منذ حديث أمّي معي عن زوجي نادِر، تغيّرَت علاقتي معها وصِرتُ أتفاداها قدر المُستطاع. فأثناء سفَر زوجي، لَم أعُد أقصدُ بيت أهلي الموجود في المبنى نفسه والنوم والأكل هناك، بل صِرتُ إمّا أبقى في شقّتي أو أذهب إلى صديقتي المُقرّبة. لا، لن أعطيَ والدتي الفرصة لِملء رأسي بالأكاذيب عن رجُل حياتي كما فعلَت في المرّة السابقة بشأن زوجي الأوّل! ما الأمر مع تلك المرأة؟!؟ كان لدَيّ نظرّيات عديدة، وصديقتي التي أخبرتُها كلّ شيء، إقترحَت أنّ أمّي تغار مِن سعادتي، لكنّني لَم أُوافِقها الرأي، بل قلتُ إنّها بالأحرى لا تُريدُني أن أستقِلّ عنها، بل أن أبقى ابنتها الصغيرة إلى الأبد. حزِنتُ كثيرًا لأنّ علاقتي بأمّي كانت مُمتازة قَبل أن تبدأ بتخريب حياتي العاطفيّة والزوجيّة، وشكرتُ ربّي أنّ لدَيّ أبًا رائعًا يُحِبّ نادِر ويُريدُ إدخاله شركته، أيّ أنّه يعتبِره بالفِعل فردًا مِن العائلة. أمّا بالنسبة لزوجي الحبيب، فهو لَم يُقرِّر بعَد إن كان سيقبَل عرض أبي، إذ بقيَت لدَيه تحفظّات بهذا الشأن.
وحصَلَ أن عرفتُ أنّني حامِل فطِرتُ مِن الفرَح! وسبَب فرَحتي لَم يكن فقط لأنّني أُحِبّ الأولاد كثيرًا أو أردتُ اعطاء ولَدًا لزوجي أو لأنّنا سنُجسِّد حبّنا بطفل، بل أيضًا لأغيظَ أمّي التي نصحَتني بألّا أحمَل. سنرى الآن ماذا ستخترِع لإبعادي عن زوجي!
بدأتُ أُخطّطِ، ولو باكِرًا، لتجهيز غرفة المولود أو المولودة، وبدأتُ أتصفّح الانترنت وأقصدُ المحلّات المُتخصِّصة بالأثاث والديكور برفقة صديقتي المُقرَّبة، فلَم يكن لدَيّ أخت لهذا الغرض، وكان مِن المُستحيل أن أجلِب معي والدتي التي بالكاد باركَت لي حين علِمت بالخبر، بل تمتمَت بضع كلمات وهي تنظَر إليّ بِحزن. لِتفعَل ما تشاء! فمَن يهتمّ لِتمثيلها؟!؟
لكن في إحدى المرّات، وأنا خارجة وصديقتي مِن محلّ لبيع المفروشات، لَمحتُ نادِر زوجي برفقة أمّه في سيّارة مارّة في الشارع. للحقيقة، لَم أرَهما حقًّا، لسرعة المشهد، بل تراءى لي ذلك. صديقتي لَم ترَ أحدًا أو شيئًا، فطردتُ الموضوع مِن بالي على الفور لسبَبَين وجيهَين: الأوّل هو أنّ حماتي مُتوفّاة، والثاني هو أنّ نادِر مُسافِر خارج البلاد. لا، كنتُ مُخطئة مئة في المئة بالذي رأيتُه.
وفي اليوم نفسه، بعثتُ رسالة لزوجي أروي له فيها ما رأيتُه وهو ضحِكَ كثيرًا وطمأنَني بأنّه بالفعل خارج البلاد، وأرسَلَ لي صورة له وهو في مكتب شركة ما. لَم أكن بحاجة إلى أيّ دليل، فكيف له أن يكون في صحبة أمّه المَيّتة؟ تبادَلنا كلامًا في الحبّ، وعدتُ إلى انشغالاتي وبسمة على وجهي، فكَم أنّ نادِر إنسان مُحِبّ ومُتفهِّم!
لكنّني لَم أعرِف أنّ صديقتي التي كانت برفقتي راحَت تروي لأمّي الحادِثة، لأنّها أيضًا وجدَت الأمر مُضحِكًا قائلة: "تصوّري يا خالتي وجه ابنتكِ حين صرخَت لي: أرأيتِ ما رأيتُ؟ نادِر وأمّه في سيّارة مرَّت للتوّ! وكأنّ الأشباح تنتقَّل في السيّارات!". إبتسمَت لها أمّي وسألَتها بضع أسئلة وانتهى الموضوع. فالواقع أنّ لدى والدتي قُدرة على استمالة كلّ الناس بفضل هدوئها وابتسامتها السحريّة وطريقة استماعها لهم، وبسبب نلك الصديقة، هي استطاعَت إيجاد فرصة لإبعاد زوجي عنّي، فرصة أُعطِيَت لها على طبَق مِن فضّة! بعد ذلك، قرّرَت والدتي جدّيًّا البحث في ثنايا حياة نادِر لإيجاد أيّة ثغرة تُمكِّنها مِن تدمير حياتي الزوجيّة. نعم، كانت والدتي تتصرّف وكأنّها عدوّتي!
عادَ نادِر أخيرًا مِن السفَر، وساعدَني في التحضيرات المُتعلّقة بالجنين حين يولَد، وفعَلنا ذلك بحماس وفرَح كأيّ ثنائيّ مُتحابّ. بقيتُ أُصِرّ عليه بأن يقبَل عرض أبي، وهو وعدَني بإعطائي جوابًا نهائيًّا بعد أن يبصرُ ولدُنا النور. ومِن كلامه ونبرة صوته، كان مِن الواضِح أنّ جوابه سيكونُ إيجابيًّا.
ويوم قدِمَ ابننا إلى الدنيا، أهداني زوجي خاتمًا رائعًا، وكانت تلك الهديّة الأولى التي يُقدّمِها لي منذ تعرّفنا إلى بعضنا. فالحقيقة أنّني كنتُ قد طلبتُ منه عدَم جَلب أيّ شيء لي لأنّني أملكُ كلّ ما أريدُه، لكن في قرارة نفسي لَم أتوقّع ان يمتثِل لِطلَبي حرفيًّا، خاصّة أنّه كان قادِرًا مادّيًّا على إهدائي. فالكثير مِن النساء تجِدنَ صعوبة بطلَب أيّ شيء مِن الرجُل، خاصّة إن كنّ عامِلات وتشعرنَ أنهنّ مُستقلّات حتّى في هذا المجال. لكن مَن منّا لا يُحِبّ أن يُقدِم حبيبُها على البحث عمّا يُفرِّحها لتقديمه لها؟
قبِلَ نادِر أخيرًا أن يعمَل في شركة أبي، لكنّه لَم يقبَل بالراتب الذي عُرِضَ عليه، ففي نظره ليس مِن المنطق أن يترك عمَله الحاليّ الذي يجني منه مبلغًا لا بأس به ويُعطيه حُرّيّة الحركة والتنقّل والسفَر. تدخّلتُ لدى والدي وهو قبِلَ أن يُعطيه ما يطلبه. كنتُ أسعَد زوجة وأمّ في الدنيا!
إلّا أنّ أمّي اعترضَت بقوّة وطلبَت مِن أبي أن يتريّث، فعَلا صوتي في وجهها:
ـ ما بالُكِ؟!؟ هل انقلَبتِ ضدّي كلّيًّا؟!؟ أنا إبنتكِ، تذكّري ذلك جيّدًا! لكنّني لستُ أكيدة مِن أنّكِ تتصرّفين كأمّ! لن أدعَكِ تخرّبين عليّ سعادتي مِن جديد!
ـ طلبتُ منكِ ألّا تحمَلي، وكان بإمكانكِ الاستماع إلى نصيحتي لو كان هناك عقل في رأسكِ.
ـ آه، يعني ذلك أنّني سأُعاقَب لأنّني لَم أستمِع إليكِ؟ وهل أنا فتاة صغيرة في سنّ الخامِسة؟!؟
ـ لا أدري لماذا أنتِ غير ناضِجة عاطفيًّا... ربيتِ في جوّ عائليّ مُتوازِن، وأعطَيناكِ الحنان والانتباه والحبّ الكافيين لتصبحي صبيّة وامرأة عاقِلة. هل أنتِ عمياء لهذه الدرجة؟
ـ مِن هذه اللحظة لستِ أمّي ولا أعرفُكِ!
ـ سأظلّ أمّكِ حتّى آخِر أيّامكِ، شئتِ أم أبَيتِ، ومِن واجباتي كأمّ حمايتكِ.
ـ حمايتي مِمَّن؟
ـ مِن نفسكِ أوّلًا."
إستطَعتُ إقناع والدي بالمضيّ بالاتّفاق، وترَكَ نادِر عمَله في البورصة وانضمَّ لشركتنا وبدأنا العمَل سويًّا. فأصبحَت الشركة حقًّا مؤسّسة عائليّة، وصارَ لأبي ابن يستطيع الاتّكال عليه لمُتابعة الأعمال يوم هو يُقرِّر التقاعد. قطَعتُ علاقتي كلّيًّا مع أمّي ومنَعتُها مِن رؤية حفيدها، لأنّني اعتبرتُ أنّها لن تكون جَدّة جيّدة لإبني إن كانت ليست أمًّا جيّدة لي. بقيتُ في البيت مع طفلي ريثما يكبر قليلًا، وتركتُ رجُلَي حياتي يهتمّان بالأعمال في الشركة.
لكن بعد أشهر عديدة، وجدتُ في أحَد الأيّام، ظرفًا تحت باب الشقّة. إستغربتُ الأمر، خاصّة بعدما تعرّفتُ إلى خطّ أمّي، فظننتُ أنّها كتبَت لي تتوسّلُني لرؤية حفيدها. لكنّ مُحتوى الرسالة كان مُختلِفًا تمامًا:
"إبنتي العزيزة، إليكِ التالي، وافعلي ما تشائي بهذه المعلومات: زوجكِ مُتزوِّج مِن التي ظننّاها أمّه. نعم، قرأتِ جيّدًا، فتلك المرأة التي كانت برفقته في سفرة اليونان هي زوجته التي تكبره بسنوات عديدة والتي تملكُ مالًا كثيرًا. وهي لَم تمُت طبعًا، بل قالَ لنا نادِر إنّ "أمّه" توفِّيَت كَي لا نطلب منه التعرّف عليها. وسفراته الأسبوعيّة والشهريّة ليست للعمَل، بل لرؤية زوجته والمكوث معها. وهو يقولُ لها حتمًا إنّه يغيب عنها للسبب نفسه الذي أعطاه لكِ. للحقيقة، ليس لِنادِر عمَل، بل يعيشُ مِن المصروف الذي هي تُعطيه له، ومِن بعض الأعمال الصغيرة التي يقومُ بها مِن وقت لآخَر. وما رأيتِه في ذلك اليوم أثناء تسوِّقكِ كان حقيقيًّا لكن صعب التصديق. أظنّ أنّ نادِر وجَدَ أنّ البقاء معكِ والعمَل لدى أبيكِ في الشركة مُربِح أكثر أو أنّ زوجته بدأَت تشكُّ بشيء، لِذا هو فضّلكِ عليها وهو مُستعِدّ لِعدَم "السفَر" أيّ الذهاب إليها بعد ذلك. أنا لا أقولُ إنّكِ إنسانة غير محبوبة مِن الرجال، لكنّكِ ساذِجة وليس لدَيكِ رؤية واضحة في ما يخصّ الناس والأمور، وهؤلاء الأشخاص الفاسدون موجودون في كلّ مكان، لكنّهم لا يقوون إلّا على مَن يُصدّقهم. إليكِ عنوان ورقم هاتف زوجة نادِر الأخرى، فأنتِ حتمًا لن تُصدّقي كلامي، فتحقَّقي بنفسكِ. شيء أخير، فعلتُ ذلك لأنّني أحبُّكِ، وتطلّبَ الأمر منّي الكثير مِن التحريّات والتقصيّ، ولقد استعَنتُ ببعض الأشخاص المُختصّين، فقط لحمايتكِ وإقامة براهين قويّة لتكُفّي عن اعتباري عدوّتكِ. فعدوّكِ الحقيقيّ ينام ليلًا بالقرب منكِ."
بدأتُ بالبكاء مِن الحزن والغضب، ولَم أُصدِّق أمّي إلّا بعدما خابَرتُ زوجة نادِر وتكلّمنا لحوالي الساعة. في البدء، كان حديثنا مُشنّجًا واتّهمنا بعضنا، لكن أدركنا بسرعة أنّنا ضحيّتَا نادِر. تبادَلنا الأحداث والتواريخ، وقرّرنا أن نُطلّقه في آن معًا ليجِدَ نفسه بلا مال على الاطلاق. وبعد أن أقفَلتُ الخط، طلبتُ مِن والدي أن يأتي إليّ في الحال لنتكلّم. وبعد أن استمَعَ إلى ما اكتشفَته أمّي وقالَته الزوجة، طلبتُ منه أن يطرُد زوجي مِن العمَل ونُباشِر معاملات الطلاق، لكن في هذه المرّة، لن ندفَع قرشًا واحِدًا له، فلا يجِب أن يُكافأ الكاذِب والمُحتال. إتّصَلَ والدي بأخصّائيّ غيّر أقفال الشقّة، وجمَعتُ أمتعة نادِر ووضعتُها في ردهة المبنى. أبي، مِن جانبه، عادَ إلى الشركة ليطرُد زوجي، طالِبًا منه جَمع أغراضه والخروج مِن الشركة وإلّا طلَبَ له الشرطة.
إلتجأ نادِر إلى زوجته الأخرى بعد أن لَم يعُد له مكان يمكثُ فيه، إلّا أنّه عومِلَ بالمِثل مِن قِبَل الطرَف الآخَر، فقَصدَ أخيرًا أمّه الحقيقيّة التي لَم تكن تعرفُ الكثير عن حياة ابنها. حصلتُ على الطلاق وحضانة ابني بسهولة، بفضل كلّ الأدلة التي كانت بِحوزتي، ليبدأ مشواري الصعب كامرأة لَم تجِد الحبّ الحقيقيّ، وكأمّ عزباء. لِحسن حظّي أنّ كانت لدَيّ أمّ رائعة سامحَتني على موقفي منها ومُحاربتها بشراسة، وأب حنون أرادَ الأفضَل لي.
لكنّ المسكينة زوجة نادِر الأولى، لَم تكن بشجاعتي، ربّما بسبب سنّها. فاستطاعَ ذلك المُحتال والنصّاب إقناعها بأنّ ما قلتُه لها كان جزءًا مِن مخطّط هدفه تشويه سمعته، وأنّه يُحبُّها دون سواها، فأعادَته وهو يعيشُ معها اليوم كالسابق ويصرفُ مِن مالها.
نعم، يصعُب على البعض كأمثالي وزوجة نادِر أن يُفرِّقوا بين الأشخاص الصادقين والمُحتالين في ما يخصّ أمور القلب، لأنّهم يتّكلون فقط على عواطفهم والأحلام التي بنوها على مرّ السنوات. مِن جهّة أخرى، هناك مَن يُحلِّل كثيرًا ويتّكِل فقط على المنطِق والعقلانيّة، فيصعَب عليه إيجاد الحبّ والشريك. علينا استعمال الاثنَين معًا، العواطف والمنطق، لنبنيَ لأنفسنا توازنًا سليمًا ومُستقبلًا سعيدًا مع انسان لا يُريدُ لنا سوى السعادة ويُقدِّمُ لنا أفضَل ما لدَيه.
حاورتها بولا جهشان