كيف للناس أن تتغيّر بشكل جذريّ وبفترة قصيرة، لتصبحَ مُجرّدة مِن أيّ شعور أو انسانيّة؟ لستُ أدري. مَن أتكلّم عنه هو زوجي السابق ربيع الذي كان يُحبُّني لِدرجة لا تُعقَل، وحارَب الدنيا بأسرها لأصبَحَ زوجته وأم أولاده المُستقبليّين.
للحقيقة، بدأ زواجُنا بطريقة جيّدة، وأذكرُ أنّني شكرتُ ربّي كثيرًا على هكذا رجُل مُحِبّ. لكنّ الأمور أخذَت تتغيّر بعد أن سافَرنا إلى الولايات المُتحِّدة، حين وجَدَ ربيع عمَلاً أفضل هناك. كنتُ خائفة بعض الشيء، لكنّ ثقتي بزوجي أعطَتني الشجاعة اللازمة للمضيّ في هذه الخطوة. فأنا لَم أكن أُجيدُ أبدًا التكلم بالإنكليزيّة أو فَهمها، الأمر الذي تسبّبَ بانزوائي في مسكَننا الجديد، ومكَثتُ لوحدي طوال أيّام وأشهر عديدة بينما كان زوجي في عمَله.
ثمّ صارَ ربيع يُسافرُ إلى البلَد بصورة مُنتظِمة بداعي العمَل، بعد أن فتحَت الشركة فرعًا هناك واحتاجَت له كَونه شرقيًّا. كنتُ أودُّ مُرافقته، إلا أنّ زوجي أقنعَني بأنّ لا لزوم لذلك، فبقيتُ في البيت واكتفَيتُ بإرسال الهدايا إلى أهلي وأصدقائي معه. مرَّت أكثر مِن سنة على هذا النحو إلى حين صِرتُ أمًّا.
مجيء ابننا إلى الدنيا كان الحدَث الأهمّ في تلك الفترة، واعتبَرتُ صغيري وكأنّه مُنقذي مِن الملَل والوحدة. سُرِرتُ لأنّه سيحصلُ تلقائيًّا على الجنسيّة الأميركيّة ويتعلَّم اللغة بسهولة، على خلافي. لكنّ ولادة طفلنا لَم تلقَ عند ربيع الفرحة نفسها، إذ انّه بدا لي غير مُهتمًّا به. ردَدتُ الأمر إلى عمَله الذي يتطلّب منه جهدًا فكريًّا كبيرًا وسفَرًا مُستمرًّا، ورجَوتَ أن يستوعِب بسرعة أنّ له دورًا في حياة ذلك المخلوق الصغير.
وحين كبُر ولدُنا قليلاً، قلتُ لربيع إنّني سأُرافقه إلى البلد في المرّة القادمة، إلا أنّه حاوَلَ أيضًا إقناعي بعدَم الذهاب. وجدتُ الأمر الفعل مُريبًا، ففي آخِر المطاف لَم أكن يومًا غبيّة، لِذا بقيتُ مُصِرّة بل خابَرتُ أهلي أمامه لأزفّ لهم خبَر سفَري القريب. عندها غضِبَ ربيع منّي كثيرًا وتفاجأتُ به يصرخُ ويُهدّدُ. سألتُه عن سبب ردّة فعله، لكنّه لَم يُجِب بل خرَجَ مِن البيت ليعود بعد ساعات طويلة. بعد ذلك اليوم، لَم يُوجِّه زوجي الكلام لي إلا للأمور الضروريّة، ليُفهمَني أنّ عليّ أن أتراجَع عن قراري. وهكذا سافَرنا مع ولَدنا إلى البلَد حيث عانَقتُ أخيرًا عائلتي وهم تعرّفوا إلى صغيرنا.
مكَثتُ وابني عند أهلي طبعًا، لكنّ ربيع قرَّرَ أنّه سيقضي تلك الفترة عند زميل له ليذهَبَ معه يوميًّا إلى الفرع الجديد. لَم أُمانِع، ففي آخِر المطاف، هو أتى ليعمَل وليس ليتسلّى. لَم أعرِف اسم زميله أو مكان سكنه، فأحيانًا تكون الزوجة كثيرة الثقة بزوجها أو تخشى أن تُضايقه بأسئلتها... بينما لو انعكسَت الأمور لسألَ الزوج مئة سؤال وعلِمَ كلّ خطوة تقومُ بها زوجته.
عُدنا إلى بيتنا في الولايات المُتحّدة وقلبي مُفعَم بالفرَح بعد أن قضَيتُ بضعة أيّام مع ذويّ، لكنّ ربيع بقيَ يتجاهلُني وابننا. قرّرتُ إعطاءه بعض الوقت ليعودَ الزوج المُحِبّ الذي عرفتُه.
تقرَّبتُ أخيرًا مِن إحدى جاراتي التي بقيَت تُصِر على مُصادقتي، بالرغم مِن انعزالي وعدَم رغبتي بالتخالط بأحَد بسبب اللغة. كان اسمها "ساندي" وكانت مرِحة للغاية. هي كانت تُجيدُ العربيّة بعض الشيء لأنّ زوجها السابق كان عربيًّا، وذلك ساعَدَ كثيرًا في التواصل بيننا. ومعها بدأتُ أتعلّم الإنكليزيّة شيئًا فشيئًا واتّضَحَ أنّني تلميذة جيّدة! وحين هي علِمَت أنّ سبب حزني كان تصرّف زوجي، قالَت لي ساندي:
ـ لدَيه امرأة غيركِ.
ـ لا تقولي ذلك يا ساندي! ربيع هو أفضَل زوج في الدنيا!
ـ هذا واضح للغاية! لدَيه عشيقة!
ـ المسكين يقضي نهاره في العمَل ولا وقت لدَيه لهكذا أمور.
ـ أوكي! سأُشارطُكِ أنّني على حقّ، وإن كنتُ بالفعل على حقّ عليكِ أن تُسدي لي خدمة أيّّا كانت!
ـ وإن ربِحتُ الشرط؟
ـ سأعمَل لدَيكِ "بيبي سيتر" لمدّة شهر!
ـ إتّفقنا!
وللأسف، ربِحَت ساندي الشرط، فتلك المرأة كانت قد ذاقَت طعم خيانة رجُل لها، وتستطيع التعرّف على التفاصيل التي لَم أرَها، فحتى ذلك الحين كنتُ أُعطي أعذارًا مُختلفة لربيع، لأُقنِعَ نفسي بأنّ ما مِن شيء مُريب يحصل، لكنّني لَم أشكّ أبدًا بأنّه يخونني. فأين ومتى يرى عشيقته؟!؟ والجواب كان واضحًا كالنهار: في البلَد! أجل، فسفَره لَم يكن فقط بداعي العمَل بل أيضًا... بداعي الزواج. نعم، فلقد تزوّجَ ربيع عليّ سرًّا وكان يُسافِر ليرى زوجته... وابنه منها!
إكتشَفتُ تلك التفاصيل المُروّعة ليس بفضل حنكتي، بل مُباشرةً مِن زوجي بعد أن قلتُ له مازِحة:
ـ هل تعلَم ما قالَته لي جارتي عنكَ؟ إنّ لدَيكِ امرأة أخرى في حياتكَ! تصوّر مدى خيالها! لكنّني أكّدتُ لها أنّكَ أفضل زوج في العالم وأنّكَ لن تخونَني أبدًا!
ـ ما دمتِ فتحتِ الموضوع... إسمَعي... لَم أعُد أتحمّل الحياة معكِ، لِذا أنا عائدٌ إلى البلَد بصورة دائمة وإلى زوجتي الثانية وابني. لدَيكِ الجنسيّة وكذلك ابنكِ وستتدبّرين الأمر.
ـ ماذا؟!؟ قُل إنّكَ تمزَح أرجوكَ!!! ربيع! فكِّر ولو بابنكَ!
ـ للحقيقة لستُ مُتأكّدًا مِن أنّه ابني... فقَبل حَملكِ كنتُ مُسافرًا كعادتي.
ـ لا أسمحُ لكَ! إنّه ابنكَ ومِن لحمكَ ودمكَ! لا تُهِن شرَفي لتتهرّب مِن مسؤوليّاتكَ! أنتَ وغد! كيف لَم أرَ حقيقتكَ مِن قَبل؟ ماذا فعلتُ لكَ كي تبني عائلة ثانية وتتّهمني هكذا؟!؟
ـ أنتِ مُمِلّة.
تركَني زوجي وطلّقَني بسرعة وانهارَ عالمي، فإلى جانب رحيل ربيع بين ليلة وضحاها، وإلى جانب نكرانه لأبوّة ابننا، خفتُ مِن الذي ينتظرُني في الغربة. كان بإمكاني العودة أيضًا إلى البلَد، لكنّني كنتُ مُتأكّدة مِن أنّ ذلك السافل سيُذيعُ خبَر خيانتي المزعومة له وحَملي مِن آخَر. ولَم أكن أُريدُ أبدًا تدمير حياة صغيري أو سمعتي وسمعة أهلي. كان علي البقاء في الولايات المُحتّدة، على الأقل إلى حين أفهَم ما يجري وأتصرّف بحكمة.
سنَدي الوحيد كان جارتي ساندي التي لَم تتركني أبدًا، بل واسَتني ورفعَت مِن معنوياتي كثيرًا. إضافة إلى ذلك، هي تابعَت إعطائي الدروس في اللغة وتقويَتي في التواصل بالإنكليزيّة. وبعد فترة قصيرة، بدأتُ أعمَل في سوبر ماركت كموظّفة مستودَع، عمَل بسيط لا يتطلّبُ خبرة مُعيّنة. وفي تلك الأثناء، كانت ساندي تجالِس ابني وتُعلّمه أيضًا اللغة.
لكنّ يأسي كان موجودًا وبقوّة، فحصَلَ مرّة أنّني غبتُ عن الوعي في المستودَع، فاتّصلوا بساندي التي أتَت مُسرِعة بعد أن وضعَت ابني عند جارة أخرى. لَم يتطلّب وضعي دخول المشفى والحمد لله، لأنّ الطبابة هناك باهظة الثمَن، فعدتُ إلى عمَلي بسرعة.
ثمّ انتقَلتُ للعمَل على الصندوق، فاتّضَحَ أنّني موظّفة دؤوبة. ودخَلَ ولَدي الحضانة فارتاحَ بالي مِن ناحيته. بقيَ ربيع يُنكرُ أبويّة ابننا ليمتنِع عن إرسال المال لتربيته، وهدّدَني برَفع دعوى زنى ضدّي وشَطب اسمه عن أوراق ابننا وإعلانه ولَد غير شرعيّ إن اتّصلتُ به مُجدّدًا. عندها لزمتُ الصمت طبعًا، وأبقَيتُ مسألة طلاقي سرّيّة عن أهلي بل ادّعَيتُ السعادة المُطلقة.
ساعدَتني عدّة جارات لتسديد إيجار البيت والفواتير، وذلك بإنشاء صندوق مُخصّص لي. للحقيقة، لَم أتصوّر أنّ أهل ذلك البلَد الشاسِع والمتنوّع لدَيهم قلبًا بهذه الطيبة، ولن أشكرهم كفاية. فلولا ساندي وجاراتي، الله وحده يعلَم ما قد كان حصَلَ لي ولصغيري.
ثمّ دخلتُ الجامعة لأكمِل دراستي. لَم يكن الأمر سهلاً على الاطلاق بل إنجاز بحدّ ذاته. إختَرتُ المُحاماة فيما كنتُ أعمَل مِن دون ملَل لكن بِتَعب كبير. المسكين ابني كبرَ بين جاراتي، لكنّه كان صبيًّا واعيًا للغاية وهو استوعَب أنّ لا خيارًا آخَر لي في غياب أبيه التام. كنتُ قد أخبرتُه الحقيقة عنه، أو على الأقل جزءًا منها، كَي لا يقضي وقته بانتظار أب لن يعود.
حصلتُ أخيرًا على شهادتي الجامعيّة وعلى معرفة عميقة بالقانون. وتعلّمتُ أيضًا أنّ هناك فحصًا للحمض النوويّ يُثبتُ قطعًا الأبوة، وأنّ باستطاعتي إرغام ربيع بالخضوع له، هذا لو أنّه قرّر عدَم الاعتراف بابنه. فحتّى ذلك الحين هو لَم يُقدِم على إنكاره شرعيًا. بقيتُ بالمرصاد له، فالواقع أنّني تغيّرتُ كثيرًا، فلَم أعُد تلك المرأة الضعيفة والخاضِعة والخائفة بل صرتُ سيّدة قويّة تتمتَّع بثقة بالنفس ثابتة.
وبهذه النفسيّة الجديدة رحتُ أبحثُ عن عمَل في مجال القانون، وسرعان ما انتسَبتُ إلى مكتب للمحاماة يملكه مواطن مِن بلَدنا. أرأيتم كيف أنّ الله يُدبِّر أمور المظلومين؟ فلحظة ما قرأ صاحب المكتب إسمي على سيرَتي الذاتيّة، طلَبَ أن يُقابلَني. تحدّثنا سويًّا عن البلَد وأمور عديدة، وأطلعتُه على وضعي وحاجتي للعمَل. عرَضَ عليّ الأستاذ ناجي مُساعدتي بالنسبة لزوجي السابق لكنّني رفضتُ بتهذيب، فتلك المسألة صارَت ورائي منذ سنوات ولَم أكن أريدُ ايقاظ التنّين النائم، فما الفائدة؟
ساعدَني الاستاذ ناجي كثيرًا، بإعطائي ثقته وكلّ السنَد اللازم لبلوغ الخبرة التي أحتاجُ إليها بمهنتي الجديدة. وبعد فترة، صِرتُ مُستقلّة ماديًّا تمامًا، ولَم أعُد بحاجة إلى الصندوق المُخصّص لي مِن قِبَل جاراتي، بل جيَّرتُه لعائلة مُحتاجة تعيشُ في جوارنا.
لَم يسأل ربيع أبدًا عن ابنه، ولو لمرّة واحدة، ولَم يُزعِجني الأمر بل أراحَني. فتصوّروا لو أنّه أرادَ فجأة لعِب دور الأب؟ على كلّ الأحوال، إبني لن يقبَل به على الاطلاق، بعد أن فهِمَ تمامًا أيّ صنف مِن الرجال هو ذلك الانسان البغيض.
كانت حياتي هنيئة للغاية ولَم يخطُر ببالي قط أن أرتبِط مُجدّدًا، فيكف أقعَ في الغرام مِن جديد بعد الذي حصَلَ معي؟
لكنّ الحبّ جاء إليّ برجلَيه، بعد أن دبَّرَ لي الأستاذ ناجي مُقابلة مع أحَد المُحاميين المعروفين بداعي دراسة ملف مُشترَك... أو هكذا قالَ لي. لكن في الحقيقة هو أرادَ أن أبنيَ حياتي مِن جديد مع ذلك المُحامي، بعد أن حكى له عنّي مُطوّلاً.
ووقعتُ في الحبّ. أجل! وتزوّجنا وحضَنَ زوجي الجديد ابني وساعدَه مِن كلّ النواحي. عادَت إليّ الفرحة والأمَل، ونحن الثلاثة نعيشُ أجمَل الأيّام. تصوّروا أنّني توصّلتُ لشكر ربيع ضمنيًّا لأنّه تركَني، فلولا ذلك، لبقيتُ أجهَل كيف يكون الحبّ الحقيقيّ ومُعاملة الزوج لزوجته.
أشكرُكَ يا ربّي، فلَم تتركني بل وضعتَ في طريقي أناسًا رائعين مثل ساندي وجاراتي والأستاذ ناجي وآخَرين أيضًا. أنتَ مدَدتَ لي يَد العون، وأنا تمسّكتُ بها بلا خوف لكن ربمّا بشيء مِن القلَق. فعلينا أن نثِق بالذي يُقدّمه لنا خالقُنا، مِن دون أن نسأل الكثير مِن الأسئلة بل الانقياد طَوعًا لمشيئته.
حاورتها بولا جهشان