الكثير مِن الناس يؤمِن بوجود ما يسمّى بالحسَد ولكن في أغلب الأحيان تكون أمور وهميّة لا أساس لها. أمّا في حالتنا كانت الغيرة حقيقيّة وخطرة لدرجة الأذيّة القصوى. وما حصل لنا غيّر حياتنا بأسرها ولم أتخيّل أنّ ما فعلوه هؤلاء الناس بنا موجود خارج الروايات والأفلام.
كل شيء بدأ حين أبلغوا زوجي وهيب أنّه تمّ نقله إلى فرع الخليج لمدّة أدناها خمس سنوات. وعندما عادَ إلى البيت في المساء وزفَّ لي الخبر سالتُه إن كان ينوي فعلاً تركي أنا والأولاد والسفر بعيداً ولكنّه أجابَني:"لن أذهبَ إلى مكان مِن دونكم فأنتم حياتي كلّها." وهكذا حضَّرنا أمتعتنا وسجّلنا أولادنا في مدارسهم الجديدة وودَّعنا الأقارب والأصدقاء ورحَلنا وفي قلوبنا أمل في حياة رجوَنها جميلة. ومع أنَ الإنتقال للعيش في مكان جديد ليس سهلاً تبعتُ زوجي لأنّني كنتُ قد أقسمتُ حين تزوّجتُ أن أبذل جهدي مِن أجل إسعاد وهيب وكذلك فعلَ هو أيضاً. كان يربطنا حبّ كبير وكنّا مستعدَين لمواجهة أصعب المحَن سويّاً.
وأعطَتنا الشركة شقّة جميلة في أحد المجمّعات حيث تعرّفنا على عائلة مِن بلدنا وكان الأب يعمل في نفس القسم الذي نُقِلَ إليه زوجي. وفي ذلك الوقت شكرتُ ربّي أنّني لن أكون وحيدة بل سيكون لي صديقة أتسلّى معها خلال النهار. وبعد بضعة أيّام دعَوتُ جاد وناديا إلى العشاء لنتعرّف عليهما أكثر وأمضَينا وقتاً ممتعاً. ومِن بعدها أصبحوا الأولاد يلعبون مع بعضهم حتى صِرنا كالعائلة الواحدة نأكل تارة عندنا وتارة عندهم ونذهب للسهر سويّاً.
وعندما سألَني أهلي كيف أحوالي حيث أنا، أجبتُهم أنّني أسعد مِن قبل لأنّ حياتي كانت مثاليّة. ولكن لم يكن مكتوباً لنا أن ننعم بهذه السعادة مطوّلاً وذلك فقط لأنّ زوجي كان بارعاً في عمله بينما كان صديقنا جاد أقلّ مهارة بسبب كسله وإتّكاله على غيره. ولم يُخفى هذا الأمر عن المسؤولين في الشركة فحين جاء الوقت لإختيار مدير جديد للفرع فازَ وهيب بالمنصب وهنّائه كل مَن كان يعلم أنّه حقّاً الرجل المناسب. ولكن لم يكن الجميع فرحاً لما حصلَ وأوّلهم جاد الذي أعتبرَ أنّه جاء قبل زوجي إلى الخليج وأنّ لديّه حقّ الأقدميّة.
وفي أوّل فترة لم يظهر عليه أي دليل على إستياءه بل بقيَ هو وزوجته على صلة طيبّة معنا وكأنّ شيئاً لم يحصل. ولكنّ الغضب والغيرة كانت أقوى مِن كل مبادئ اللياقة الإجتماعيّة فتغيّرَت الأحوال بيننا. في البدء كانت أعذاراً وحججاً لعدَمَ رؤيتنا ومِن ثمّ جاء الجفاف. فلم يعد جاد أو ناديا يدعوننا إلى بيتهما أو حتى يدعان أولادنا يلعبون مع أولادهم لَبل وصل الحدّ إلى أن تطردَهم جارتي قائلة: "إذهبوا إلى بيتكم ولا تعودون فليس مرغوب فيكم هنا." وعادَ المساكين باكين إلى المنزل.
لم أصدّق أذنيّ عندما أخبروني بالذي حصل فركضتُ أقرع باب ناديا لأسأل عن الموضوع ولكنّها لم تفتح لي. وعندما عادَ وهيب مِن العمل أطلعتُه على الوضع وإستغربَ كثيراً أن تصل الأمور إلى هنا. وإضاف أنّه لاحظَ على زميله بعض الإمتعاض ولكنّه ظنّ أنّ لديه مشاكل شخصيّة ولم يشأ أن يسأله عنها ووعدَني أن يفاتحه في اليوم التالي. ولكن عندما حاولَ التكلّم مع جاد في الصباح أجابَه هذا الأخير:
ـ ومَن تظنّ نفسكَ؟ ألأنّكَ أصبحتَ مديري تسمح لنفسكَ بالتدخّل بشؤوني؟
ـ لا يا جاد... أنا قبل كلّ شيء صديقكَ... كل ما في الأمر أنّني أراكَ مهموماً وأخبرَتني زوجتي أنّ ناديا طَرَدت أولادنا مِن بيتكم... ما الأمر؟
ـ الأمر هو أنّني أكرهكَ لأنّكَ سلبتَ منّي ترقيَتي فور وصولكَ بعدما قضيتُ سنين أعمل بجهد.
ـ وما دخلي أنا؟ هم إرتأوا أنّني مناسب وهذا كل ما في الأمر.
ـ بهذه البساطة؟ إسمع... لا أريدكَ في حياتي بعد الآن... إبتعد عنّي وعن عائلتي... ولا تكلّمني حتى هنا في العمل.
ـ سأبعد عنكم جميعاً ولكن هنا أنا المدير وسأكلّمكَ حين أشاء لأنّ هذا مكان عمل وعليّ تصريف الأعمال... عليكَ التأقلم بهذا الوضع أو...
ـ أو ماذا؟
ـ أو يمكنكَ الرحيل إن كنتَ منزعجاً إلى هذا الحدّ.
وشعَرَ جاد أنّ عمله وحياته كلّها أصبحَت مهدّدة وأظنّ أنّه قرَّرَ بعد تلك المواجهة أن يستبق الأمور وأن يتصرّف قبل فوات الأوان مع أنّ زوجي لم يكن أبداً ينوي طرده أو حتى مضايقته بل فقط أن يجعله يلتزم بقوانين العمل.
وأعدَّ جارنا خطّة دنيئة تهدف إلى التخلّص مِن زوجي بكل للكلمة مِن معنى. وحتى اليوم وأنا أروي قصّتي يقشعرّ بدَني لمجرّد التفكير أنّ أحد قد ينوي قتل شخصاً آخراً ولسبب كهذا. ولكن وللأسف لا يفكرّ الكلّ مثلي وإلاّ كان العالم بألف خير. وهكذا أصبحَ تفكير جاد مصبوب على الأذيّة لدرجة أنّه لم يعد يتمّم عمله كما يجب ولكنّ وهيب قرّر أن يتفهمّ وضعه إلى حين يهدأ.
وفي ذات يوم إنتظرَه المجرم في المرآب وعندما أوشكَ زوجي على الوصول إلى سيّارته ليعود إلى المنزل أقلعَ جاد في مركبته في سرعة رهيبة وصدَمَه بكل قوّته وفرَّ دون أن ينظر وراءه. بقيَ المسكين زوجي فاقد الوعي على الأرض حتى أن وجدَه أحد وحملَه إلى المستشفى. وحين إتصّلوا بي ليخبروني ما حصل شيء بداخلي قال لي أنّه فعل جارنا الحقود.
وركضتُ كالمجنونة وقيلَ لي أنّ وهيب لم يمت بل أنّه سيبقى كسيحاً لِمدى الحياة. وجلستُ أبكي مِن أجله لأنّ حياته كلّها أخذَت مجرىً مختلفاً ولأنّه سيتعذّب كثيراً حتى أخر أيّامه. وعندما أذِنوا لي برؤيته كان لا يزال نائماً فجلستُ قربه أمسك بيده وأصليّ مِن أجل عافيته. وحين فتحَ عينيه أخيراً سألتُه إن كان قد رأى السيّارة التي صدمَته فقال لي أنّها جاءَت إليه مِن الخلف وطلَبَ منّي أن أخبر الشرطة بأنّ هناكَ كميرات مراقبة في كل أنحاء المرآب.
وهكذا استطاعَت السلطات أن تقبض على جاد لأنّه كان مِن الواضح أنّه لم يكن حادث بل تعمّد. وبالرغم أنّ الحقير لاقى جزاءه فلم يرتاح قلبي بعدما رأيتُ زوجي الحبيب على كرّسي متنقّل. وبالطبع واجهنا أياماً صعبة جدّاً فأصيب وهيب بالكآبة والإحباط خاصة أنّه طالما كان إنسان نشيطاً ورياضيّاً ولكن بمساعدتي ومساعدة طبيب نفسيّ إستطاع الخروج مِن يأسه وقرّرَ معاودة عمله كالسابق. وكانت إدارة الشركة قد حفظَت له مركزه لأنّه كان الوحيد القادر على السهر على سير الأمور.
أمّا بالنسبة لعائلة جاد فأسرعَت ناديا بلمّ أمتعتهم والإنتقال إلى مكان آخر بعيداً عنّي وعن ألسن الناس. ولكن قبل مغادرتها تفاجأتُ بها وهي تدقّ بابنا. وعندما رأيتُها أمامي لم أكن أعرف أيّ موقف آخذه فسبقَتني وقالت:
ـ جئتُ أعتذر منكِ ومنكم جميعاً... لقد حرّضَني جاد عليكم بعدما أخبرَني أكاذيب عديدة جعلَتني أكرهكم بالرغم أنّكم لم تخطؤوا بحقّنا يوماً... ما فعلَه زوجي لا يُغتفر وسأحمل ذنبه إلى الأبد لأنّني كنتُ قادرة على تهدأته لو أردتُ ذلك... سيكبر أولادنا مدركين أنّ أباهم مجرم... وأنا سأختبئ مِن الناس وأنتم... المسكين وهيب سيقضي عمره في كرسي... يا للخَسارة... كل ذلك مِن أجل مركز لم يكن زوجي يستحقّه حتى... يا للخَسارة.
حاورتها بولا جهشان