كان الطقس ممطراً والسماء داكنة وكنتُ أقود بِسرعة على غير عادتي. كنتُ قد تأخّرتُ بِعملي بِسبب إجتماع طارئ وكانت إبنتي تنتظرني منذ أكثر مِن ساعة عند أستاذة البيانو. حاولتُ الأتصال بِزوجي لأطلب منه أن يذهب مكاني ولكنّه لم يجب لأنّه كان غاضباً منّي وتَعِبَ مِن شجاراتنا المتتاليّة. فزواجنا كان بخطر بعد أن أصبحنا كالغرباء لأنّ سمير لم يكن يطيق ظروف عملي ولم أقبل أن يقف بِوجه مستقبلي المهني.
عندما تزوّجنا أطلعتُه على طموحاتي في الشركة وكان يعلم كم أنّ الأمر مهم بالنسبة لي. ووافقَ لبل شجّعَني على الأستمرار خاصة أنّني كنتُ على وشك نَيل ترقية مهمّة أي أدارة فرعاً بِكامله.
ولكن بعد ولادة إبنتنا وبعد أن عانَيتُ في توفيق حياتي كأمّ وكَمديرة قرّرتُ ألاّ أنجب ثانية. عندها بدأَت المشاكل خاصة بعدما طلبَ سمير منّي وبكل بساطة أن أترك وظيفتي. وبالطبع كان الأمر مستحيلاً فلم أتعب كل تلك السنين سدىً وصَلَ الوضع بيننا إلى حدّ الطلاق.
وبينما كنتُ أقود في تلك الليلة أخَذتُ أفكّر بِزواجي وكيف تبخّرَ حبّنا لِبعضنا ولم أرَ السيّارة الآتية قبالي. وعندما أستوعَبتُ ما يحصل حاولتُ تفاديها ولكن وبِسبب المطر أنزلَقَت سيّارتي إلى أقصى اليمين واصطدَمَت بِشجرة. ومِن بعد ذلك غرقتُ في الظلام ولم أشعر بِسيّارة الأسعاف وهي تنقلني إلى المستشفى ولا بالأطبّاء الذين عملوا جهدهم لإيقاظي في قسم الطوارئ. وتوقّفَ قلبي عن الخفقان وأعلنوا موتي في تمام الساعة الثامنة ليلاً.
ولكنّني كنتُ واعية على ما يحدث ولكن ليس بالمعنى الفعليّ فإلى جانب الهمسات التي كنتُ أشعر بها دون أن أسمعَها وجدتُ نفسي وكأنّني أدخل في نفق ضيّق وفي آخره نور ساطع. تسارعَ نفَسي وكأنّني أختنق ولكن عند بلوغي ذلك النور سَكنَني شعور بالإرتياح لم أختبره مِن قبل. ووسط هدوء تام وسكون لا مثيل له رأيتُ أناساً آتين إليّ. ولِقوّة الضوء لم أستطيع تمييز وجوههم وأنتظرتُ أن يقتربوا منّي أكثر.
وتفاجأتُ لِدرجة لا توصف عندما أدركتُ أنّ هؤلاء الناس كانوا الأهل والأصدقاء الذين ماتوا مِن سنين متفاوتة. ولكن وجه واحد أستقطبَ اهتمامي أكثر مِن الباقين: وجه أبي الذي فارق الحياة قبل خمسة أعوام. كان قد توفّيَ بِسبب قلبه الضعيف ولم أستطع تخطّي فقدانة لِكثرة تعلّقي به. ركضتُ إليه وعانقتُه بِحرارة صارخة:
ـ بابا! كم اشتقتُ إليكَ!
ـ وأنا أيضاً يا صغيرتي... كلنّا أشتقنا إليكِ.
وأشارَ بِيده إلى جدّتي وجدّي وإبنة عمّه وباقي الموجودين. كانت فرحَتي لا توصَف فأضفتُ:
ـ الآن أجتمعَ شملنا!
ـ لا يا حبيبتي... لم يحِن وقتكِ بعد.
ـ ولكن... أريد البقاء معكَ... ومعهم.
ـ لن يحصل ذلك على الأقل ليس الآن... هناك قواعد لا نستطيع خرقها وعلينا الألتزام بها... عندما يأتي دوركِ ستوافينا هنا... حياتكِ على الأرض لم تنتهِ بعد.
ـ ولكنّ المكان هنا أفضل... أشعر بِفرح لا يوصف... فرح داخليّ لم أذقه حتى في أجمل لحظاتي على الأرض... هنا لا مشاكل ولا شجار... لا هموم ولا مسؤوليّات... هنا حبّ ولا شيء آخر.
ـ أعلم عمّا تتكلّمين يا إبنتي فأنا أشعر وأرى كل ما تمرّين به... أنّها غيوم بسيطة.
ـ غيوم؟ لبل عواصف!
ـ الموضوع لا يستحق أن تخربي حياتكِ وحياة زوجكِ وإبنتكِ... كل شيء ينحل بالتفاهم والحب... أنظري حولكِ... هل ترين أي شيء سلبيّ؟
ـ هنا لا...
ـ عليكِ أن تجعلي مِن حياتكِ الأرضيّة نسخة عن حياتنا هنا... بِقدر المستطاع طبعاً فعلى الأرض مغريات كثيرة وتركيزاً على الذات... هنا نعيش كشخص واحد مع بعضنا ومع الخالق.
ـ ما عليّ فعله؟
ـ أبحثي في قلبكِ عن الجواب... أبحثي عن الحب الذي دفعكِ الى الزواج وتأسيس عائلة... أين ذهَبَ ذلك الحب.
ـ لا أدري... ربمّا تبخّرَ!
ـ لا... لا يزال موجوداً ولكنّه باتَ مطموراً تحت العمل والمسؤوليّات والطموحات والأنانيّة... لا أتكلّم عنكِ فقط بل عن زوجكِ أيضاً... هيّا عودي إلى عائلتكِ فهما بِحاجة إليكِ...
ـ سأراكَ مجدّداً أليس كذلك؟
ـ أجل ياحبيبتي وسمنضي الأبديّة سويّاً... هيّا عودي الآن!
وحين صرَخ أبي ذلك فتحتُ عينيّ في المستشفى وسط ذهول الممرّضات. عندها ركضَت أحداهنّ وصاحَت:"لقد عادَت! لقد عادَت إلى الحياة!" ورأيتُ مجموعة مِن الناس بلباس أبيض تلتمّ حولي وخلفهم سمير زوجي وعيونه مليئة بالدموع. وبعد أن تأكّدوا أنّني بِخير عادوا إلى مرضاهم وبقيَ زوجي الذي بدأ يقبّل يدَيّ بِشغف:
ـ عُدتِ إليّ!
ـ أجل... لن تتخلّص منّي بسهولة!
ضحكنا ومِن ثمّ أضفتُ بِلهجة أكثر جدّية:
ـ عدتُ لأنّ مهمّتي هنا لم تنتهِ... سأخبركَ كل شيء عندما أترك المستشفى... أين فتاتي الجميلة؟ هل علِمَت أنّني... أقصد...
ـ لا... لا تخافي... جاءَت أمّي وأخذَتها إلى بيتها وقالت لها أنّكِ وقعتِ ضحية حادث سَير وأنّكِ بِخير... أمّا بالنسبة لأمّك فلم أخبرها شيئاً بسبب حالتها الصحيّة... سمعي... أنا آسف على تصرّفي معكِ... خاصة عندما اتصلتِ بي ولم أجب ومِن بعدها علِمتُ أنّكِ...
ـ قلها...
ـ أنّكِ متّي... شعرتُ أنّ أمام الموت لا مكان للغضب أو القساوة... شعرتُ أنّني تخلّيتُ عنكِ دقائق قبل أن تغادرينا... شعرتُ بِوساخة قلبي.
ـ لا تقل ذلك أرجوكَ... ما مِن أحد كان بِمقدوره أن يتنبأ بالذي حصل لي والسبب الأوّل لِحادثي كان غضبي أنا على مشاكلي معكَ...
ـ لماذا أتصلتِ بي؟
ـ لأطلب منكَ أن تصطحب إبنتنا مِن عند أستاذة البيانو.
ـ يعني ذلك أنّني كنتُ قادراً على تجنيبكِ هذه المأساة!
ـ ليس بالضرورة... ربما كنتُ أصدَمتُ بتلك الشجرة في كل الأحوال... لِننسى الموضوع بِرمّته... قل لي... إلى أي مدى تأذّيتُ؟
ـ إلى جانب قلبكِ الذي توقّف؟ لديكِ العديد مِن الكسور... ستشفي منها مع الوقت... لاشيء بالغ.
ـ لدَيّ الكثير لأحكيه لكَ... سأنتظر إلى ما بعد شفائي ولكن أعلم منذ الآن أنّني سأغيّر أشياءً كثيرة... إلى الأفضل طبعاً.
ـ وأنا كذلك... لقد أدركتُ مدى حبّي لكِ ولن أخسركِ مجدّداً.
وبعد حوالي الشهر أخبرتُ سمير بالذي رأيتُه خلال اللحظات التي توقّف قلبي فيها وأضفتُ:
ـ لا أدري أن كان ما رأيتُه حقيقيّاً أم أنّني حلِمتُ بِلقائي مع الأموات الذين سبقوني ولكن النتيجة واحدة: لن أخرب حياتي وحياتنا مِن أجل أمور دنيَويّة... هناك ما هو أهمّ... لقد أوصاني أبي أن أكون سعيدة وأن أعطي للحب والتفاهم الأولويّة وسأفعل ذلك... سأخفّف مِن إنشغالاتي إلى حدّها الأدنى وسننجب طفلاً آخراً... أحبَّك كثيراً ولن أكون أنانيّة بعد الآن.
ـ وسأساعدكِ قدر المستطاع لأخفّف الحِمل عنكِ... يحقّ لكِ أن يكون لَدَيكِ هدفاً مهنيّاً فالمرأة لم تولد لتكون أمّاً فقط بل لِتحقّق ذاتها... ولم تنجبي ابنتنا لوحدكِ بل هي ابنتي أيضاً وعليّ واجبات تجاهها وتجاه المنزل أيضاً... سنجد الحلول المناسبة.
ـ شكراً حبيبي.
ـ قولي لي... هل ذلك المكان فعلاً جميل؟
ـ للغاية... هناك لن تجد أماكن أو أشياء بل صفاء وسكون... طمأنينة وشعور بالإكتفاء... هناك لا حاجة إلى شيء مِن الذي نعرفه هنا... هناك الحب يكفي... لذلك علينا التمهيد لذلك الحب منذ الآن وهذا ما سنفعله... أتعلم شيئاً؟ لم أعد حزينة على موت أبي بل فرحة مِن أجله... وفي قرارة نفسي أصبحتُ أعلم أنّني سأوافي كل مَن أحببتُه... سأخبر أمّي أيضاً لأريحها بشأن أبي لِتعيش أيّامها الأخيرة بِسلام.
حاورتها بولا جهشان