أقسمُ أنّني لَم أقصدُ أذيّة ذلك الرجُل الطيّب، لكنّ الناس لا يرون سوى السوء في هكذا أمور، ويتسرّعون في الحكم على غيرهم. هل الحقيقة تظهرُ في آخر المطاف وينتصِر الخير على الشرّ؟ ستحصلون على الجواب، على الأقلّ في ما يخصّ قصّتي، بعدما تطّلعون على مُلابسات الحادثة.
كنتُ آنذاك صبيّة في الثامنة عشرة مِن عمري، وأُعاني كثيرًا مِن والدَيّ اللذَين كانا قاسيَين جدًّا معي. فأبي قضى حياته في الجيش، وأمّي إنسانة دخلَت المرارة قلبها بعدما أدركَت أنّها ليست سعيدة في حياتها. في الجانب الآخر، ثنائيّ لَم يُنجِب مؤلّف مِن نادر وتمارا، وكانا قد بلغا الأربعين مِن عمرهما، ويعيشان في الشقّة المُقابلة لنا والموجودة في الطابق الأخير مِن المبنى. وبينما كان نادر إنسانًا هادئًا ومُحبًّا، كانت تمارا صعبة المزاج ومُتسلّطة. فالكلّ في المبنى كان ينتظرُ لحظة ينفجر غضب وامتعاض نادر ويُسكِت أخيرًا مَن أسموها "الفاجرة."
أحبَبتُ هدوء جارنا وحكمته، وتمنَّيتُ لو كان هو أبي بدلاً مِن ذلك الجاف والبارد الذي أنجَبني. للحقيقة، كنتُ أشعرُ بالوحدة، وتمنَّيتُ لو كان لي أخ أو أخت لأتقاسَم معهما أفكاري وأحلامي، ولأزيل عنّي تركيز والدَيّ المُزعج والمُستبدّ. لِذا كنتُ أصعدُ السلالم وأصل إلى "عالمي الخاص"، أي سطح المبنى حيث كنتُ قد جلبتُ كرسيًّا وطاولة صغيرة وراديو، وأجلسُ أستمعُ إلى الموسيقى، بينما أتفرّج على أسطح المباني المُجاورة وعلى الطيور القابعة على أسلاك الكهرباء.
وجَدَ نادر مَخبئي حين صعدَ ذات اليوم إلى السطح ليُدخّن غليونه على سجّيته، فلقد كانت زوجته تتذمّر مِن الرائحة حتى لو أنّه يخرجُ إلى الشرفة ليُدخّن. وحين رآني، ابتسَمَ لي جاري قائلاً:
ـ أنتِ أيضًا هاربة مِن أحد؟
ـ أجل، مِن الصّراخ والعتاب والتنمّر المجّانيّ. وأنتَ، مِن تمارا؟
ـ للأسف... فمِن الواضح أنّني غير قادر على إرضائها مهما فعلتُ. أعذريني، فلا يجدرُ بي إخباركِ بأمور خاصّة بالبالغين.
ـ لستُ فتاة صغيرة بل صرتُ راشدة! على كلّ الأحوال، الجميع على علم بِطباع زوجتكَ.
ثمّ سكتنا، أنا أكملتُ الاستماع إلى الموسيقى وهو دخَّنَ غليونه. وبدأنا نلتقي مِن دون موعد مرّات عديدة في الأسبوع، الأمر الذي ساعدَني على تحمّل حياتي العائليّة. ففي كلّ مرّة كان نادر يحملُني على الصبر والمُثابرة وكنتُ شاكرة له. لا أحد كان يعلَم بِجلساتنا ولَم يُخبِر أيّ منّا ذويه، فكان ذلك سرّنا الصغير.
وفي أحد الأيّام، قال لي نادر إنّ زوجته تُريدُ الطلاق، إلا أنّه رفَضَ رفضًا قاطعًا لأنّه آمَنَ بأنّ الحب الذي جمعهما في ما مضى كان لا يزال موجودًا في مكان ما. وافقتُه علنًا، إلا أنّني فكّرتُ ضمنًا أنّه سيكون بأفضل حال مِن دونها. كنتُ أكنُّ لجاري معزّة خاصّة بعيدة كلّ البُعد عن أيّ شعور آخر، أوّلاً بسبب فارق السنّ بيننا، فهو كان بسنّ أبي، وثانيًا لأنّه كان يُمثّل بالنسبة لي الرّجُل المثاليّ مِن حيث هدوئه وتفهّمه. ونادر مِن جانبه، إعتبرَني بمثابة الابنة التي لَم تولَد له، فأعطاني الحنان والاهتمام اللذَين كانا في قلبه.
لكنّ معظم الناس ليس بمقدورهم فَهم براءة وجمال هكذا علاقة، ووقعَت المصيبة يوم صعِدَت أمّي إلى السطح لِنشر غسيلها في غير موعدها المُعتاد. وفي تلك اللحظة بالذات، كنتُ في حالة نفسيّة يُرثى لها، بعد أن منعَني أبي مِن دخول الجامعة لأنّه لا يرى وجوبًا لذلك. واساني نادر فعانقتُه باكيةً وهو وضَعَ يدَه على رأسي لِتهدئتي. وهذا المشهد بالذات هو ما رأَته والدتي. عندها هي صرخَت بنادر عاليًا بأن يتركَني على الفور، ونعَتَته بالشاذ والمُنحرف والمهووس جنسيًّا. حاولتُ طبعًا الدفاع عن جاري، لكنّ أمّي أمسكَتني مِن ذراعي وشدَّتني نزولاً على السلالم لِتُدخلني شقّتنا وتصفعني بقوّة صارخة: "أيّتها الفاسقة!". حبستُ نفسي في غرفتي وبكيتُ حتى الصباح. كنتُ أعي أنّني لن أحظى بعد ذلك برفقة جاري الثمينة، وأنّني سأعودُ إلى وحدتي وسط أبوَين لا يعرفان كيف عليهم مُعاملة ابنتهم المُراهقة. لكنّني لَم أشكّ أبدًا أنّ ما حدَث ستكون له تداعيات جسيمة عليّ وعلى نادر.
فأوّل شيء فعلَته والدتي "الحبيبة" كان إخبار أبي بالذي رأَته. قد تقولون إنّ ذلك ردّة فعل طبيعيّة لأيّ أمّ، إلا أنّها كانت تعرف طباعه وطريقة تأديبه لي العنيفة. الشيء الثاني كان اطلاعها تمارا على أنّ زوجها مُتحرّش وأنّ عليها لجمه عنّي، عالمةً تمام العِلم أنّ الأمور بين الثنائيّ بلغَت حدًّا صعبًا للغاية. في كلمة، بثًّت المرأة التي ولدَتني سمّها حولها... وعمَّت الفوضى.
إغتنمَت تمارا ذلك الظرف طبعًا لِتضغط على زوجها لِنَيل الطلاق مع المُطالبة بمبالغ طائلة مهدّدةً بفضحه علنًا، وهو رأى نفسه مُجبرًا على تلبية كلّ أمنياتها. شعَرَ نادر بالظلم، وحسبتُه نادمًا على مدّ يَد المُساعدة لي. يا إلهي، لماذا قمتُ بتلك المُعانقة؟!؟
أنا أيضًا دفعتُ الثمَن، فقد قرَّرَ والدي، إلى جانب مَنعي مِن دخول الجامعة، أنّ عليّ أن أتزوّج وبأسرع وقت، فبنظره كنتُ "إنسانة جامحة ولدَيّ رغبات مُعيبة وخطيرة". صرختُ وبكيتُ، وانتهى بي المطاف بالهروب إلى عمّتي في البلدة، فتلك المرأة كانت قد عانَت مِن طباع أخيها، وتكنّ لي مودّة خاصّة كونها تعرفُ تمامًا كَم أنا مظلومة معه. حاوَلَ والدايَ إرجاعي إلى البيت إلا أنّني هدّدتُهما بإنهاء حياتي لو أخذاني مِن عمّتي. ولأنّهما خافا أن يُوبّخهما ضميرهما إن قتلتُ نفسي، ولأنّهما وجدا أنّ فضيحتي ستكون أقلّ وطأة وأنا بعيدة عنهما، قبلا بأن أعيش في القرية.
إنتقَلَ نادر مِن المبنى بعد أن صارَ يسمعُ التلميحات المُزعجة مِن جانب السكّان، ولَم أعُد أعرفُ شيئًا عنه.
حياتي مع عمّتي كانت جميلة وهادئة مثلها. وهي علّمَتني كلّ ما تعرفُه في مجال الطهو، لِدرجة أنّني صرتُ مُحترفة. فتبّينَ أنّ لدَيّ ذوق رفيع بتحضير المأكولات، والقدرة والخيال لابتكار أطعمة جديدة. وذلك بالذات ما دفعَني إلى دخول مدرسة فندقيّة في المدينة المُجاورة للبلدة. تعبتُ كثيرًا بسبب طول المسافة وصعوبة المواصلات، لكنّني ثابرتُ وتعلّمتُ مِن دون كلَل. عمّتي دفعَت لي أقساط المدرسة، ومِن ثمّ اشتركتُ بالتكاليف حين وجدتُ عملاً بسيطًا في مقهى مُجاور للمدرسة.
سألَ والدايَ عنّي عبر الهاتف لكن دائمًا بِتعابير مُزعجة، فلَم يهمّهما إن كنتُ سعيدة أم لا، بل إن كنتُ أتصرّف كما يجب وحسب الأصول. على كلّ الأحوال لَم يعُد يهمّني الأمر، فعمّتي أعطَتني الحنان الذي كنتُ بحاجة إليه، والمدرسة الهدَف الذي بحثتُ عنه في حياتي. تخرّجتُ بدرجة امتياز ووجدتُ عمَلاً في العاصمة. ودّعتُ باكية التي ساعدَتني على إيجاد طريقي في الحياة ورحتُ أكوّن مُستقبلي.
أحبَبتُ عمَلي في المطعم، إذ أنّه كان فخمًا للغاية. ومع أنّ مهامي فيه كانت بسيطة، رأيتُ بوضوح الإمكانات الموجودة. مرَّت السنوات وصعدتُ درجات الترقّي، لأنّني لَم أتعَب أو أتذمَّر، بل قضيتُ وقتي أتعلّم مِن الذين كانوا يفوقوني خبرة. لكنّني بقيتُ أتساءَل عمّا حلَّ بِنادر وإلى أيّ مدى دمَّرتُ حياته.
وذات يوم رأيتُه جالسًا إلى إحدى طاولات المطعم! كنتُ كالعادة أسترِقُ النظَر لأرى عدَد الزبائن في الصالة... ولَم أصدّق عَينَيّ! كان برفقة سيّدة جميلة وبانَ فرِحًا وسعيدًا بها. طلبتُ الأذن بِخلع زيّي وإلقاء التحيّة على صديق قديم، ولَم يُرفَض طلبَي فلطالما كنتُ طاهية هادئة وجدّيّة.
وقفتُ أمام نادر مُبتسمة، وهو نظَرَ إليّ بِتمعّن لأنّ شكلي قد تغيّر عبر السنوات. كان هو نفسه ما عدا الشَيب الذي انتشَرَ في شعره. ثمّ صرَخَ جاري القديم إسمي وضحِكَ لكثرة فرحه بي. عرّفَني بالسيّدة قائلاً: "زوجتي... وأمّ ابني الحبيب". إمتلأت عَينايَ بالدّموع، فحتى ذلك الحين لَم أكن أعلَمُ شيئًا عن مصيره، بعد أن تسبّبتُ له بالعار مِن غير قصد. ثمّ أضافَ نادر:
ـ زوجتي تعرفُ القصّة بأكملها... وأقولُ لها دائماً إنّني لن أشكركِ كفاية على ما حصل. في البدء عانَيتُ كثيرًا مِن التداعيات، فلقد اضطرِرتُ للانتقال والبدء مِن جديد في مكان آخر، بعد أن أخذَت تمارا كلّ ما أملُك. ولكنّ تلك البداية كانت بالفعل مُباركة، فوجدتُ عملاً يُناسبُني أكثر وحبيبة، ولاحقًا زوجة رائعة أعَطتني ولدًا لَم أحلَم بِرؤيته يومًا. فهي كانت زميلتي في العمل، وأظنُّ أنّ القدر هو الذي دفَعكِ إلى معانقتي في ذلك اليوم على سطح المبنى، الأمر الذي حمَلَ والدتكِ على رؤيتنا. فأنا أؤمن أنّ لحدوث الأمور هدفًا، وكلّ ما علينا فعله هو الاستفادة إيجابًا مِن تلك التغيّرات. أرى أنّكِ أيضًا بحالة جيدّة، لِما لا تزورينا في البيت وتروي لنا ما حصَلَ لكِ خلال تلك السنوات؟.
صِرتُ صديقة العائلة، وصارَ نادر وزوجته وابنه عائلتي الثانية. ولأنّ الحياة تُخبّئ لنا المُفاجآت، تمامًا كما قالَ نادر، حصَلَ أن أحبَبتُ أحد أصدقائه الذي رأيتُه مرارًا في داره. هو أيضًا أحبَّني، خاصّة بعدما تغنّى بي نادر وزوجته، فانتهى بنا المطاف زوجَين سعيدَين.
لَم أترُك عمَلي، فكنتُ قد تعِبتُ لبلوغ منصبي، بل صرتُ مسؤولة عن مطبخ المطعم ولدَيّ أطباقي الخاصّة. علاقتي بوالدَيّ تحسنَت بعض الشيء خاصّة بعد زواجي، إلا أنّ قلبي كلّه وعاطفتي هي لعمّتي الحبيبة التي أنقذَتني، وأعطَت لحياتي مسارًا جديدًا قادَني إلى ما أنا عليه الآن. فلولا تعليمها إيّاي الطهو وذهابي إلى المدرسة وعمَلي في ذلك المطعم، لمَا رأيتُ نادر وارتاحَ بالي، وصرتُ صديقة عائلته وتعرّفتُ عنده إلى زوجي! بالفعل أحداث حياتنا مُرتبطة ببعضها.
حاورتها بولا جهشان