تبخَّرَت فجأة فرحَتي لحظة رأيتُ ندى بين المدعوّين إلى عرسي. مِن أين علِمَت أنّ اليوم فرَحي؟ كنتُ أعرفُ تمامًا ما جاءَت تفعله تلك الأفعى، فكان مِن الواضح أنّها تنوي تخريب ما بنَيتُه.
أبقَيتُ نظَري عليها، ورأيتُها تتمشّى بين المعازيم بمُحاولة منها للوصول إلى فادي عريسي. يا إلهي... ماذا لو تمكّنَت مِن إخباره؟!؟ يا للمصيبة! ولِتفهموا سبب ذعري هذا، سأبدأ القصّة مِن الأوّل، أي مِن حوالي الستّ سنوات.
في ذلك الوقت، لَم أكن قد تعرّفتُ بعد إلى فادي. في الواقع لَم أعرف حتى بوجوده بل كنتٌ أحبّ شابًّا آخر: أخ ندى. كنّا نعيشُ آنذاك في مدينة أخرى بعيدة عن العاصمة حيث نقطنُ اليوم وحيث تعرّفتُ إلى فادي. كان أخ ندى شابًّا وسيمًا ومُعتادًا على مُلاحقة الصبايا، بينما كنتُ آنذاك لا أزالُ فتاة بريئة لا أٌفكّرُ سوى بالدرس ولقاء صديقاتي لنتكلّم عن مُستقبلنا. إلا أنّني وقعتُ ضحيّة ذلك المُحتال الذي كان راهَنَ مع أصدقائه على النَيل منّي. للحقيقة لَم يكن لدَيّ أيّ فرصة للإفلاة منه، تمامًا كالغزالة لا تستطيع مُقاومة أسد جائع ومُتمرّس. وسرعان ما ألقى أخ ندى شباكه عليّ ووقعتُ في حبّه. صدّقتُ كلّ وعوده الكاذبة، ولَم أتردّد في مُرافقته حين اقترَحَ عليّ أن نهربَ لنتزوّج. كنتُ في السادسة عشرة ولا أعرفُ شيئًا عن العلاقات الحميمة أو العاطفيّة، كالعديد مِن اللواتي كبرنَ في بيت يُسمّي نفسه مُحافظًا، فتُترَك البنت على جهلها... وتقَع بسهولة.
أخذَني حبيبي إلى بيت أخته، ندى نفسها التي أتكلّمُ عنها، وهي استقبلَتني بحرارة ونادَتني "زوجة أخي العزيزة". كنتُ فرِحة للغاية بالزواج مِن شاب أحبَّته صبايا عديدات، وكان الأمر وكأنّني أربحُ الجائزة الكبرى. إلا أنّ الذي اختارَه قلبي لَم يكن ينوي أبدًا تزوّجي بل فقط مُعاشرتي.
قيلَ لي إنّ عقد القران سيجري في اليوم التالي وعليّ أن أنام في غرفة ندى حفاظًا على شرَفي، وأُعطِيتُ ثياب نوم بعد أن تناولتُ بعض الطعام. لكن خلال الليل، إستيقظتُ مذعورة عندما شعرتُ بأحدٍ مُستلقيًّا عليّ. أطلقتُ صرخة لكنّ أخ ندى أوصَدَ فمي بِيَده هامسًا في أذني: "أصمتي، فأنتِ لي". وحصَلَ الذي حصَل. أجل، لقد اعتدى عليّ ذلك الوحش بالاتّفاق مع أخته التي كانت قد أدخلَته الغرفة وراحَت تنامُ في مكان آخر. بعد ساعات قليلة، وعند طلوع الضوء، قالَت لي ندى:
ـ هيّا... عودي إلى أهلكِ!
ـ لكن... مِن المفروض أن أتزوّج اليوم.
ـ لن يتزوّج أخي مِن فتاة تقبَل بمُعاشرته قبَل الزواج. ألا تخجلين على نفسكِ؟
ـ أنا لَم أقبَل بشيء! بل هو أرغَمَني على ذلك!
ـ أيّتها الفاسقة! أخرجي مِن بيتي ولا تعودي!
وكأنّ ما حدثَ لي ليلاً لَم يكن كافيًّا، طُرِدتُ بحقارة وكره شديد. لَم أرَ المُغتصِب الذي كان حتمًا يختبئ منّي. عدتُ إلى أهلي باكية بعدما فتّشَ الجميع عنّي طوال الليل ظانّين أنّني تعرّضتُ لحادث ما. قلتُ لهم إنّني تهتُ في الحرش المُجاور وانا عائدة مِن نزهة، ونمتُ تحت شجرة حتى طلوع الفجر. وحدها أمّي علِمَت منّي ما حقًّا حصَلَ، وامتنعَت عن إخبار أبي خوفًا مِن أن تُراق الدماء.
راقبَتني والدتي خلال أسبوعَين لترى إن كنتُ حاملاً أم لا، وارتاحَ قلبها عندما حان موعد عادتي الشهريّة. مُنِعتُ طبعًا مِن الخروج أو الإختلاط بأيّ أحَد، لكنّ الأمر لَم يُزعجني بل العكس. لَم أكن أنوي أبدًا ترك منزلي، ظانةً أنّ ما حصَلَ لي سيظهرُ على وجهي. شعرتُ بالعار على شيء لَم أقترِفه كما تجري العادة لمَن اعتُدِيَ عليها، ونسيتُ أنّني ضحيّة وحسب.
ففي بلداننا، يقَع الحقّ دائمًا على الفتاة في هكذا أمور، والصمت والتستّر هو الحلّ الوحيد بدلاً مِن أن يُسجَن المُقترِف ويُحاكَم.
أخذَتني والدتي سرًّا عند داية لِتصليح "الضرَر" ولأتمكّن مِن الزواج مُجدّدًا، مِن دون أن أضطرّ لِسرد قصّتي وانتظار قبولي أو رفضي مِن قِبَل عريسي المُستقبليّ. أجل، غشّيتُ، ليس لأنّني سيّئة، بل لأنّ المُجتمع لا يرحَم اللواتي يقَعنَ في فخّ مَن هو أذكى منهنّ. أقنعَت أمّي والدي بالعَيش في العاصمة لابعادي عن كلّ مَن بإمكانه فضحي، وبعد فترة يأس وألَم وبكاء، وضعتُ الحادثة ورائي وتابعتُ حياتي.
بعد أن دخلتُ الجامعة، تعرّفتُ إلى فادي وأحبَبنا بعضنا، وطلبتُ منه الإنتظار إلى حين أحصَل على شهادتي، فقد كان الأمر مُهمًّا للغاية بالنسبة لي. على كلّ الأحوال، الأمر الإيجابيّ الوحيد الذي حصَلَ جرّاء ذلك الإعتداء، هو أنّني صِرتُ أقوى مِن قَبل بعد أن اختبَرتُ الحياة والناس مرّة واحدة. وحسبتُ حساب أن يعرفَ خطيبي بشأن ما فعلَه بي أخ ندى وما فعلتُه أنا لاحقًا عند الداية، فكان عليّ أن أؤمِّن مستقبلي في حال فُضِحَ أمري يومًا.
ولَم أكن مُخطئة على الإطلاق، فها هي ندى موجودة في فرَحي وبِنِيّتها تخريب سعادتي. لماذا تودّ فعل ذلك؟ لستُ أدري، فأخوها هو الذي أوقَعَ بي وليس العكس. هل لأنّها كانت عزباء ولَم تجِد الحبّ يومًا؟ ربّما.
قفزتُ مِن مكاني لحظة وصول ندى بالقرب مِن فادي، وسحبتُها مِن ذراعها بقوّة هامسة لها:
ـ ماذا تُريدين؟ لِماذا جئتِ؟
ـ لا يجدرُ بهذا الشاب الوسيم الوقوع في فخّكِ... وبالتأكيد هو لا يعلَم ما فعلتِه مع أخي.
ـ بل ما فعلَه هو بي! أيّتها الفاسقة، فأنتِ التي ساعدِته للإعتداء عليّ.
ـ لَم يُجبركِ أحدٌ على مُرافقته إلى بيتي.
ـ رحتُ لأتزوّج وليس لأتسلّى! إرحَلي مِن عرسي!
ـ أتركي ذراعي وإلا صرختُ عاليًا ما أريدُ همسه في أذن عريسكِ.
عندها تدخَّلَ فادي سائلاً إن كان كلّ شيء على ما يُرام، بعد أن رأى علامات الغضب على وجهي، فأجبتُه أنّني بخير، وذلك مِن دون أن أشيح نظري عن ندى. مِن حسن حظّي أنّ والدتي رأَت المشهد وركضَت لِتُواكب ندى خارج الصالة. كانت عينايَ مليئتَين بالدموع، بعد أن أدركتُ أنّ تلك المرأة لن تتركني بسلام أبدًا. عادَت أمّي بعد دقائق طويلة مؤكّدة لي أنّ ندى لن تُضايقني... على الأقل يوم فرَحي، فجفَّت دموعي بعض الشيء.
لكنّ الهمّ كان قد تغَلغلَ إلى قلبي. يا إلهي... ما هذه المصيبة! خطَرَ بِبالي إخبار فادي بالحقيقة حتى لو كان سيُكلّفني ذلك زواجي. ففكرة العَيش تحت رحمة ندى كانت لا تُطاق.
مِن حسن حظّي أنّ تلك الفكرة غادَرت رأسي حين بدأنا بالرقص وسط المعازيم، وعانقَني فادي بحنان وحبّ. لاحقًا رحنا الفندق لكنّني لَم أدَع عريسي يلمِسني بذريعة صداع حاد، فلَم أشأ تضليله بشأن عذريّني ونمنا على الفور مِن كثرة تعَبنا. حلِمتُ حلمًا مُزعجًا واستفقتُ في الصباح الباكر مذعورة. كان فادي صاحيًّا ينظرُ إليّ وأنا نائمة فسألَني:
ـ كيف لكِ أن تحلمي بِكوابيس ليلة فرَحكِ؟
ـ إنّه التعَب يا حبيبي. لا عليكَ.
ـ مَن تكون ندى؟ لقد لفظتِ إسمها مرارًا خلال نومكِ. أهي نفسها التي ضايقتكِ البارحة؟
عندها انفجرتُ بالبكاء وصرختُ به: "عليكَ أن تُطلّقني!". وأمام استغرابه، قرّرتُ إخباره كلّ شيء. إستمَعَ إليّ زوجي بِصمت، ثمّ لبِسَ ثيابه وغادَرَ غرفة الفندق مِن دون أن يقول شيئًا. بكيتُ كلّ دموعي إلا أنّني ارتحتُ مِن ثقل سريّ، ووعدتُ نفسي أن أقول الحقيقة مهما كلَّف الأمر للرجل الذي سأحبّه يومًا بعد فادي. فعلى الذي سيُحبّني أن يقبَل بي كما أنا، وعدَم اعتباري بضاعة "مُستعملة"، خاصّة أنّني كنتُ ضحيّة اغتصاب وقَعَ بعد تصميم واصرار شخصَين فاسقَين. فكّرتُ بالفضحية التي ستحصل بعد أن يُطلّقني فادي بعد يوم واحد مِن الزفاف، إلا أنّ الأمر لَم يعُد يهمّني كثيرًا. شكرتُ ربّي أنّني حصلتُ على شهادتي الجامعيّة لأتمكّن مِن العَيش بِكرامة في حال لَم أجِد زوجًا آخر. لبستُ بِدوري ونشّفتُ دموعي وأخذتُ سيّارة أجرة إلى بيت أهلي. هناك لَم أجِد والدتي، واخترَعتُ عذرًا لأبي وأخوَتي بشأن عودتي مِن دون فادي. بعد أن جلستُ مع عائلتي قليلاً، أخذتُ سيّارة أخي ورحتُ أجوبَ الشوارع لأُريحَ رأسي مِن التفكير.
لَم أعُد إلى البيت سوى عند المساء، بعد أن ركنتُ السيّارة قرب شاطئ البحر وأخذتُ أتفرّج على غروب الشمس مُتمنيّة لو أنّ فادي معي. فادي... أحببتُه مِن كلّ قلبي! ماذا لو كان ممنوعًا عليّ أن أُحِبّ وأُحَبّ؟ هل كانت حياتي ملعونة؟ للأسف لَم أجِد أجوبة على تلك الأسئلة.
حين دخلتُ البيت وجدتُ فادي جالسًا في الصالون بِرفقة أمّي. كان الجوّ محتقنًا وقرّرتُ دخول غرفتي مِن دون أن أُلقي التحية، لكنّ فادي قال لي:
ـ إجلسي مِن فضلكِ.
ـ لا... لا أٌريدُ سماع الشتائم أو التعليقات المُسيئة... يُمكنكَ البدء بمعاملات الطلاق، لكن أرجو منكَ ألا تشوّه سمعتي.
عندها تكلّمَت أمّي:
ـ قصدَني فادي وقال لي إنّكِ قلتِ له الحقيقة... أنا فخورة بكِ يا إبنتي لأنّك لَم تشَائي تضليل عريسكِ. أكّدتُ له صحّة قصّتكِ فطلَبَ منّي أخذه إلى تلك التي إسمها ندى. كنتُ أعرفُ أين تسكن منذ سنوات، أي منذ الحادثة مع أخيها بعد أن تحرَّيتُ عنها بغِرَض الإنتقام منها، إلا أنّني لَم أفعَل. وصلَنا البلدة حيث بيت ندى وقرَعنا بابها. فتَحَ لنا أخوها، هو نفسه الذي اعتدى عليك، فضربَه فادي على الفور. ركضَتَ أخته وحاولَت إبعاده عنه، لكنّني أنا الأخرى ضربتُها بقوّة لَم أتصوّر نفسي أملكُها. إعترفَ الشاب لفادي بالذي فعلَه بكِ وندى بمساندتها له. أعلمُ أنّ ضرب الناس لا يليقُ بي، إلا أنّني أمّ وهما اغتصبا إبنتي ودمّرا حياتها. لا تخافي يا حبيبتي، لن يقتربَ أيٌّ منهما منكِ بعد اليوم فقد هدّدَهما زوجكِ باخبار الشرطة.
نظرتُ إلى فادي بِفخر وإلى أمّي بإمتنان وبكيتُ لأنّني شعرتُ بارتياح كبير بعد أن ثأرَ لي أحدٌ أخيرًا. فكَم مِن الصعب أن نرى مُجرمين يسرحون ويمرحون مِن دون مُعاقبة! عانقَني فادي مُطوّلاً قائلاً: "بوجودي لن تخافي مِن شيء أو أحد. أُحبُّكِ".
حاورتها بولا جهشان