إنتابَني شعور ممزوج بالدهشة والغضَب والألَم ومِن ثمّ الاستنكار والخجَل، حين أمسكَتني تلك المجنونة مِن شعري وشدَّت به صارخة بي:
- ألا تخجَلين مِن نفسكِ أيّتها الفاسقة؟!؟
نظرتُ إليها فرأيتُ عَينَيها المفتوحتَين واسعتَين، فاختبأتُ خلف زبونة كانت واقفة بالقرب منّي في السوبر ماركت. أرادَت المرأة الهجوم عليّ مرّة أخرى، إلا أنّ أحَد الموظّفين منعَها مِن ذلك وطلَبَ منها ترك المكان. لكنّها قالَت عاليًا قبل خروجها:
- إنّها تُعاشرُ زوجي! أتسمعون؟ تعاشرُ رجُلاً مُتزوّجًا وأبًا لثلاثة أولاد! تذكّروا وجهها وابصقوا عليه كلّما رأيتموها هنا أو في أيّ مكان آخَر!
خبّأتُ وجهي مع أنّني لَم أفعَل ما هي تهمَتني به، بل لأنّني خفتُ مِن أن يُصدّقها الناس فتتلطَّخ سُمعتي. بعد ذلك، حاولتُ الخروج بدوري لكن ليس قبل أن أتأكّد مِن أنّ الزوجة "المخدوعة" لا تنتظرُني في الخارج.
يا إلهي... ما الأمر؟ هل الموضوع هو مسألة تشابُه، أم أنّها إنسانة فاقدة للعقل والصواب؟ رحتُ البيت وأنا أرتجِف مِن تداعيات الصدمة وأسرَعتُ أُخبر أمّي بما حدَث. حاولنا سويًّا طرح احتمالات وإيجاد تفسيرات، وانتهَينا بالاتفاق على أنّ المرأة مجنونة وحسب. فمَن يعتدي علنًا على إنسان بريء سوى غير العاقلين؟ لَم أنَم جيّدًا في تلك الليلة بسبب تشنّجي وتفكيري بنتائج هكذا فضيحة مجّانيّة. فالجدير بالذكر أنّني أُعلّقُ أهميّة كبيرة على سُمعتي وسلوكي اللذَين أردتُهما بنقاوة الثلج. فلَم أتعاطَ يومًا مع شاب أيّ كان، بل أصبُّ اهتمامي على عمَلي الجديد في المصرف وأهلي في البيت. ثمّ أقنعتُ نفسي أنّ ما حصَلَ هو حادث مُنفرد، وقرّرتُ ألا أقصد ذلك السوبر ماركت لأتجنَّب الوقوع على الزوجة، ولأُعطي الموظّفين والزبائن الوقت الكافي لنسياني.
أخبرتُ أيضًا سلام زميلتي في العمَل بالذي جرى معي، وهي اقترحَت ألا أخرجُ إلى أيّ مكان لوحدي بل أصطحب أخي الأصغَر معي. وجدتُ الفكرة جيّدة فتبَّنَيتُها على الفور. وسرعان ما ارتاحَ بالي وعدتُ أشعرُ بالأمان.
مرَّ حوالي الشهر حين تلقَّيتُ على هاتفي المحمول رسالة تهديد. كانت تلك الرسالة آتية مِن السيّدة نفسها التي اتّهمَتني بزوجها، وتتضمَّن كلمات نابية ووعود بالأذيّة. أجبتُها بأنّها حتمًا تخالُني شخصًا آخر، وأقسمتُ لها أنّني لستُ على علاقة برجُل أكان مُتزوّجًا أم أعزبًا. لكنّ التهديدات زادَت لِذا حظرتُها على هاتفي. وقصدتُ مُجدّدًا زميلَتي سلام للاستشارة، وهي وعدَتني لدى طلَبي بأن تسأل عن كيفيّة إيجاد اسم صاحبة الرقم. لكنّها نصحَتني بألا أتقصّى كثيرًا عن تلك المرأة، فقد تكون مُختلّة عقليًّا وتُسبّب لي الأذى الفعليّ. أضافَت أنّ عليّ نسيان الموضوع، بعد أن حظرتُ المجنونة ولَم أعُد أخرجُ مِن البيت لوحدي. وهي كانت على حقّ، لكنّ الفضول هو صفة بشريّة.
أخي كان مُستمِعًا أفضل مِن سلام، لأنّه أرادَ أن نتصرّف وليس التفرّج على تحطيم سمعتي ومعنويّاتي. أوكلتُه بالتقصّي بينما حاولتُ التركيز على عمَلي في المصرف. كنتُ بالفعل سعيدة في تلك المؤسّسة بين زملائي والزبائن وتحت إمرة مدير طيّب وخلوق. ولهذا السبب لَم أكن أٌريدُ فقدان منصبي الذي شغلتُه منذ أقلّ مِن سنة، ولَم أتردَّد في البقاء أحيانًا بعد الدوام مع بعض الموظّفين لإنهاء ملفّاتي.
وفي أحد الأيّام رأيتُ المجنونة تدخلُ المصرف وتتوجّه مُباشرة إلى مكتب المُدير. يا إلهي! هل وصَلَ جنونها للمجيء إلى مكان عملي والاشتكاء عليّ لدى رئيسي؟ شعرتُ بخوف شديد فاختبأتُ كالطفلة تحت مكتبي وبدأتُ أرتجِف وأبكي. تصوّرتُ كيف أنّني سأُطرَد وأضطرّ للبحث عن عمل جديد، ناهيكَ عن الأقاويل التي سيتناقلها الموظّفون عنّي. وبعد دقائق طويلة، غادرَت المرأة المصرف. إنتظرتُ طبعًا أن يُناديني المدير مِن مكتبه ليؤنّبني لكنّ ذلك لَم يحصل. تابعتُ نهاري بصعوبة، أتلّفَتُ مِن حولي عند أيّ صوت. وعندما إقتربَ موعد نهاية الدوام، سألتُ أحد زملائي إن كان قضى نهاره بخير، لأرى إن كان سمِعَ شيئًا ما يخصّني، إلا أنّه أجابَني:
- كان نهارًا هادئًا، باستثناء قدوم زوجة المدير... فلا أحد يُحبّها هنا، إنّها تُحدِثُ دائمًا إنزعاجًا بُمجرّد وجودها في المكان. ليكن العون مع المسكين زوجها، فعليه العَيش معها على مدار السنة وطوال حياته!
زوجة المُدير؟!؟ إذًا هي تّتهمُني بإقامة علاقة مع مُديري؟ مِن أين جاءَت بهذه الفكرة، فلَم أتواجَد يومًا معه لوحدي خارج المصرف. هل أنّ أحدًا زرَع في عقلها تلك الفكرة؟ إضافة إلى ذلك، فأنا لستُ امرأة جذّابة أو أرتدي ملابس مُغرية أو حتى أهوى الرجال. أمر غريب! أخبرتُ أخي الذي كان ينتظرُني في الخارج عن الذي اكتشَفتُه، وهو تفاجأ تمامًا مثلي لكنّه سألَني سؤالاً في محلّه:
ـ حسنًا... لنفترِض أنّ شخصًا قال لها إنّكِ على علاقة بزوجها، كيف لها أن تتعرّف إليكِ شخصيًّا في السوبر ماركت؟ أنتِ لَم تُقابليها مِن قَبل، أليس كذلك؟
ـ صحيح... لَم أُقابلها إلا في السوبر ماركت حين تهجّمَت عليّ.
ـ أعذريني يا أختي، لكنّني بدأتُ أشعرُ بالحماس لتلك القضيّة، فأتصوّر نفسي وكأنّني في فيلم بوليسيّ. دعيني أُفكّر بالموضوع على مهل، فقد تخطر ببالي خيوط الحلّ.
إبتسمتُ لذلك الحماس لكنّ قلبي كان حزينًا، لأنّ حياتي كانت قد أخذَت مُنعطفًا بشعًا، وكلّ ما اردتُه كان العودة إلى النمَط الذي عرفتُه سابقًا، أيّ الراحة والطمأنينة.
وذات يوم التقطَ بصري مشهدًا في العمَل وصفتُه بالغريب. رأيتُ زميلتي سلام خارجة مِن مكتب المُدير وبِيَدها ملفّ. لا شيء مُريبًا في ذلك طبعًا، لكن في اليَد الأخرى أخذَت تُصفّفُ شعرها على عجل وهي تلتفِت يمينًا ويسارًا. وأنبأني حدسي أنّ شيئًا غير لائق حدَثَ بينها وبين المُدير في المكتب. وتلاقَت أعيُننا للحظة فأدارَت سلام وجهها فجأة ورأيتُ خدّيها تتلوّن باللون الأحمر. تفادَتني زميلتي طوال النهار لكنّها لَم تكن لِتفلِتَ منّي، ليس بعد الذي عانَيتُه مؤخّرًا. كنتُ أعلَم أنّ لها دخلاً بالذي حصَلَ لي، لكن كيف ولماذا؟ لِذا، قصدتُ مكتب سلام وقلتُ لها بِنبرة جادّة لا تحتمِل النقاش:
ـ سلام، لقد وثقتُ بكِ منذ اليوم الأوّل لقدومي، لأنّني اعتقدتُ أنّكِ إنسانة طيبّة وشفّافة وتُريدين مُساعدتي للانخراط بينكم والشعور بأنّني واحدة منكم. لكن اتّضحَ لي أنّكِ تلاعبتِ بي واستفدتِ مِن وجودي للتغطية على ما تفعلينَه مع المُدير. أُذكّرُكِ بأنّكِ امرأة مُتزوّجة وهو رجُل مُتزوّج.
ـ لستُ أدري عمّا تتكلّمين. لا بدّ أنّكِ تأثّرتِ بالذي فعلَته لكِ زوجة مُديرنا.
ـ كيف علِمتِ أنّ المرأة التي تهجّمَت عليّ هي زوجة المُدير؟!؟
ـ أنتِ قلتِ ذلك لي.
ـ لَم أفعَل! فيوم جاءَت الزوجة إلى المصرف لَم أُكلّمكِ، ولَم أفتَح الموضوع معكِ منذ ذلك الحين. كنتِ تعلمين منذ البداية أنّها زوجة عشيقكِ، ولَم تقولي لي شيئًا بل لعِبتِ دور الصديقة بإسدائي النصائح. ولا بدّ أنّكِ مَن دلَّها عليّ لإبعاد الشبهات عنكِ. يا للصديقة المُحبّة! ربمّا عليّ إخبار زوجكِ بالذي تفعلينَه؟
ـ أرجوكِ ألا تفعلي! سأخبرُكِ بكلّ شيء شرط أن تلزمي الصمت حيال علاقتي هذه.
ـ هيّا تكلّمي!
ـ حين بدأتُ علاقتي مع مُديرنا وتبادلنا الاتّصالات، نصحتُه بتسجيل رقمي تحت اسمكِ، فكنتِ قد وصلتِ للتوّ إلى المصرف واعتبرتُكِ مُجرّد موظّفة جديدة... كان عليّ حماية نفسي بأي طريقة.
ـ برافو!
ـ وذات يوم، تفحّصَت الزوجة هاتف مُديرنا، ووجدَت الرسائل والاتّصالات الليليّة المليئة بكلام... رومانسي. وبعد وقت قصير، ولأنّها تعرفُني جيّدًا بسبب أقدميّتي في العمَل، إنتظرَتني خارج المصرف وسألَتني عن اسم المرأة المقرون بالاتّصالات، فهي شكَّت بأن تكون إحدى موظّفات زوجها. ولكثرة خوفي، دلَّيتُها عليكِ لحظة خرجتِ بدوركِ للذهاب إلى بيتكِ. وهي تبعتكِ حتمًا إلى السوبر ماركت وافتعلَت مشكلاً معكِ... بعد أن أخذَت رقم هاتفكِ منّي.
ـ يا سلام! ولَم يخطُر ببالكِ أنّكِ تُسيئين إلى سمعتي؟!؟ أو أنّكِ تضعين عمَلي في خطر؟!؟ إنّه مورد رزقي!
ـ أنتِ عزباء أمّا أنا... فالضرَر الذي سيُصيبكِ أقلّ بكثير مِن الضرَر الذي سيلحقُ بي.
ـ الضرَر الذي تتكلّمين عنه هو بسببكِ أنتِ، أنت ِالتي اخترتِ إقامة علاقة مُحرّمة! أمّا أنا فلَم أفعَل شيئًا! أنتِ إنسانة معدومة الأخلاق والضمير والشفقة! بسببكِ عليّ الآن ترك منصبي، فلن يعترفَ المدير أو حتى أنتِ بالحقيقة للزوجة وسأظلّ أتعرّض لهجوماتها. أستطيع بالطبع فضحكما لدَيها، إلا أنّ تربيتي وضميري لا يسمحان لي بذلك. لكن لا تنسي مدى الضرَر الذي ألحقتِه بإنسانة بريئة فقط لتقضي وقتًا مُمتعًا مع المُدير. فمِن جرّاء ذلك ستنالين عقابًا جسيمًا في هذه الدنيا أو في الأخرى. وداعًا!
قدّمتُ استقالتي وقبِلَها المُدير بعد أن علِمَ مِن سلام ما هي دوافعي، وهو تجنّبَ النظر في عَينَيّ طوال تواجدي في مكتبه. فلقد خجِلَ منّي لكنّه لَم يخجَل آنذاك مِن اتّهامي بعلاقته الوسخة مع عشيقته. طلبتُ منه كتاب توصية خوَّلَني إيجاد عمل آخَر بعد وقت قصير، الحمد لله.
مرَّت سنة بكاملها حين أوقفَتني يومًا زوجة مديري في الشارع. كدتُ أموتُ مِن الخوف واستعدَّيتُ للهروب والاختباء، إلا أنّها إستمهلَتني صارخة:
- لا أُريدُ أذيّتكِ بل العكس... أودُّ الاعتذار منكِ. لقد علمتُ الحقيقة بعد أن أردتُ يومًا طلَبكِ مِن هاتف زوجي لتأنيبكِ، فلا تنسي أنّكِ حظرتِني. وإذ بي أتفاجأ بسماع صوت سلام عبر الهاتف! يا للماكرة ... فهي أخذَت زوجي منّي بعد أن خانَت ثقتي واتهمَت إنسانة بريئة بدلاً منها. على كلّ الأحوال، لقد رفعتُ دعوى طلاق ضدّ زوجي ستُكلّفه الكثير مِن المال، بعد أن التقطتُ صوَرًا عن رسائله الغراميّة التي هي خير إثبات على خيانته لي. هل تُسامحيني؟
بالطبع سامحتُها، فمَن يدري ما كنتُ فعلتُ لو أنّني وجدتُ نفسي مكانها؟
علمتُ أنّ المُدير، بعد أن خسِرَ الدعوى وماله، إستقالَ مِن المصرف وسافرَ بعيدًا... مِن دون سلام. هل لأنّه اشمأزَّ مِن عشيقته أم لأنّها لَم تعد تُريده بعد أن خسِرَ مركزه وماله؟ الجواب، في الحقيقة، لا يهمّني!
حاورتها بولا جهشان