يوم دخلَت نعيمة بيتنا، كنتُ فتى في الثانية عشرة مِن حياتي وهي تكبرني بأربع سنوات فقط. هكذا كان أبي، يُحبّ نساءه صغيرات، وهو لم يتأخّر عن استبدال أمّي فور موتها بأخرى تصغره بثلاثين سنة.
كانت المسكينة خائفة وكأنّها دخَلَت وكر ضبع، ولم تكن مخطئة فلقد كنتُ شاهدًا على معاملة أبي السيّئة لأمّي وصوت بكائها لم يُفارق أذنيَّ حتى اليوم. ولو كنتُ قادرًا على ذلك، لقلتُ لنعيمة أن تهرب بعيدًا. لم أفعل لأنّني كنتُ أخاف مِن والدي، فقلبه كان أسودًا لا يعرف الرحمة أو الحبّ. كان قد جلَبَ نعيمة ليُرضي غروره كرجل ويُثبت للجميع أنّه قادر على الحصول على امرأة بعمر ابنه تقريبًا، أي بضاعة طازجة. أمّا هي، فبالطبع لم تختَره، بل خضَعت لقرار أهلها الذين باعوها لرجل قدَّمَ لهم ما كانت تطلبه نفسهم. باعوها ونسوها لأنّها كانت "مجرّد أنثى".
لم أحزن لأنّ أبي تزوّج مِن نعيمة، أوّلاً لأنّني كنتُ أعلم ما ينتظرها، وثانيًا لأنّني وجدتُ بها رفيقة أتسلّى معها بعدما قضَيتُ طفولتي وحيدًا بسبب مرض أمّي الذي حال دون إنجابها طفلاً ثانيًا.
ماتَت أمّي بأوجاع رهيبة ولكنّ البسمة لم تفارق وجهها، ربمّا كي لا تزيد مِن الخوف الذي خيّمَ فوق رأسي منذ سمعتُ الطبيب يقول لأبي: "لا جدوى مِن إبقائها في المشفى... خذها إلى البيت لتموت بين ذويها."
عامَلَ أبي زوجته الجديدة وكأنّها خادمة له وأداة متعة، وكنتُ أسمعُها تبكي بعدما ينتهي مِن معاشرتها بوحشّية. كنتُ أودّ لو أواسيها ولكنّني لم أشأ الدخول في أمور بهذه الحميميّة، خاصّة بسنّي. كنتُ أعرف الكثير عن حياة الأزواج لأنّ بيتنا كان صغيرًا وكنتُ على علم بكل ما يدور في غرفة النوم والدَيَّ، وأسأل نفسي اليوم كيف لم أتأثّر سلبًا عندما كبرتُ. ربمّا كان ذلك لأنّني أدركتُ أنّ والدي كان طاغيًّا وأنانيًّا وأنّ العلاقات ليست كلّها هكذا.
عاملَتني نعيمة بلطف وكأنّني أخوها الصغير، وكنّا نجلس سويًّا على طاولة الدرس. كنتُ أقوم بواجباتي المدرسيّة وهي تحاول فهم ما هو مكتوب بدفاتري وكتبي، لأنّها كانت أميّة بسبب أهلها الذين خصّصوها منذ ولادتها للزواج.
وعلى مرّ الأيّام والأشهر، باتَت زوجة أبي تعرف الأحرف والأرقام. وسرعان ما صارَت تقرأ في كتبي القديمة. أبقَينا الأمر سرًّا لأنّ أبي لم يكن يُريدها أن تتغيّر، فهو أختارها أميّة عن قصد بعد أن عانى -حسب قوله- مِن ثقافة أمّي التي كانت في ما مضى مدرّسة.
لم تحمل نعيمة، الأمر الذي أغضَبَ زوجها، وانهارَت عليها الشتائم والضربات. وكان يُردّد لها: "لو تزوّجتُ مِن قردة لجلَبَت لي ولدًا!" أو "خسارة عليكِ المال الذي دفعتُه مِن أجلكِ، كان يجدر بي أخذكِ مِن دون مقابل مع قطعة مِن الأرض هديّة."
سألتُ نعيمة لماذا لا تهرب مِن والدي، فأجابَتني: "إلى أين أو مَن أهرب؟ سيعيدونني إلى هنا أو يقتلوني... صدّقني حين أقول إنّ بقائي هنا أفضل بكثير."
مرَّت السنوات ولم يتغيّر شيء سوى أنّ أبي باتَ يقضي معظم وقته خارج المنزل بصحبة عشيقاته وأصحاب السوء. وارتحنا مِن صراخه. كنتُ قد أنهَيتُ المدرسة وعلى وشك دخول الجامعة، وكان قد نما في قلبي حبّ قويّ لزوجة أبي. حبّي لها كان طاهرًا ولكن قويًّا وغير مشروط، أي شبيهًا بالحب الذي كان موجودًا في العصور القديمة أيّام الشعراء. لم أكن أجرؤ على التفكير بأن تكون نعيمة تشاطرني عواطفي، ولم أكن حتى بحاجة إلى ذلك، فكلّ ما كنتُ أريده هو أن أبقى إلى جانبها وأحميها مِن كلّ شرّ إن لزِمَ الأمر.
ولكنّ والدي كان قد قرّرَ أن يُرسلني إلى جامعة في العاصمة عليّ العيش في حرمها طوال الأسبوع ليتسنّى له أن يتزوّج مِن جديد وجلب عروستُه لتخدمها نعيمة. كان قد قال بكلّ وقاحة: "لقد سئمتُ مِن تلك البومة العاقر وأريد العيش كرجل حقيقيّ... ألف امرأة تتمنّاني وسترضى بالعيش معي هنا خاصّة أنّها ستحظى بخادمة وليس ضرّة."
شعرتُ بغضب لا يوصف، فبالرغم مِن أنّني كنتُ أعلم كم أنّ نفس أبي بشعة، لم أتصوّر أن يصل إلى ذلك الحدّ. حاوَلتُ إقناعه بعدَم إرسالي إلى العاصمة، فكيف لي أن أحمي نعيمة منه ومِن زوجته الجديدة؟ ولكنّه بقيَ مصرًّا على موقفه. عندها قرَّرتُ أن أطلع نعيمة على مخطّطه وعلى مشاعري. كنتُ محتارًا مِن أين أبدأ وخائفًا مِن أن تصدّني حبيبتي أو تهزأ منّي. ولكنّي تفاجأتُ بها تقول لي:
ـ خلتُكَ لن تتكلّم أبدًا... أنا أيضًا أحبّكَ بالرّغم مِن أنّ هذا الحب محرّم، ولكنّ المشاعر لا تخضَع للقوانين... في البدء كنتَ بالنسبة لي بمثابة أخ، ومع مرور الوقت صِرتَ الرجل الذي لطالما حلِمتُ به... ولكن شاء القدر أن تكون أبن الذي اشتراني ولا يُمكنني فعل شيء حيال ذلك... ولا أنتَ.
ـ تعالي نهرب سويًّا، سأحبّكِ حتى آخر أيّامي.
ـ أعلم ذلك ولكنّني لن أفعل، لا أريدكَ أن تتعذّب مِن أجلي فأنتَ تستحقّ الأفضل... دَعني لمصيري، أرجوكَ.
غادرتُ والدمع في عَينَيّ، مع وعد مِن نعيمة بأن تبقى على تواصل معي، ودخلتُ الجامعة. ولكنّني لم أكن قادرًا على نسيان التي سكَنت قلبي وملكَته، لِذا تركتُ الحصص وبدأتُ العمل ليلاً ونهارًا، فقد كان في رأسي مخطّط رجَوتُ أن ينجَح.
عمِلتُ في المطاعم ومحطّات الوقود وفي التوصيلات، إلى أن لاحظَني أحد الزبائن ورأى اندفاعي وأخذَني كسائق خاص له، وسرعان ما أصبحتُ ذراعه الأيمَن.
في تلك الأثناء بقيتُ أعود إلى البيت في كلّ نهاية أسبوع وأروي لأبي وزوجته عن جامعتي وعلاماتي المميّزة. لم أطلع نعيمة على حقيقة وضعي كي لا أعطيها أملاً قد لا يتحقّق، واكتفَيتُ بطمأنتها عن حبّي لها. كانت حالة المسكينة يُرثى لها، ولكنّها كانت صامدة بفضل تشجيعي.
بعد سنتَين على البدء العمل عند ذلك الرجل، عَرَضَ عليّ مرافقته إلى إفريقيا لأنّه لم يجد أحدًا سواي لمساعدته هناك. كان الراتب أكثر مِمّا تصوّرتُه، ووجدتُ أنّ الوقت كان قد حان لتنفيذ ما في رأسي.
قصدتُ أبي في مقرّ عمله، وطلبتُ منه أن نتكلّم في موضوع مهمّ وقلتُ له:
ـ إسمع يا أبي... ما سأقوله لكَ قد لا يُعجبكَ لِذا أريد منكَ أن تسمعني حتى أنتهي... أحبّ نعيمة وأريدها.
ـ ماذا؟!؟ هل فقدتَ عقلكَ؟!؟
ـ ربمّا ولكن هذا ليس مهمًّا... أعلم أنّها لم تعد تعني لكَ شيئًا، وأنّها صارَت منذ مدّة طويلة مجرّد خادمة... لِذا أعرضُ عليكَ أن تبيعني نعيمة، فأنتَ اشترَيَتها مِن أهلها.
بالطبع لم أكن أعني ما قلتُه، أي أنّني لم أكن لأشتري كائنًا حيًّا بأيّ ثمَن كان، ولكنّني كلّمتُه باللغة الوحيدة التي يعرفها. وتابعتُ:
ـ لا منفعة منها لكَ... فأنتَ تصرف عليها المال للمأكل والمشرب والملبس ومقابل ماذا؟ أن تطبخ وتنظّف البيت؟ إنّه استثمار سيّئ وأنتَ تجيد التجارة وتعلم ذلك تمامًا... إلى جانب ذلك فهي عاقر، أي أنّها بضاعة غير نافعة... أعرض عليكَ مبلغًا كبيرًا يفوق بكثير ما صَرَفته عليها.
ـ كَم؟
ـ قدر ما تشاء.
ـ إلى هذا الحّد تريدها؟
ـ أريدها بقدر ما لا تريدها أنتَ.
كان قلبي يدقّ بسرعة ولكنّني حافظتُ على هدوئي، فكنتُ أتكلّم مع رجل لا يرحم، وكنتُ أعرض عليه التخلّي عن زوجته لمصلحة ابنه. وتغلّبَ طمعه على كلّ شيء آخر، وحدّد أبي المبلغ الذي كان أكبر ممّا تصوّرتُ.
ركضتُ إلى ربّ عملي وطلبتُ منه مساعدته مقابل قبولي السفر معه ومع... نعيمة.
طلقَّ أبي زوجته الأولى وقبضَ ثمنَها وكان مسرورًا جدًّا. وفي اليوم التالي، أخذتُ حبيبتي إلى العاصمة حيث تزوّجنا وانتظرنا الأوراق اللازمة لنسافر إلى افريقيا.
لدَينا اليوم بنتان جميلتان، بعد أن أتضَحّ أنّ نعيمة لم تكن عاقرًا بل أنّ أبي هو الذي لم يعد قادرًا على الانجاب، والدليل على ذلك أنّ زوجته الثانية لم تأتِ له بذريّة.
لقد مرَّ على زواجنا عشرون سنة تقريبًا ولم أندَم للحظة على اختياري لنعيمة.
حاورته بول جهشان