قالَت لي سمَر يوم التقَينا إنّها تعرفُ أمورًا عديدة عن أشياء غريبة، ولَم أفهَم قصدها إلّا حين هي اعترفَت لي أنّها تقرأ في عقول الناس وتعلَم أيضًا ما قد يحصَل في المُستقبل. للحقيقة، خلتُ أنّها مجنونة أو مُدّعية، إلّا أنّ شيئًا في نظرتها جذبَني بطريقة... ساحِرة. كنتُ أودُّ الرحيل وتركها لوحدها مع أفكارها الغريبة، لكنّني بقيتُ حيث أنا، على كرسيّ ذلك المقهى، أستمِع إليها بِشغف.
كنتُ قد تعرّفتُ على سمَر على إحدى صفحات الفيسبوك، حين أُعجِبتُ بتعليقها على منشور قرأتُه. فلقد كان مِن الواضِح أنّ تلك السيّدة عميقة في تفكيرها... وجميلة أيضًا! فأحببتُها بدوري، ودارَ بيننا حوار سرعان ما انتقَلَ إلى الخاص. وبعد أيّام، قرَّرَنا أن نلتقي وجهًا لوجه. إستمرَّ لقاؤنا ساعتَين كاملتَين، ولَم أشعُر بالملَل ولو للحظة، مع أنّ المواضيع كانت مُزعِجة بحدّ ذاتها، لأنّها تمحوَرَت حول أمور كقراءة الغَيب والتبصير وخطوط اليَد وما أشبَه، أيّ مواضيع بعيدة كلّ البُعد عمّا أهواه أو أهتمّ به، كَوني مُهندسًا وأحِبّ كلّ ما هو ملموس وواضِح.
إفترَقنا بعد أن تبادَلنا أخيرًا أرقام الهاتف، لكن حين عدتُ إلى البيت، قرّرتُ ألّا أتّصل بسمَر على الاطلاق، لأنّها ليست المرأة التي أبحثُ عنها. لكن بعد أقلّ مِن يوم واحِد، إشتقتُ إليها بشكل قويّ، فخابرتُها بعد صراع مع نفسي. تكلّمنا عبر الهاتف لأكثر مِن ساعة، وعندما أقفَلنا الخطّ، كنتُ مُتيمًّا بها.
على مرّ الأيّام، وجدتُ أنّ ميول سمَر الغريبة ليست فعلًا مُزعِجة، لأنّني اعتبرتُها هوايات وليس أكثر، وحاجة لدى تلك المرأة لملء فراغها بعد موت زوجها والعَيش في بيت خالٍ مِن الأولاد. مِن ناحيتي، كنتُ قد بقيتُ عازِبًا، لأنّني انشغَلتُ بحياتي المهنيّة أكثر مِن اللازم، وعزوبيّتي لَم تكن يومًا مُشكلة بالنسبة لي، إذ كانت لدَيّ علاقات عديدة لَم تؤدِّ إلى الزواج، فكنتُ أبحثُ عن امرأة مُميّزة بالفعل. وها قد وجدتُها أخيرًا بشخص سمَر، تلك السيّدة الجذّابة والغامِضة!
تمَّت خطوبتنا، وأعطَيتُ لسمَر الضوء الأخضر لتغيير ملامِح شقّتي لتشعرَ بأنّها سيّدة المكان، وهي حوّلَتها إلى جنّة حقيقيّة. لكنّ آراء الأقارب والأصدقاء كانت مُتفاوِتة، فخطيبتي كانت مِن النوع الذي لا حلّ وسط في تقييمها: إمّا أحبَّها الناس لِدرجة كبيرة، أو كرهوها على الاطلاق. كنتُ أعي ذلك الأمر، فأنا أيضًا لَم أحِبّها في الوهلة الأولى، لِذا لَم أكترِث لتلك الآراء، بل طلبتُ فقط مِن حبيبتي عدَم إثارة موضوع الماورائيّات أمام أحَد، بل إبقاء الأمر بيننا. كنتُ أعلَم أنّ الناس سيصفونها بالساحِرة، ويُلصِقون التهمة بها كلّما حدَثَ لهم شيء سلبيّ، وهي فهِمَت وجوب التكتّم. فالجدير بالذكر أنّني لَم أُصدِّق أنّ لسمَر أيّ قُدرة على الاطلاق، لكنّني ادّعَيتُ تصديق الأمر وتقبّله، لأنّها كانت مِن النوع الذي يُحِبّ جَلب الانظار إليها وتمثيل دور المرأة الخطيرة، في حين هي إنسانة بالفعل لطيفة ومُحِبّة.
تزوّجنا وانتقلَت سمَر إلى شقّتي التي صارَت مكانها المُفضّل. لكن ما لَم أنتبِه إليه على الفور، هو أنّها حوّلَت غرفة صغيرة كانت سابقًا مُعدَّة لغسيل الملابس، إلى غرفة مقفولة بالمفتاح أسمَتها "مكانها الخاصّ". سألتُها عمّا يوجَد في تلك الغرفة، وهي أجابَت: "أمتعتي الخاصّة، لا عليكَ". إبتسَمتُ لأنّني سعِدتُ أنّها شعرَت بالارتياح الكافي في بيتي ليكون لها مكان خاصّ، فاحترَمتُ رغبتها. على كلّ الأحوال، كانت لدَيّ مشاغِل أخرى كثيرة مُتعلِّقة بعمَلي، وكنت أبقى في الشركة إلى وقت مُتأخِّر، فما الضرَر إن كانت زوجتي تجِدُ تسليتها وهي لوحدها؟
أظنّ أنّ القارئ فهِمَ على الفور لِما كانت تلك الغرفة مُخصّصة.
بقيَت الغرفة مُقفلة لوقت طويل قَبل أن أطلب مِن زوجتي، مِن باب الفضول، أن تريني ما بداخلها، إلّا أنّها أجابَت: "إنّها للّذين هم مُحضَّرون للدخول". سكتُّ ثمّ ابتسَمتُ ولَم أعُد أُثير الموضوع، فكان مِن الواضح أنّها لا تعتبرُني "مُحضرًّا".
بعد فترة، علِمتُ مِن ناطور المبنى أنّ زوجتي تستقبلُ زوّارًا في غيابي، واتّضَحَ أنّهم حسب قولها، أقارِب لها، فوجدتُ الأمر طبيعيًّا. إلّا أنّني كنتُ أفضِّل لو أنّها أطلعَتني على الأمر. لكنّها أجابَت: "أليس هذا بيتي أيضًا؟ هل عليّ أخذ موافقتكَ مُسبقًا؟". أجبتُها بالنفي طبعًا... وأُقفِلَ الموضوع.
لكن في أحَد الأيّام، أوقفَتني جارتنا التي تسكن في الشقّة المُلاصِقة لشقّتنا، وقالَت لي همسًا:
ـ هناك أمور غريبة تجري في بيتكَ، أيّها الجار... فأنا أسمَعُ ترانيم بلغّة غريبة وأشمُّ رائحة البخوّر تنبعثُ مِن مسكنكم.
ـ ماذا تعنين؟ لستُ أفهم!
ـ يأتي أناسٌ إلى سمَر في غيابكَ، وبعد حوالي النصف ساعة، يبدأون بالترانيم لفترة طويلة، ويُشعِلون روائح تُشبِه البخّور. ماذا يحدثُ في بيتكَ؟
ـ للحقيقة، لستُ أدري!
لَم أقُل شيئًا لسمَر، بل قرّرتُ التأكّد بنفسي قَبل أن أُحدِثَ شجارًا لا أساس له. لِذا عدتُ مِن الشركة في الوقت الذي قالَت لي الجارة إنّ الزوار يأتون عادةً إلى شقّتنا، واختبأتُ خلف حائط في رواق طابقنا.
وإذ بي أرى مجموعة مِن الأشخاص، ذكورًا وإناثًا، يدخلون الشقّة. وكما قالَت الجارة، سمعتُهم بعد بضع دقائق يُرنّمون سويًّا بكلمات ليست مفهومة ولمدّة طويلة، ثمّ تصاعدَت روائح أيضًا غريبة. عندها، فتحتُ الباب فجأة بمفتاحي، لكنّني لَم أجِد أحَدًا في الصالون. لحِقتُ بصوت الترانيم، فوجدتُ هؤلاء الناس داخل وحول الغرفة السرّيّة وزوجتي واقفة وسطهم بحالة انخطاف مُخيف. كانت هناك شموع مُضاءة في الغرفة، وصوَر غريبة عجيبة مُعلّقة على الجدران، وزينة جديرة بأفلام السينما المُرعِبة. عندها، صرختُ بهم: "ماذا تفعلون، ماذا يجري؟!؟"، إلّا أنّ أحَدًا لم يسمعَني أو يرَني وكأنّني لستُ موجودًا! شعرتُ بالخوف، بخوف حقيقيّ، مع أنّني مِن النوع الشجاع عادةً، فتراجَعتُ، وانتظرتُ في سيّارتي المركونة عند مدخل المبنى رحيل المجموعة.
صعِدتُ إلى شقّتي مُجدّدًا، لأجِد سمَر في المطبخ وهي تُعِدّ الطعام. إستقبلَتني بفرَح واضِح، وسألَتني لِماذا عدتُ باكِرًا وإن كنتُ بخير. لَم أجِبها، بل سحبتُها مِن ذراعها إلى الغرفة الصغيرة، طالِبًا منها فتحها على الفور وإلّا حدَثَ شجار لَم ترَه في حياتها. سحبَت سمَر مفتاحًا مِن جيبها وفتحَت باب "الغرفة السرّيّة" وذُهِلتُ مِمّةحخحا رأيتُه...
... أو بالأحرى بِما لَم أرَه! فكانت الغرفة مليئة بالملابس والأحذية، وقد اختفَت الشموع والصوَر وكلّ تلك الأمور الغريبة التي رأيتُها قَبل نصف ساعة! نظرتُ إلى زوجتي باندهاش وهي سألَتني عمّا يجري، لكنّني لَم أستطِع مواجهتها، بل غادَرتُ إلى عمَلي. وفي تلك الليلة لَم أنَم على الاطلاق لكثرة خوفي مِن زوجتي، فكنتُ واثِقًا مِمّا رأيتُه بنفسي وبِما أخبرَتني الجارة.
في اليوم التالي، جلَستُ مع سمَر لأقولُ لها:
ـ أُريدُ أن تبقى تلك الغرفة مفتوحة، وأريدُ أن أعرِفَ مُسبقًا مَن يأتي إلى هنا، ما اسمهم وماذا يعمَلون وأين يسكنون وما صِلتهم بكِ!
ـ ما الأمر يا حبيبي... ألا تثِقُ بي؟
ـ لقد رأيتُكِ البارِحة أثناء تلك الجلسة السحريّة، لكنّني لا أدري ماذا فعلتِ بتلك الأغراض المُخيفة!
ـ أنتَ تحلم حتمًا! عمّا تتكلّم؟؟؟
ـ لا أريدُ سحرًا في بيتي، حتّى لو لَم أكن أؤمِنُ بأنّكِ ساحِرة، أفهمتِ؟ كفى لعبًا، فأنتِ امرأة ناضِجة!
نظرَت سمَر إليّ وفي عَينَيها نظرة لَم أحِبّها أبدًا، لكنّها لَم تقُل شيئًا على الاطلاق.
في المساء، قدّمَت لي زوجتي طبَقي المُفضّل، إلّا أنّ شيئًا في نظرتها أخافَني، فرفَضتُ تذوّق الطعام. تشاجَرنا بقوّة لأنّني لَم آكُل، وأدركتُ أنّني لن أعودَ يومًا كما في السابق معها لأنّني صِرتُ أخافُ منها، فكان مِن المُمكن جدًّا أن تنوي التخلّص منّي إن رأَت أنّني أقِفُ في درب "سحرها".
إنتقَلتُ للعَيش مؤقّتًا عند أحَد أقاربي، وبدأتُ مُعاملات الطلاق على الفور. حاوَلَت سمَر إقناعي بالعدول عن قراري، ووعدَتني بأنّها لن تفعل شيئًا يُغضبني بعد ذلك، لكنّني بقيتُ مُصِرًّا على تطليقها. فكيف أعيش مع امرأة أخافُ تذوّق طعامها أو النوم بِجانبها؟
تمَّ الطلاق، وطلبتُ مِن سمَر إخلاء الشقّة بأسرع وقت، لكنّها لَم تقبَل، فهدّدتُها بالاشتكاء وع8عليها بأنّها تُمارِس السحر. عندها هي انصاعَت لرغبتي، فأخذَت أمتعتها ورحلَت، ويوم عدتُ أخيرًا إلى شقّتي، رأيتُ مكتوبًا على مرآة الصالون بواسطة قلَم أحمَر للشفاه: "ألعنُكَ، ألعنُكَ، ألعنُكَ! لن ترى السعادة في هذا البيت يومًا، بل سيأتي "زوّار" إليكَ ليلًا مِن عالَم آخَر ويأخذونكَ إلى مكان رهيب!". خفتُ بالفعل وركضتُ أضَع شقّتي برسم البيع، فحتّى لو لَم تكن سمَر تُمارِس السحر حقًّا، فلدَيها أصدقاء كثُر بإمكانهم أذيّتي بالفعل. يا لغبائي، كيف تزوّجتُ امرأة كهذه؟؟؟
حتّى اليوم، أسألُ نفسي إن كانت سمَر قد فعلَت شيئًا لي لأُحبُّها، لأنّني كنتُ مفتونًا بها بالرغم مِن كلّ شيء. هل هي كانت بالفعل تُمارِس السحر، أو أنّها تدَّعي ذلك لأخذ مال هؤلاء الذين كانوا يأتون إليها، لن أعرف الجواب يومًا. كلّ ما أعرفُه، هو أنّها اختفَت كلّيًّا ولا أحَد يعلَم شيئًا عن مكانها، وهذا أفضَل للجميع.
حاورته بولا جهشان