لَم أكن أنوي الزواج، على الأقل في تلك المرحلة بالذات، فكنتُ قد نلتُ شهادتي الجامعيّة للتوّ، وأُريدُ دخول مُعترك العمَل والإختلاط مع الناس. إلا أنّ جمالي جلَبَ لي عددًا كبيرًا مِن العرسان، وصارَ أهلي يُصرّون عليّ لإختيار أحدهم. وحين تقدَّمَ لي وهيب، رفضتُه على الفور. إلا أنّ أمّي أقنعَتني بأن أُحاول على الأقل مواعدته والتعرّف إليه أكثر. فالجدير بالذكر أنّ ذلك الرجل كان ثريًّا ويسكنُ في القارة السوداء حيث يُديرُ أعماله. في كلمة، كان العريس المثاليّ لأي صبيّة.
أعترفُ أنّ لياقة وكرَم وهيب أثّرا على قراري، فهو أغرقَني بالهدايا وأخذَني إلى أفخَم الأماكن والمطاعم. صحيح أنّنا لَم نكن فقراء لكنّنا لَم نملُك الكثير، بل فعَلنا جهدنا دائمًا لِتوفير القرش تحسّبًا للأسوأ.
إضافة إلى ذلك، برهَن وهيب عن حرص شديد لإرضائي وإفراحي، وأحبَبتُ شخصيّته القويّة التي يتحلّى بها كلّ رجل ناجح. وبعد أشهر قليلة، تمّ الزواج ومكثنا في فندق راقٍ إلى حين تجهيز أوراقي. ودّعتُ أهلي وأصحابي وطرتُ إلى ذلك البلد الغريب عنّي بِلغته وثقافته وعاداته. لكنّني كنتُ مُطمئنّة لوجود وهيب معي، فهو كان سيعرفُ كيف يحملُني على حبّ موطني الجديد.
توجّهنا إلى بيت وهيب، ولحظة ما دخلتُ، رأيتُ واقفة أمامي إمرأة أفريقيّة تنظرُ إليّ بِتمعّن. ألقَيتُ التحيّة عليها بِتهذيب وأعطَيتُها حقيبتي لِتحملها إلى الغرفة الزوجيّة. إلا أنّها وضعَتها أرضًا ونادَت صبيّة أفريقيّة أخرى وكلّمَتها بِلغتها. أخذَت الأخرى الحقيبة واختفَت في البيت. عندها تدخَّلَ زوجي قائلاً:
ـ أديسا ليست عاملة، بل فقط الأخرى.
ـ ومَن تكون أديسا؟
ـ هي تعيشُ معي... لِنقُل إنّها زوجتي، فلقد اتّفقتُ مع أبيها على كلّ شيء.
ـ ماذا؟!؟ أنا زوجتكَ!
ـ أجل، أجل... وهي أيضًا، على الأقلّ في عُرفهم.
ـ أُريدُها أن ترحَل الآن!
ـ ستعتادين عليها سريعًا، سترَين. أديسا لطيفة للغاية.
ـ قُل لي إنّكَ تمزَح! لا يمكن أن يكون ما أسمعُه صحيحًا!
وضحِكت أديسا عاليًا ثمّ قالَت لي بالعربيّة:
ـ هو تزوّجكَ فقط كي تُنجبي له، لكنّه يُحبّني أنا!
شعرتُ وكأنّني في كابوس مُخيف، إلا أنّني عدتُ وأدركتُ أنّ ما يدورُ هو فعلاً الواقع. ركضتُ إلى الغرفة لأبكي وسمعتُ وهيب وهو يقول لِعشيقته: "لا تقسي عليها... اُريدُ إبنًا ومِن ثمّ سنرى".
يا إلهي... هذا كان غرَضه الوحيد مِن الزواج منّي! كيف لي أن أعيشَ مع إمرأة أخرى وأتقاسم معها زوجي؟
لَم يدخُل وهيب غرفة النوم بل قضى ليلته حتمًا مع أديسا، وتخيّلتُ ما فعلاه وكيف أنّهما سخِرا منّي. قرّرتُ الرحيل وبأسرع وقت حين تذكّرتُ أنّ جواز سفَري كان لا يزال مع وهيب، فكانت تلك أوّل سَفرة لي وهو إهتمّ بكلّ شيء في المطار.
في الصباح رأيتُ وهيب جالسًا مع إمرأته الأُخرى يتناولان الفطور، بينما العاملة تضَع لهما الأطباق على الطاولة. لَم آكل شيئًا لأُفهِمهما أنّني لستُ موافقة على الوضع، فانتظرتُ زوجي في الصالون لأقول له:
ـ أعطِني جواز سفَري، أُريدُ المُغادرة.
ـ لن يحصل ذلك، فأنتِ زوجتي وعليكِ القيام بواجباتكِ.
ـ هناك مَن يقومُ بها عنّي!
ـ أعنّي الإنجاب. فلقد استثمرتُ الكثير بكِ مِن هدايا ومُجوهرات ومبالغ لأهلكِ.
ـ أعطَيتَ مالاً لأهلي؟
ـ بشكل هدّيّة طبعًا... لنقُل إنّه حافز لهم ليقنعوكِ بي. فأنتِ جميلة للغاية وستُنجبين لي ولدًا وسيمًا.
ـ وإن لَم أفعَل؟
ـ ستبقين هنا إلى حين أصبحُ أبًا.
ـ ولِما لا تُنجبُ لكَ عشيقتكَ إبنًا؟
ـ لستُ عنصريًّا لكن أودّ ولدًا مِن عرقي. إضافة إلى ذلك، أُذكّركِ بأنّها ليست زوجتي شرعًا بل أخذتُها مِن أبيها مُقابل... بعض الخدمات التي تبيّنَت أنّها مُثمرة للغاية.
ـ هل كلّ ما تفعله تُقابلُه منفعة لكَ؟
ـ أجل.
كان لا بدّ أن يعرفَ أهلي بالذي يحصلُ لي، إلا أنّني لَم أستطِع الإتّصال بهم لأنّ جوّالي إختفى! بحثتُ عنه في كلّ مكان إلى حين رأيتُ أديسا واقفة عند باب غرفتي وهي تلوّحُ بِهاتفي. قالَت لي:
ـ كلّما أسرعتِ بالإنجاب والولادة كلّما انتهَت المسألة بسرعة. وإلى ذلك الحين، سأحتفِظ بِهاتفكِ، فإن رحلتِ الآن، سيأتي وهيب بزوجة أخرى ولا أُريدُها أن تكون قويّة وذكيّة على خلافكِ.
بكيتُ مُجدّدًا فلَم أتصوّر زواجي هكذا أبدًا، لكن عدتُ وقلتُ لنفسي إنّ أهلي سيودّون حتمًا الإطمئنان عليّ، خاصّة بعدما ينشغلُ بالهم على عدَم إجرائي أيّة مُكالمة معهم منذ وصولي. فانتظرتُ... وانتظرتُ. ما بالهم؟ ألا يُريدُ أحدٌ معرفة إن كنتُ سعيدة مع ذلك الرجل أو في ذلك البلَد الغريب؟!؟ وقرأ وهيب أفكاري يومًا حين قال لي:
ـ ما بالكِ لا تدَعيني ألمسَكِ؟ هل ستبقين على حالكِ إلى الأبد؟ إن كنتِ تظنيّن أنّني سأستسلِم فإنّكِ مُخطئة يا عزيزتي... وإن كنتِ تنتظرين أيّ تدخّل مِن قِبَل ذويكِ فأنا أُعطيهم أخباركِ بشكل شبه يوميّ، بعدما قلتُ لهم إنّكِ مشغولة للغاية في ترتيب بيتكِ الجديد وفي التسوّق والتعرّف إلى الجالية هنا.
ـ لا أحد مشغول لِدرجة عدَم الإجابة على اتّصال... سيُفضَح أمركَ يا وهيب... وأمر تلك الجارية!
ـ هي ليست جارية بل إبنة رجُل مهمّ في البلَد. قولي لي... مَن هو أبوكِ؟
ـ المراكز ليست مُهمّة يا أستاذ... أبي ربّاني جيّدًا فهو لن يُسلمّني لِشخص أعيشُ معه مِن دون زواج!
وفجأة ظهَرت أديسا التي كانت تستمِع إلى حديثنا وصفعَتني بكلّ قوّتها. أطلقتُ صرخة عالية فأسكتَني وهيب قائلاً: "إخفي صوتكِ وإلا سمعَتكِ جارتنا الفضوليّة".
وهذه الجملة بالذات هي التي أنقذَتني. فكنتُ قد لمَحتُ المرأة التي يتكلّم زوجي عنها مِن شبّاك غرفتي. بدَت لي تلك السيّدة التي تسكنُ البيت المُحاذي لِبيتنا أوروبيّة أو أميركيّة، ورأيتُها وهي تنظرُ إليّ وكأنّها تودّ فَتح حديث معي. لِذا قرّرتُ إنتظار اللحظة المُناسبة لِلَفت انتباهها وطلَب مُساعدتها.
وبعد أيّام مِن المُراقبة، رأيتُ جارتي تخرجُ إلى حديقتها بينما وهيب في عمَله وأديسا في الحمّام تستحمّ. فتحتُ الشبّاك وهمستُ للمرأة بالإنكليزيّة:
ـ النجدة... زوجي يحبسُني في المنزل... ليس لدَيّ سواكِ!
لَم تُجِب المرأة، وحزِنتُ للغاية حين رأيتُها تقطفُ بعض الورود وتدخل بيتها. جلستُ على السرير لأبكي على الذي يحصُلُ لي، وخطَرَ ببالي أنّ الحلّ الوحيد هو إعطاء وهيب ولَدًا لِتنتهي متاعبي. لكن كيف لي أن أترك إبني أو إبنتي والسفَر بعيدًا؟ فكان مِن الواضح أنّ زوجي سيأخذُ ولدَه ويتخلّص منّي بِسرعة.
خرجتُ إلى الصالون حين سمعتُ جرَس البيت، وكانت تلك أوّل مرّة يزورُنا أحد منذ وصولي. رحتُ أفتَح بنفسي، فالعاملة كانت مُنهمكة في المطبخ. ورأيتُ الجارة الأجنبيّة واقفة أمامي وبِيَدها باقة مِن الورود مُبتسمةً لي إبتسامة عريضة. هي نظرَت داخل البيت ثمّ صرخَت لي فجأة:
ـ تعالي وانظري إلى حديقتي الجميلة! هيّا!
وسحبَتني المرأة مِن ذراعي وركضَت بي خارجًا! في اللحظة نفسها أطلَّت أديسا وبدأَت تركض وراءنا. إلا أنّنا دخَلنا سيّارة الجارة التي كانت مركونة قرب مدخل البيت، وأقلعَت المرأة بي بسرعة فائقة قائلة: "لن أدَعَ أيّ رجل يحبسُكِ يا صغيرتي... قولي لي مِن أيّ بلَد أنتِ فعلينا أن نقصد سفارتكِ قبل موعد الإقفال". لكنّ السفارة كانت مُقفلة فرُحنا إلى منزل صديقة جارتي حيث رويتُ القصّة بكاملها. نمتُ وجارتي عند تلك السيّدة التي كانت المانيّة، وخفتُ كثيرًا أن يشتكي زوجي عليّ لدى الشرطة، إلا أنّ مُنقذتي طمأنَتني:
ـ ويوقعُ نفسه في ورطة؟ لا أعتقدُ ذلك! أعرفُ زوجكِ جيّدًا وأعرفُ أيضًا كَم أنّه يخافُ على سمعته. لكنّنا على علم بتلك التي تسكنُ معه، وعندما رأيتُكِ قادمة، أجل فأنا أرى كلّ شيء، علِمتُ أنّ مُصيبة ستحصل. لذلك أبقيتُ عينًا عليكِ. نامي قليلاً لنقصد السفارة باكرًا.
ـ أشكركِ سيّدتي... لكن أليس هناك مَن ينتظرُكِ في بيتكِ؟
ـ لا يا صغيرتي، زوجي ماتَ منذ سنوات وهذا أفضل ما فعلَه!
ضحكنا جميعًا ورحتُ أنام. وفي الصباح قابَلنا السفير وأخبرتُه ما جرى لي بالتفاصيل. أصدرَ الرجل لي أوراقاً مؤقّتة لأستطيع العودة إلى البلد، لكنّني لَم أشأ الإشتكاء على وهيب لسبب واحد، فكنتُ أريدُ الهروب ونسيانه إلى الأبد! لَم أتّصل بأهلي كي لا يقولوا لزوجي أين أنا، فللحقيقة لَم أكن أثقُ تمامًا بهم. فلو كان أمري يهمُّهم حقًّا، لأصرّوا على التكلّم معي هاتفيًّا وليس مع وهيب في كلّ مرّة.
عانقتُ جارتي الشجاعة بقوّة، وأخذتُ رقم هاتفها وطرتُ إلى موطني.
إندهشَ أهلي كثيرًا مِن الذي مرَرتُ به، لكنّ والدتي قالَت لي: "لو صبرتِ قليلاً وأعطَيتِ وهيب ولَدًا، لَترَكَ تلك المرأة".
ماذا؟!؟ أصبرُ على رجل يخونُني تحت سقف واحد وقد أخَذَ جواز سفَري وهاتفي وحبَسَني؟؟؟ هل فقدَت أمّي عقلها؟
طلّقَني وهيب بسرعة، حتمًا ليجِد زوجة أخرى لتُنجِبَ له، وارتحتُ كثيرًا لأنّني صرتُ حرّة منه.
لا أزالُ على اتّصال بصديقتي الأجنبيّة وهي تنوي زيارتي في بلَدي. ألف أهلاً وسهلاً للّتي أخرجَتني مِن كابوسي!
لَم أتأخَّر عن إخبار كلّ مَن أعرفُه عن وهيب وعشيقته، لينتشِر الخبَر بين الناس وأمنعُه بذلك مِن إيجاد ضحيّة ثانية. ليكن الله بعونها!
حاورتها بولا جهشان