توفّي زوجي الحبيب في سنّ مُبكِّر، لكنّني عشتُ معه سنينًا طويلة وجميلة. هو أعطاني كلّ حبّه واهتمامه ووقته، ولَم أسمَع يومًا، على الأقل مِن حولي، بِزوج بهذه الخصال الحميدة. إلا أنّنا لَم نُنجِب بسبب حالة خاصّة كان يُعاني منها، لَم أعرِف حقيقتها إلا حين اضطُرِرِنا لزيارة طبيب في العاصمة. كان الطبّ آنذاك لا يزال بدائيًّا في مجال الحالات الخاصّة، وعلِمتُ لاحقًا أنّ عماد زوجي كان قد رأى أخصائيًّا حين كان يعيشُ في الغُربة. هو لَم يُطلعَني على عدَم قدرته على الإنجاب إلا حين أصرَّيتُ، بعد ثلاث سنوات مِن الانتظار، أن نُجري الفحوصات اللازمة. لا أدري لماذا، لكنّني شعرتُ أنّ الخطَب كان منه وليس منّي، وهو حدس دفين سكَن قلبي على الدوام. وكنتُ على حقّ، لكنّني لَم أشكّ ولو للحظة بما كان بالفعل سبب عقم زوجي. وستتفاجؤون مثلي تمامًا لدى قراءتكم باقي القصة.
أوّلاً دعوني أخبرُكم بأيّة ظروف تعرّفتُ إلى الذي كان سيُصبحُ زوجي. كنتُ آنذاك أعيشُ وعائلتي في القرية وألعبُ مع أولاد جيراننا على صعيد يوميّ. كنّا زمرة بنات وصبيان، وكانت لعبتنا المُفضّلة هي الكرة التي كنّا نرميها على بعضنا لنلحَق بالذي أُصيبَ بها حتى نمسك به. وعماد كان أحَد أفراد الزمرة إلا أنّني نسيتُ كليًّا أنّه كان رفيقي في اللعب. مرَّت السنوات بشكل هادئ وهنيّ للغاية، وصرتُ صبيّة جميلة وتقدَّمَ لي ابن جيراننا، عماد. هو كان قد سافَرَ مع أهله قَبل سنوات إلى الخارج حيث درَسَ وعمِلَ، وقرَّرَ أن يختار عروسًا مِن بلاده ليعود بها إلى الغربة. أُعجِبتُ بذلك الشاب الوسيم والقويّ البنية والتي تُزيّنُ وجهه لحية جميلة وكثيفة. تذكّرتُ أخته ريما جيّدًا التي لعبتُ معها، لكنّه زفَّ لي خبَر موتها في الخارج بعد أن أُصيبَت بمرض سريع وفتّاك. حزنتُ مِن أجلها مع أنّني لَم أرَها كثيرًا، فهي غادرَت البلَد ونحن صغار. وبالرغم مِن مُحاولاتي، لَم أتذكّر أبدًا أنّني لعبتُ مع عماد، مع أنّه أعطاني تفاصيل دقيقة عن تلك الحقبة. قبلتُ به زوجًا شرط ألا أُسافر، فتَرك بلدي وعائلتي لَم يكن واردًا. إحتارَ عريسي في أمره وقرَّرَ أخيرًا أن يستجيب لطلبي. لكنّ عودته كانت تتطلّب وقتًا لا بأس به، ولَم أُمانع الانتظار. وبعد حوالي الأربع سنوات، رجِعَ عماد وتزوّجنا. أحبَبنا بعضنا كثيرًا إلى حين بدأ موضوع الإنجاب يُثيرُ الخلافات بيننا. فزوجي لَم يكن يُبالي إن صارَ لدَينا ولد أم لا، بِعكسي.
لِنعُد الآن إلى اليوم الذي رافقتُ فيه عماد إلى الطبيب... دخلنا العيادة وجلستُ على كرسيّ قُبالة سرير الكشف، بينما طلَبَ الطبيب مِن زوجي خلع ملابسه ليفحصه قبل أن يُعطينا الفحوصات المخبريّة اللازمة لكلَينا. أزاحَ الأخصائيّ ستارًا بيني وبين زوجي، لكنّني بقيتُ أرى ظلّهما بوضوح بفضل النافذة التي تُنيرُهما. ورأيتُ الطبيب يتوقّف فجأة عن تفحّص عماد وسمعتُ زوجي يهمسُ له: "لا تقُل شيئًا أرجوكَ". بدأ قلبي يدقُّ بقوّة، فكان هناك خطب ما، بالتأكيد. تابعَ الطبيب عمَله بصمت، ثمّ خرَجَ الرجلان مِن وراء الستار وقال لي الدكتور:
- ما مِن داعٍ للفحوصات سيّدتي، فزوجَكِ... يُعاني مِن خطب خُلقي يمنعُه مِن الإنجاب. عليكما أن تعتادا على فكرة العَيش مِن دون أولاد. أوّدُ فقط إضافة شيء مُهمّ: كان على السيّد عماد اطلاعكِ على حالته قبل الزواج. أليس كذلك يا... سيّدي؟
إحمَّر وجه عماد وسكَتَ واكتفى بهزّ رأسه. أسرعتُ بالخروج مِن العيادة لأعرف حقًّا ما يجري، فلَم أكن يومًا غبيّة. طلَبَ منّي عماد الانتظار حتى نصل إلى البيت فعُدنا صامتَين. جلسنا في الصالون حيث بدَت على زوجي علامات إرباك لَم أرَ مثله. وعدتُه بأنّني سأتفهّم أيّ شيء يقوله لي، لكنّه أجابَ:
ـ لستُ مُتأكّدًا مِن أنّكِ ستتفهّمين الموضوع بالفعل... يا ربّي ساعدني!
ـ تكلّم يا حبيبي، فأنا أحبُّكَ فوق كلّ شيء!
ـ لن تُحبّيني بعد سماع قصّتي.
ـ دَعني أحكمُ على الأمر بنفسي. ما الذي عناه الطبيب؟ وهل كنتَ تعلَم بأمر عقركَ قبل أن نتزوّج؟
ـ أجل... لكن حبّي لكِ منعَني مِن الكلام. سامحيني أرجوكِ!
ـ ما سبَب عقركَ؟
ـ أنا... أنا... لَم أكن دومًا كما تعرفيني الآن.
ـ ماذا تعني؟
ـ تبًا لهذا الطبيب اللعين! لماذا قبِلتُ أن أذهب معكِ إليه؟!؟
ـ بدأ صبري ينفذ يا حبيبي!
ـ أنا ريما.
ـ ريما؟ مَن ريما؟ وكيف تكون ريما؟!؟
ـ أنا أختي.
ـ هل فقدتَ عقلكَ؟ كيف تكون أختكَ؟!؟ هل تُراوغ لأنسى موضوع العقم؟
ـ أنا الفتاة التي كنتِ تلعبين معها بالكرة في القرية. أنا ريما التي سافرَت مع ذويها إلى الخارج. رحتُ فتاة وعدتُ شابًّا.
ـ كيف؟ فتاة؟!؟ أنتَ تمزَح حتمًا! كيف يُمكن ذلك؟ لدَيكَ لحية وصوت غرش... وعضو ذكريّ!
ـ هل رأيتِني يومًا مِن دون ملابس؟ أنسيت إصراري على إطفاء الضوء كلّما... كنّا في السرير؟
ـ لا... ردَدتُ الأمر إلى حشمتكَ. هل تعني أنّ...
ـ لو رأيتِني بالفعل عن قرب، لرأيتِ ما رآه الطبيب.
ـ لا أُصدّقُكَ! لا! لا!
ـ إسمعي... أنا ضحيّة خطب خُلقيّ، فلقد ولِدتُ ما بين الأنثى والذكر. دعيني أتكلّم بمنتهى الدقّة ولو أزعجَتكِ التفاصيل. عندما أبصرتُ النور، كانت لدَي أعضاء تناسليّة أنثويّة كأيّ بنت أخرى وأسموني "ريما". لكن مع الوقت، وأنا مُتأكّد مِن أنّكِ تتذكّرين ذلك، صرتُ كبير البنية وغرشَ الصوت بعض الشيء.
ـ صحيح ذلك، وكنّا ورفاقي نُسمّي ريما "حسَن صبي، حسن بنت" لأنّها كانت تهوى اللعب الخشن ولا تخشى المُغامرة، ناهيكَ عن لبسها الصبيانيّ.
ـ تمامًا... لكن هناك المزيد. بدأتُ أشعُر، وباستمرار، بألم حاد في أسفل بطني، وأخذَني أهلي إلى أطبّاء عديدين. لكنّ الطبّ لَم يكن بعد قد تطوّرَ مِن حيث فحوصات الأشعّة الدقيقة ولَم يروا ما كان مخفيًّا في بطني.
ـ عمّا تتكلّم؟
ـ للحقيقة، كان لدَيّ عضو ذكريّ داخل جسدي.
ـ أيّ كان لدَيكَ عضوان؟!؟
ـ صحيح ذلك. والعضو الأساسيّ كان الذي في بطني، أيّ أنّني كنتُ بالفعل صبيًّا أملكُ عضوّ بنت. ثمّ بدأ ينمو الشعر في وجهي وعلى صدري، وفهِمَ أخيرًا أحَد الأطبّاء أنّني أُعاني مِن حالة نادرة. والحلّ الوحيد كان إجراء عمليّة جراحيّة مُعقّدة وخطيرة، لكن خارج البلاد.
ـ ولهذا السبب تركتم البلد وسافرتم.
ـ تمامًا. لقد عانَيتُ كثيرًا مِن تلك العمليّة ومِن التداعيات النفسيّة، فلقد أصبحتُ صبيًّا بينما كنتُ إلى ذلك الحين أعتقدُ نفسي بنتًا. أُعطَيَت لي الهرمونات المُناسبة وعلاج طويل ومُتعِب، لكن في آخر المطاف، أصبحتُ ما كان عليّ أن أكون: رجُلاً. لكنّني لستُ قادرًا على الإنجاب، وأنا آسف لي ولكِ على ذلك. لقد تركَت العمليّة أثارًا واضحة، وعمِلتُ جهدي ألا يراني أحد مِن دون ملابس. أعرفُ أنّ ما عرفتِه الآن ثقيل عليكِ، وسأتفهّم تمامًا إن طلبتِ منّي الطلاق. لكن اعرفي أنّني لطالما كنتُ معجبًا بكِ، أي مِن حين كنتُ ريما، إلا أنّني لَم أفهَم شعوري تجاهكِ آنذاك وأسمَيتُها صداقة لا أكثر. أحبُّكِ لدرجة لا توصَف، والعَيش مِن دونكِ سيكون أصعَب مِن كلّ الذي عانَيتُه، لكنّني لن ألومكِ على أيّ قرار تتخذينه بشأني. إعلمي فقط أنّني لستُ مسخًا بل إنسان وُلِدَ بتشوّه جنسيّ، خطأ مِن الطبيعة ليس عليّ دفع ثمنه. أنا ضحيّة، تمامًا كما يكون مَن يولَد مِن دون ذراع أو ساق. سامحيني لأنّني أخفَيتُ الحقيقة عنكِ، لكن لَم أستطِع الإفصاح عن وضعي خوفًا مِن خسارتكِ. وقبل أن تتّخذي قراركِ، فكّري بعلاقتنا الجميلة والحبّ اللامُتناهي الذي أكنُّه لكِ.
رحتُ أبكي في غرفتي، لأنّ زوجي كان بنتًا في ما مضى، ولَم أعُد قادرة على إستيعاب مَن هو بالفعل. أخَذَ عماد أمتعته وراحَ يسكن في الفندق، وأشكرُه لأنّه أعطاني المساحة اللازمة لأكون لوحدي وأفكّرُ بالأمر على سجيّتي. لكنّه بقيَ يتّصلُ بي مِن وقت لآخر ليطمئنّ عليّ، وكلّما سمعتُ صوته الدافئ وكلامه المُشجّع، نسيتُ لِبرهة أنّه كان في ما مضى فتاة اسمها ريما.
رحتُ أستشيرُ رجُل دين، وبعد أن أخبرتُه كلّ القصّة، هذا ما قالَه لي:
- ما حصَلَ لعماد هو بالفعل خطأ خُلقيّ، فهو لَم يُغيّر جنسه طوعًا بل لضرورة طبّيّة، ولو لَم يجرِ تلك العمليّة لكان ربما مرضَ أو مات. هو لَم يعمَل ضدّ إرادة الله بل صحّحَ خطَبًا بيولوجيًّا كما قد يفعل شخص يُعاني مِن حالة مرضيّة خطيرة. لو غيّرَ جنسه مِن دون ضرورة صحيّة وبيولوجيّة، كنتُ سأقولُ لكِ إنّه عمِلَ ضدّ إرادة الخالق، لكنّني لا أرى أيّ إثم بالذي حدَثَ له فزوجكِ هو مِن الأوّل رجُل. يبقى أن تُقرّري إن كنتِ قادرة على إستيعاب تلك الحقيقة. لا تُركّزي على ماضيه، بل فكّري في أنّه بالفعل رجُل يقومُ بكامل واجباته الزوجيّة تجاهكِ، إن كانت جسديّة أم عاطفيّة أم مادّيّة. وإن كنتِ تحبّينه بالفعل، لا تُضيعي فرصتكِ بالسعادة حتى لو عنى ذلك عدَم الإنجاب. فكَم مِن مرأة لدَيها العديد مِن الأولاد وتعيشُ مع زوج يخونُها أو يُسيء مُعاملتها نفسيًّا وجسديًّا؟ القرار قراركِ وحدكِ.
كلام الرجُل أراحَني، فكنتُ خائفة مِن فقدان عماد الذي بالفعل أحبَبتُه. إتّصلتُ بزوجي وقلتُ له:
- سأحتاج إلى الكثير مِن الوقت ولستُ مُتأكّدة مِن أنّ زواجنا سيستمرّ، إلا أنّني مُستعدّة للمُحاولة. أنا بحاجة إلى دعمكَ وحبّكَ وصبركَ.
ولحظة عادَ عماد إلى البيت وعانقَني، نسيتُ ريما وقصّتها، فهو كان بالفعل رجُلاً ويُساوي رجالاً عديدين. مرَّت أيّام صعبة عليّ حين كنتُ أتذكّر ريما، لكنّني كنتُ أُسرعُ بطرد تلك الأفكار مِن رأسي. ومع الوقت، صارَت ريما شبحًا مِن الماضي لا وجود لها. على كلّ الأحوال، هي لَم توجَد قط، لأنّ زوجي كان مِن الأوّل ذكرًا وبقيَ هكذا. عشتُ أيّامًا سعيدة وهنيئة مع عماد، ولَم آسف أبدًا على عدَم الإنجاب، فحبّه لي ملأ حياتي بالكامل. رحمكَ الله يا حبيبي.
حاورتها بولا جهشان