بعد أن صرتُ وحيدة في البيت أثناء تواجد ابني في المدرسة وزوجي عند تلك المرأة. وفي ذلك اليوم، حين نقرتُ على كبسة "دخول" الموقع، لَم أُدرك أنّ حياتي ستتغيّر للأبد. فقد انفتحَ أمامي أفق، لا بل آفاق، لَم أكن أعرف مدى أهميّتها بالنسبة لحالتي النفسيّة والثقافيّة... والعلميّة.

درستُ ودرستُ مِن دون توقّف، وكأنّني أبتلعُ المعرفة بشراهة. وبدأَت الأمور تتغيّر في داخلي، خاصّة بعد أن اكتشفتُ أننّي مُتعلِّمة بارعة على خلاف ما كنتُ أعتقد. حصلتُ على شهادة بالمراسلة في اللغة الانكليزيّة، ومِن ثمّ كمُساعِدة تنفيذيّة بعد أن تعُلّمتُ أيضًا الطباعة على لوحة المفاتيح وبسرعة مُرضية للغاية!

 


لاحظَ كريم تغيّرًا في شخصيّتي، فهو بات ينظُر إلي بإمعان وكأنّه يُحّللُ بصمت ما يحصل، وخلُصَ به الأمر باتّهامي بالخيانة. فهكذا كان هو، لا يُعلّقُ أهمّية سوى لأمور الجسَد. وباتَ عدائيًا ويُسمِعني تلميحات وتهديدات مُختلفة . لَم أُعلِّق على تلك التفاهات، فكان ذهني في مكان أخر، إذ صرتُ أحلُم بأن أُنفّذَ يومًا كلّ ما تعلّمتُه، وتخّيلتُ نفسي في مكتب أهتمّ بشؤون مدير شركة كبيرة ومُرتدية ثيابًا جميلة ورسميّة... وليَقُل كريم كلّ ما يُريد!

لكنّني كنتُ أدري أنّ زوجي لن يسمَح لي بالعمَل، فذلك سيعني إفلاتي مِن قبضته. لكننّي كنتُ راضية، في ذلك الوقت، بالاكتفاء بشهادتَيّ وبأنّني فعلتُ شيئًا بالسّر عن كريم ونجحتُ به. يا للشعور العظيم!

بقيَ زوجي يُراقبُني حتى ارتاحَ باله، فكان مِن الواضح أنّني لستُ على علاقة مع أحد، لكن ما سّر تلك الثقة الجديدة التي اكتسبُتها؟

أشكرُ الله أنّ زوجة كريم أعطَت له ولدًا لأنّه انشغَلَ به وبها وبدأ ينساني وابني. وتحوّلَ البيت مِن سجن حزين إلى مكان أجِد فيه الرّاحة والحرّيّة والأمل. ويوم أطلعَني كريم على نيّته الانتقال بصورة دائمة إلى بيته الزوجيّ الآخر، كدتُ أُعانقُه مِن الفرح! إلا أنّني ادّعَيتُ الحزن وعاتبتُه قليلاً. لَم يهمّه الأمر طبعًا بل اكتفى بتطميني أنّه سيستمرّ بالصّرف علينا. وحين أقفلتُ الباب وراءه وحقائبه، نظرتُ إلى السماء شاكرة وقائلة: "حان وقت التصرّف."

لكنّني كنتُ أعلَم أنّ زوجي، وبالرّغم مِن تركه بيتنا، كان ينوي إبقاء سيطرته عليّ ولن يقبَل بأنّ أستقلّ بالعمَل خارجًا. لِذا أخذتُ أُفكّر بوسيلة ما. ولم يكن أمامي سوى حلّ واحد: الاستنجاد بزوجته. للحقيقة لَم أحمِل ضغينة تجاهها، إلا أنّني لَم أكن أعلَم ما هو موقفها منّي. وحين قرَعتُ باب المنزل الذي سكنَت فيه وزوجي وابنهما، إستقبلَتني بشيء مِن الاندهاش والرَيبة. طمأنتُها على الحال، فلَم آتِ لاسترجاع كريم أو طلَبَ المزيد مِن المال، بل أن تُقنِعه بتطليقي وترك ولدي معي. كنتُ أعلَم أنّها ستفهم رغبتي بالاحتفاظ بوحيدي كونها أمًّا هي الأخرى، وأنّها سترتاح للتخلّص مِن غريمة حتى لو كانت خاضعة ومُسالِمة. فأيّ امرأة ترضى بتقاسم زوجها؟ رجوتُها ألا يعرف زوجنا بزيارتي والغرَض من مجيئي، وهي وعدَتني بحفظ ذلك السرّ.

يوم طلّقَني كريم تظاهرتُ بالحزن والاستنكار لكنّ قلبي كان يرقصُ مِن الفرَح. ركضتُ أبحثُ عن عمَل، وبعد جهد صرتُ سكرتيرة في شركة صغيرة.

اليوم حقّقتُ حلمي، أي أنّني ألبسُ بذّة أنيقة ولدَيّ مكتبي الخاص كمُساعِدة مُدير في مؤسّسة شهيرة. لقد تطلّبَ الأمر سنوات مِن العمَل الدؤوب والمُتفاني، إلا أنّني لَم أدَع شيئًا يشدُّ بي إلى الوراء. إبني صارَ شابًّا وسيمًا ومُتعلّمًا، وأنا امرأة قويّة وذات ثقة بالنفس لا تُهزَم.

فهمتُ أنّ زوجي تنمّرَ عليّ لأنّني سمحتُ له بذلك، فهو عامَلَ زوجته الأخرى باحترام فائق. فهمتُ أيضًا أنّ للمرأة أن تتعلَّم وأنّ تعمَل، لتكوِّن نفسها وتكتسب خبرة وثقة وأن تُعاشر الناس على اختلافهم، لتفهم الدنيا وتُحافظ على كيانها وحقوقها.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button