ووقعَت الحقيقة...

سرَقتُ تالين مِن خطيبها حين كنّا نحن الثلاثة في الجامعة، وأعترِفُ أنّني شعَرتُ بالقوّة آنذاك، لأنّ ذلك الشاب كان وسيمًا أكثر منّي ويتمتّع بشعبيّة كبيرة لدى الطلّاب. لكن في ما يخصّني، كنتُ آتيًا مِن عائلة كبيرة ومرموقة ومُستقبلي كان جاهِزًا بفضل أعمال أبي الناجِحة. واستعمَلتُ تلك الأوراق لأفوزَ بقلب أجمَل فتاة في الكلّيّة، ولَم يُصدِّق أحَد أنّني قادِر على ذلك مِن وراء نظّارتي السّميكة وقصر قامَتي. إلّا أنّني أثبَتُّ العكس لمَن كان يُسمّيني "غريب الأطوار".

وبعد تخرّجنا بسنتَين، تزوّجتُ تالين في حفل زفاف خياليّ أثارَ الضجّة لكثرة فخامته. فهكذا إعتَدتُ، أيّ على الجاه وما هو الأفضل، وأرَدتُ أن تعرفَ زوجتي أنّها أحسنَت الاختيار. فهل كان خطيبها السابق قادِرًا على إعطائها كلّ ذلك؟ بالطبع لا، فهو بدأ بعد التخرّج العمَل في شركة صغيرة، أوّلًا كمُتدرِّب وثانيًا كموظّف عاديّ. أمّا أنا، فدخَلتُ شركة أبي الذي أَسنَدَ إليَّ منصبًا بصلاحيات، وبدأتُ أُكمِل المسيرة التي بدأَت مِن قَبلي وستستمِرّ مِن بَعدي مِن خلال ولَدي أو أولادي.

حمِلَت تالين وجاءَت لي بابن افتخَرتُ به أمام الكلّ، وحلِمتُ أن يأخذَ مكاني يومًا على رأس مملكتي التي تعني لي ولعائلتي الكثير، لأنّها شهادة على نجاحنا الذي لَم ينقطِع منذ أجيال. أغرَقتُ زوجتي بالهدايا لأشكرها على مجهودها وتعَبها وخصّصت لها مُربّية لتُريحها. كان إبني، ولحسن حظّه، قد ورِثَ ملامح أمّه وجمالها، على عكس ابنتنا التي وُلِدَت بعد سنتَين والتي كانت تُشبهُني. أسِفتُ عليها لأنّها أنثى، لكنّ الطبّ التجميليّ كان حتمًا سيُحسِّن مظهرها عندما تكبر. وقرّرنا بعد ذلك ألّا نُنجِب، فما أرَدتُه قد حصَل، أيّ أنّني حظيتُ بوريث وهو برفيقة كَي لا يربى وحيدًا.

لا تُسيؤوا فهمي، فأنا لستُ رجُلًا سخيفًا أو سطحيًّا أو أنانيًّا، بل أتمتّع بقلب كبير ورقيق، لكنّ الضغوط العائليّة كانت كبيرة وثقيلة عليّ منذ صغَري، فكبرتُ واضعًا عددًا مِن الأهداف أمامي. كنتُ زوجًا وأبًا مُحِبًّا، وعمِلتُ على إسعاد عائلتي كما يجِب. لكنّ وجودي مع عائلتي كان مُتقطِّعًا بسبب أشغالي، فعوّضتُ لهم بإرسالهم إلى الخارج لقضاء فرَص ترفيهيّة، فكانت تالين تصطحِب ولدَينا والمُربيّة، وتقضي بضع أيّام هنا وهناك، لتعودَ إليّ مُرتاحة ومُبتسِمة ومُحافِظة على جمالها الذي جذبَني منذ اليوم الأوّل. حسبتُها سعيدة معي، فكنتُ أُعطيها كلّ ما تطلبه نفسها، وتعيش كالملِكة. لكنّها لَم تكن سعيدة معي وقد علِمتُ ذلك لاحِقًا. أيّ بعد فوات الأوان.

فحصَلَ أن أُصيبَت مُربية ولدَيّ بمرَض أجبرَها على المكوث في المشفى لوقت. تكفَّلتُ بالمصاريف كلّها، لأنّني لا أتركُ أيًّا كان في وضع كهذا، والمسكينة شكرَتني وأهلها كثيرًا. هي كانت في العقد الرابع مِن عمرها، ولَم تتزوّج لكثرة انشغالها بتربية أولاد الناس مذ كانت مُراهِقة. وعندما ذهبتُ إلى المشفى لزيارتها هي بدأَت بالبكاء قائلة:

ـ لَم أتصوّر يا سيّدي أنّكَ ذو قلب كبير... سامِحني.

 

ـ لا عليكِ، فأنا لا أراكِ سوى نادِرًا، فكيف لكِ أن تعرفيني جيّدًا؟ مِن حسن حظّكِ أنّ زوجتي التي تقضين أيّامكِ معها هي أيضًا إنسانة طيّبة.

 

ـ هي لا تملك طيبتكَ، يا سيدي.

 

ـ لماذا تقولين ذلك؟

 

ـ عندما مرضتُ، هي بدأت تصرخُ عليّ وتوبِّخني على حالَتي.

 

ـ ربّما لكثرة زعَلها عليكِ.

 

ـ وهدّدَتني باستبدالي بمُربّية أخرى إن طالَ غيابي. أنا خائفة يا سيّدي، فليس لدَيّ مورِد رزق آخَر.

 

ـ لا تشغلي بالكِ، لن نستبدلكِ أبدًا، أعدُكِ بذلك. وبإمكان تالين الاهتمام بولدَينا لفترة مِن الزمَن كأيّ أمّ أخرى.

 

ـ شكرًا يا سيّدي، لن أنسى لكَ معروفكَ.

 

للحقيقة غضبتُ مِن موقف تالين حيال مُربّية رافقَتها منذ ولادة ابننا، فقلتُ لها:

ـ زرتُ المُربية وطمأنتُها بأنّنا لن نأتي بغَيرها إلى حين تتعافى.

 

ـ ماذا؟!؟ لقد طلبتُ مُربّية أخرى مِن مكتب التوظيف!

 

ـ أعطَيتُها وعدًا ولن أتراجَع. ثمّ، كيف لكِ أن تتعامَلي مع مرَضها هكذا؟ فهي رفيقة أيّامكِ.

 

ـ إنّها مجرّدُ مُربّية، فماذا تظنّ؟ أنّنا صديقتان؟!؟

 

ـ على كلّ الأحوال، سننتظر عودتها.

 

ـ وإذا بقيتُ مُصِرّة على استبدالها؟

 

ـ إنّه مالي وأنا أُقرِّر كيف أستعمِله. إنتهى الحديث.

 

حلَّ الجفاف بيننا لبضع أيّام، قَبل أن تعود تالين إلى صوابها وإلى واجباتها كأمّ لولدَينا. نسيتُ الموضوع، إلى حين تفاجأتُ بعد حين بالمُربيّة آتية إلى مكتبي في الشركة:

ـ سيّدي... أنا لا أستحِقّ لطفكَ... فأنتَ دفعتَ مصاريف المشفى بكاملها، ووقفتَ إلى جانبي في ما يخصّ عمَلي لدَيكم في البيت.

 

ـ إنّه أمر طبيعيّ لا يجدرُ ذكره.

 

ـ ولقد أخبَرتُ أمّي عنكَ وهي نصحَتني بالمجيء إليكَ... نحن عائلة مؤمِنة، أناس فقراء لكن نتمتّع بضمير حَيّ.

 

ـ ماذا تقصدين؟

 

ـ لن أستطيع إخفاء تلك الأمور عنكَ بعد الآن... فقَبل ذلك، ظننتُكَ رجُلًا طاغيًا وجافًّا، لا تهتمّ سوى بعملكَ وبنفسكَ، على الأقلّ هذا ما قالَته

لي السيّدة تالين.

 

ـ هي قالَت لكِ ذلك؟

 

ـ أجل... وأعترفُ أنّني لَم أحبّكَ على الإطلاق، بسبب كلامها الذي أظنّ انّها استعملَته لتُبرِّر...

 

ـ لتُبرِّر ماذا؟

 

ـ يا إلهي... لَم أكن أريد... لكنّ أمّي أجبرَتني... هي قالَت إنّكَ تستحقّ أن تعلَم... وإلّا فسأكونُ شريكة... وهذه خطيئة كبيرة... سيّدي، أنا إنسانة بسيطة وأخافُ الله ومُحاسبته لي.

 

ـ تكلّمي! ما الأمر؟!؟

 

ـ السيّدة تالين... أعني أنّها... حسنًا! لدَيها عشيق!

 

ـ ماذا؟ مَن؟ كيف؟ أين؟!؟

 

ـ إسمه تامِر.

 

ـ تامِر؟!؟ هل هو طويل القامة ولدَيه وحمة على جبينه؟

 

ـ أجل! كيف علِمتَ بذلك؟

 

ـ لأنّني أعرفُه... كان خطيب زوجتي خلال دراستنا الجامعيّة. أكمِلي! أين يتواعدان؟

 

ـ هي تذهب لوحدها خلال النهار وأحيانًا تأخذني والولدَين معها.

 

ـ تأخذ معها إبني وابنتي؟!؟ يا إلهي!

 

ـ وتلتقي به خلال السفرات، ونقضي وقتنا وكأنّنا عائلة واحدة.

 

ـ عائلة واحدة؟ ماذا تعنين؟

 

ـ ذلك الرجُل يتصرّف مع السيّدة تالين والولدَين وكأنّه زوج وأب... خاصّة مع ابنكَ، سيّدي.

 

ـ ماذا تعنين؟!؟

 

ـ في البدء وجدتُ الأمر مُريبًا... وظننتُ أنّه مِن هؤلاء الذين... تعرف ما أقصد.

 

ـ لا! لا أعرِف!

 

ـ أعني هؤلاء الذين يهوون الصغار... لكن عندما رأيتُهما جنبًا إلى جنب لأيّام مُتتالية خلال تلك السفرة.... إنتبَهتُ للشبَه الموجود بين تامِر وابنكَ.

 

ـ أنتِ مجنونة! ما هذا الكلام؟!؟

 

ـ سامِحني يا سيّدي... فبعد أن لاحظتُ الشبَه، صرتُ أنتبِه لكلّ شيء، لا أعني أنّني استرَقتُ السمَع، لكن هذا أكّد لي شكوكي.

 

ـ أنا لا أُصدّقُكِ، أنتِ تنتقمين مِن زوجتي لأنّها أرادَت استبدالكِ! لو أنّ كلامكِ صحيح، لقالَ لي ابني إنّ رجُلًا غريبًا يكون برفقته وأخته.

 

ـ هي قالَت له إنّ تامِر هو قريبها، وإنّكَ مُتشاجِر معه وستزعَل إن علِمتَ بالأمر. أقسمُ لكَ بأنّني أقولُ الحقيقة! أقسمُ بالله! إسمَع، يأتي تامِر مرّة على الأقلّ في الأسبوع، وينتظِر زوجتكَ عند مُفترَق الطريق، يُمكنُكَ التأكّد بنفسكَ.

 

لَم أعرِف إن كان يجدرُ بي تصديق المُربّية، فلا شيء في تصرّف زوجتي دلَّ على خيانة ما. لكن، مِن جانِب آخَر، لَم أكن موجودًا لأعرِف ما يدورُ في غيابي. لِذا قرّرتُ الاختباء قرب مكان الموعد الأسبوعيّ لأعرِف الحقيقة. ولو اتّضَحَ أنّ المُربّية تكذِب، فسأُدمِّرها!

رأيتُ زوجتي مُتوجِّهة مشيًا على الأقدام إلى السيّارة المركونة عند المُفترَق، وتعرّفتُ إلى تامِر بسهولة. بكيتُ كلّ دموعي عندما غادرَت السيّارة وغابَت عن نظري.

كان بإمكاني طبعًا اللحاق بالعشيقَين وافتعال فضيحة كبيرة، فذلك مِن حقّي، إلّا أنّني لَم أتدخَّل لِسبب واحِد: إبني. فلو اتّضَحَ أنّه ليس منّي، كنتُ سأفقده حتمًا ويُربّيه تامِر. يا إلهي، ماذا أفعَل؟!؟ هل أواجِه تالين وأُطلِّقها وأخسِرُ ذلك الصغير الذي أُحبُّه لِدرجة لا توصَف، أم أسكُت وأتحمَّل الخيانة والكذِب؟!؟ ماذا أفعَل؟ قولوا لي!

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button