كنتُ آنذاك عروسًا جديدة وقد انتقَلتُ للتوّ مع زوجي إلى تلك الشقّة اللطيفة لبناء حياتنا ولاحقًا عائلتنا الخاصّة بنا. وفور وصولنا، حصَلَ لي "شرَف" التعرّف إلى جارتنا "الخالة ثريّا" التي تسكنُ قُبالتنا في الطابق نفسه. وفور ما تلاقَت عيونَنا، شعَرتُ أنّها لَم تفرَح لقدومنا، فهي أقفلَت بابها بوجهي يوم كنتُ أنقلُ بعض الأمتعة، في حين انتظرتُ منها أن تتأهّل بي وتسألني مئة سؤال كما تفعل السيّدات المُسنّات عادةً. إستأتُ للأمر، لكن سرعان ما نسيتُ ما فعلَته لكثرة انشغالاتي... إلى حين هي دقَّت الباب في اليوم نفسه لتقولَ لي:
ـ إسمَعي... ما اسمكِ؟
ـ داليا، يا سيّدتي.
ـ إسمَعي يا داليا، أعيشُ هنا منذ سنوات لا تُحصى، وربَّيتُ عائلة كبيرة وأصبحتُ جدّة ولَم أزعُج أحَدًا. إسألي مَن تشائي عنّي!
ـ ولماذا تقولين لي ذلك؟
ـ لأنّني لا أُطيقُ المُزعجين!
ـ سأعيدُ طرح السؤال نفسه عليكِ: لماذا تقولين لي ذلك؟
ـ كَي لا تُزعجيني!
ـ وهل أزعجتُكِ بشيء؟
ـ ليس بعد... لكن احترسي! سأُراقبُكِ وزوجكِ عن كثب! سأُراقبُكِ!
ثمّ عادَت إلى شقّتها ليس مِن دون أن تستدير وترمي نظرات غاضبة تجاهي. كدتُ أضحَك لهذا المشهد، إلّا أنّني سيطرتُ على نفسي لأنّ العجوز كانت على ما يبدو بغاية الجدّيّة. وبعد ساعات قليلة، أخبَرتُ زوجي عمّا حدَث فقالَ مُطَمئنًا: "لا تُبالي، فتلك السيّدة هي حتمًا خرِفة ولا تعي ما تقول. لماذا لا تُحضّرين لها قالِب الحلوى مِن الذين تُجيدين صنعها؟ أنا مُتأكّد مِن أنّها ستُبدِّل رأيها بكِ". فعلتُ كما هو نصحَني ورحتُ في اليوم التالي إليها لأُعطيها القالِب، إلّا أنّها نظرَت إليّ بمزيج مِن الاستغراب والغضَب وقالَت: "خُذي قالبكِ بسرعة َقبل أن أرمي به في وجهكِ! هل تخالين أنّكِ تستطيعين استمالتي ببعض الطحين والبيض المخفوق؟!؟ يا لوقاحتكِ!". وأقفلَت الباب بوجهي بقوّة مُخيفة.
بعد ذلك، فعلتُ جهدي لتجنّب الخالة ثريّا، لكن حدَث أن تلاقَينا بضع مرّات قرب المصعد أو أمام الباب، فألقيتُ التحيّة عليها، إلّا أنّها لَم تردّ التحيّة. للحقيقة، لَم أُبالِ كثيرًا لها، بعد أن فهمتُ أنّ تلك الجدّة لا تُريدُني في حياتها أو جوارها.
ثمّ علِمتُ بفرَح أنّني أنتظرُ مولودًا، فعمَّت السعادة بيتنا الصغير. لكن حين بدأ يكبُر بطني ورأته الخالة ثريّا، إنتابَها غضبٌ عارِم فصرخَت بي في إحدى المرّات:
ـ ليكن في علمِكِ، إن سمعتُ صوت قِردكِ الصغير حين يولَد، سأطلبُ لكما الشرطة!
ـ قِردي الصغير؟!؟ هل لدَيكِ حجَر مكان قلبكِ؟!؟ مَن يُسمّي جنينًا بهذا الاسم؟!؟ أنتِ حقًّا مجنونة!
ـ عقلي يَزِن بلَدًا بكامله!
ـ ألَم تُنجِبي وكذلك أولادكِ؟!؟ هل هم أيضًا كانوا قِردة صغيرة؟!؟
سكتَت الجدّة فدخلتُ شقّتي غاضِبة لأقصى درجة وبدأتُ بالبكاء، ليس فقط لموضوع "القِرد الصغير" بل لأنّني أدركتُ أنّ تلك العجوز لن تتركنا وشأننا أبدًا. لِذا طلبتُ مِن زوجي البحث عن سكَن آخَر، إلّا أنّه أجابَني:
ـ ونتراجَع أمام عجوز شمطاء؟!؟ لن يحصلَ ذلك أبدًا! نحن باقيَين هنا!
ـ إسمَع، هرموناتي لا تسمَحَ لي بتحمّل هذا التنمّر ولا أُريدُ أذيّة إنسانة بهذا السنّ.
ـ أظنّ أنّ علينا أن ندعو باقي الجيران لاجتماع عام.
ـ فكرّة جيّدة... لكنّنا لا نعرفُهم، بالكاد هنّأونا بزواجنا، فالكلّ هنا يهتمّ فقط بشؤونه الخاصّة. دَعني أزورُ جارتنا في الطابق الأسفَل، هي مِن سنّي تقريبًا وأظنّ أنّها ستفهمُني.
وفي اليوم التالي، زرتُ تلك الجارة حامِلةً قالبًا لذيذًا مِن الحلوى، وراجيةً أنّها لن تصدّني كالخالة ثريّا. جلستُ معها وبدأتُ بالتحدّث عن أمور عاديّة كالأمومة والأزياء، وحوّلتُ الحديث إلى موضوع جارتي العجوز. وهي قالَت لي:
ـ الخالة ثريّا لَم تكن هكذا في ما مضى... لكنّ الوحدة...!
ـ أفهم قصدكِ... هي شعرَت بالوحدة بعد زواج أولادها ورحيلهم عنها.
ـ أولادها؟!؟ ماذا تقصدين؟
ـ لدى الخالة أولاد وأحفاد، هذا ما قالَته لي.
ـ الخالة ثريّا لَم تتزوّج يومًا!
ـ ماذا؟!؟ هل أنتِ مُتأكِّدة مِن كلامكِ؟
ـ مُتأكّدة تمامًا... فلقد وُلِدتُ وكبرتُ في هذه الشقّة وتزوّجتُ فيها بعد موت أهلي، رحمهما الله. وأعرفُ الخالة مذ فتحتُ عَينَيّ.
ـ ولماذا هي قالَت لي ذلك؟
ـ لستُ أدري. إسمعي... العجوز كانت إنسانة طيّبة وخدومة ولا تُفارِقُ البسمة وجهها. وهي كانت مُديرة إحدى الشركات الكبيرة إلى حين بلغَت سنّ التقاعد. ومنذ ذلك الحين، بدأَت تتغيّر وكذلك مزاجها. حاولتُ أن أبقى على صِلة معها، فجلَبتُ لها المأكولات اللذيذة لكنّها صارَت تنزعِج منّي وتصرُخ عليّ.
ـ هل تظنيّن أنّها فقدَت عقلها؟
ـ لستُ أدري لكن لا أعتقدُ ذلك، فعدا مزاجها السيّء، هي واعية تمامًا. كلّ ما عليكِ فعله هو تجنّبها والتصرّف وكأنّها ليست موجودة.
ـ ربّما هذا هو السبب.
ـ لَم أفهَم.
ـ هي غاضبة لأنّها تشعرُ أنّها لَم تعُد موجودة أو لَم يعد لها أيّ منفعة، خاصّة بعدما كانت تشغلُ منصِبًا كبيرًا ولدَيها مسؤوليّات أيضًا كبيرة. مسؤوليّات... أجل، أجل!
تركتُ شقّة جارتي بسرعة وقصدتُ السوبر ماركت حيث جلَبتُ حاجيات البيت ثمّ وضعتُها في المصعد وبعدها أمام باب شقّتي. قرعتُ باب الخالة، وحين هي فتحَت لي الباب قلتُ لها:
ـ أرجوكِ يا خالتي، أنا بحاجة إلى مُساعدتكِ... الأكياس عديدة وثقيلة وأنا حامِل كما تعلمين... ولا أحَد سواكِ باستطاعته مُساعدتي.
ـ أنا؟!؟ أنا لا أحبُّكِ!
ـ أعلَم ذلك، لكن أنتِ إنسانة قويّة وقادِرة على حَمل الأكياس معي. أعِدُكِ بأنّني لن أتكلّم معكِ بعد ذلك.
ـ حسنًا.
حمَلت ثريّا الأكياس معي إلى الداخل، فقلتُ لها قَبل أن تخرج:
ـ شكرًا... سأضَع الأغراض بنفسي في مكانها بعد أن أستريح... فزوجي لا يعرفُ أين مكان أغراض البيت، تصوّري!
ـ كلّهم سواء! إجلسي أنتِ وأنا سأضُع الأغراض في الخزائن! جيل لا منفعة منه! في ما مضى كانت الحوامِل تذهبنَ إلى الحقل لمُتابعة أشغالهنّ وتلِدنَ هناك إن لزِمَ الأمر.
ـ شكرًا على تفهّمكِ.
ورحلَت الخالة بعد أن قالَت لي:
ـ هل رأيتِ كيف رتّبتُ الأغراض جيّدًا؟ لا تُغيّري مكانها! سأفعلُ ذلك في كلّ مرّة!
ضحِكتُ في سرّي لأنّني كنتُ قد وجدتُ مُفتاح قلب العجوز. في اليوم التالي دعَوتُ أمّي وخالاتي لتناول الشاي، ورحتُ أدقّ على باب ثريّا لأقول لها: "لدَيّ زائرات لكن كيف أهتمّ بهنّ وأنا في حالتي؟ ليس لدَيّ سواكِ... ما رأيكِ؟". لبَّت الخالة الدعوة وساعدَتني في تقديم الشاي والحلويات... وجلسَت تتحدّث مع أمّي وخالاتي براحة تامّة وكأنّها تعرفهنّ منذ زمَن. عندها قالَت لها أمّي التي كانت على عِلم بمشاكلي مع العجوز: "بالي مُطمئنّ على ابنتي لأنّكِ جارتها، فهي بمثابة ابنة لكِ. أشكرُكِ على اهتمامكِ بها". كدتُ أموت مِن الضحك لكنّني حبَستُ ضحكتي مرّة أخرى.
وُلِدَ ابني بعد أن صرتُ وثريّا صديقتَين، وهي بالفعل ساعدَتني كثيرًا أثناء حَملي، فالحقيقة أنّ جميع أفراد عائلتي وعائلة زوجي يعيشون بعيدًا جدًّا عنّا. جاءَت والدتي لتُساعدني بطفلي لفترة مِن الزمَن، قَبل أن تعود إلى أبي واخوَتي، وكان بالفعل بالُها مُطمئنًّا مِن ناحيتي بسبب وجود الخالة.
مرَّت السنوات وأنجَبتُ ابنة جميلة وكبرَت وأخوها، إلى حين مرضَت الخالة بداء خطير وباتَت أيّامها معدودة. لَم أتركها طبعًا وكذلك ولَداي وزوجي، فهي صارَت واحدة منّا حقًّا. نقَلناها إلى المشفى في مشوارها الأخير، وهي أمسكَت بِيَدي وقالَت لي وهي تنظرُ إليّ بحنان لا أستطيع وصفه:
ـ أهداني الله أخيرًا ابنة، ولا أدري لماذا تأخَّرَ هكذا!
ـ وأنتِ بمثابة أمّي.
ـ قولي لابنتكِ ألّا تفعَل مثلي... قولي لها إنّ عليها أن تدرس وتعمَل طبعًا، لكن إيّاها أن تنشغِل لدرجة نسيان الأمور الباقية. أرَدتُ أن أُثبتَ للجميع أنّني قادِرة على فعل ما يفعله الرجال، فنسيتُ أنّني امرأة. ففي أيّامي كان مِن شِبه المُستحيل على امرأة أن تترأس شركة وكان الضغط عليّ كبير للغاية، وغروري أعماني. وقولي لها أن تُحِبّ... آه... أتذكّر ذلك الشاب الوسيم... لكنّني رفضتُه بسبب مركزه وراتبه، فكنتُ أعلى منه وأتقاضى أكثر منه... قولي لها أن تستمتِع بالحياة، فأنا قضَيتُ أيّامي بين الملفّات. وماذا تبقّى لي في آخِر المطاف؟ لا شيء سوى صدى أحلام لَم أُحقِّقها، وذكريات ماضٍ تمنَّيتُ لو أُغيّره. لا تنسي أن تقولي لها كلّ هذا، عِديني.
ـ أعدُكِ يا خالة ثريّا، أعدُكِ.
إبتسمَت العجوز وأغمضَت عَينَيها لآخِر مرّة، فبكَيتُها لكن بفرَح لأنّها عاشَت سنواتها الأخيرة مع ابنة لَم تلِدها وحفيدَين رائعَين. كنتُ قد أعطَيتُ الخالة ثريّا العائلة التي كانت بحاجة إليها والحبّ الذي افتقَدَه قلبها. أرقُدي بسلام يا ثريّا، فلن ننساكِ أبدًا.
حاورتها بولا جهشان