يوم اختفى زوجي

يوم اختفى زوجي، كنتُ أتحضّر للخروج معه لنحتفل بعيد زواجنا السادس. كنتُ قد اتصلتُ بجليسة الأطفال لتبقى مع إبننا توفيق، وذهبتُ لمصفّف الشعر لأبدو بكامل أناقتي وأستعيد مع جهاد ذكرى مناسبة عزيزة على قلبي.

كان مِن المتفّق عليه أن يمّر زوجي إلى البيت بعد انتهائه مِن العمل، ليُبدّل ملابسه ونقصد ذلك المطعم الفخم حيث حجَزنا أفضل طاولة. لكنّه تأخّر كثيرًا وحين حاولتُ الاتصال به، كان جوّاله خارج الخدمة. إستغربتُ الأمر، فاتصَلتُ بالمكتب وأكَّدَ لي مساعده أنّ جهاد غادَرَ منذ أكثر مِن خمس ساعات.

ماذا يحصل؟ هل حَدَث لزوجي مكروه؟ هل وقَعَ ضحيّة حادث سيّارة أم أنّ أحدًا آذاه عمدًا؟ فالجدير بالذكر أنّ جهاد رجل أعمال كبير يتعامل بمبالغ وممتلكات ضخمة. تذكّرتُ أنّ زوجي في الفترة الأخيرة كان مشدود الأعصاب، وتوتّره بدا واضحًا مع أنّه فعَلَ جهده لإخفائه. لم أجرؤ على سؤاله عن الأمر، فكنّا قد اتّفقنا منذ سنين ألا نتحدّث بموضوع العمل حين يأتي جهاد إلى البيت.

ركضتُ أتّصل بالشرطة، وأخبرتُهم بأنّ زوجي مفقود ولا أثر له منذ ساعات عديدة. وعَدوني بالتصرّف، لكنّهم طلبوا منّي أن أصبر قليلاً فغيابه لم يكن مقلقًا بعد.

بقيَت جليسة الأطفال معي، واهتمّت بتوفيق بينما كنتُ أتصل بهاتف زوجي المقفول وبباقي عائلتي والأصدقاء، لأرى إن كان جهاد قد كلّمَهم أو زارَهم، أو كانوا يعرفون أيّ شيء عن تحرّكاته في الساعات الأخيرة أو سمعوا منه أين سيذهب.

في الصباح الباكر، ذهبتُ بنفسي إلى القسم وقدّمتُ بلاغًا رسميًّا باختفاء زوجي. باشرَت الشرطة بالتقصّي عن الأمر، وطلبوا منّي العودة إلى البيت لأكون موجودة في حال اتصال جهاد بي أو أحد ما إن كان قد تمّ خطفه.

كنتُ بحالة يُرثى لها، ولولا وجود ابني لانهَرتُ تمامًا.

بعد ساعات كان البيت مليئًا بالمحبّين الذين جاؤوا للإطمئنان. وبالرّغم مِن وجودهم حولي، شعرتُ بوحدة كبيرة، وكلّ ما كان يشغل بالي كانت أفكار متضاربة ونظريّات بشعة عن مصير حبّ حياتي.

 


إتّصلَت الشرطة بالمستشفيات والمشارح، وحقَّقت مع موظفي زوجي مِن دون جدوى. في آخر المطاف، خَطَرَ ببالهم أن يتحقّقوا مِن وجود اسمه على لوائح السّفر في المطار. وحين خابرَني المحقّق ليقول لي إنّ جهاد ركِبَ طائرة قبل يوم متّجهًا إلى الأرجنتين، لم أصدّق الأمر. كيف لزوجي أن يُسافر هكذا مِن دون أن يُخبرني، خاصّة أنّ الذكرى كانت ذكرى زواجنا؟ لم أصدّق الخبر، وبقيتُ مصرّة على أنّها خطّة أعدّها خاطفوه لتضليل الشرطة. لكنّ زوجي كان، وبكلّ بساطة، قد تركَني وابني وأصبَحَ في قارة بعيدة لسبب كنتُ أجهله.

إستمرَّت التحقيقات حول جهاد، حتى تبّينَ أنّه حوَّلَ مال عملائه إلى حساب مصرفيّ في الأرجنتين، أي أنّه فرَّ بعد أن سرَقَ مَن ائتمنَه على أمواله. كانت المبالغ خياليّة، ولم أفهم كيف يفعل زوجي ذلك بنا جميعًا.

بعد وقوع الخبر، تركَني كلّ مَن جاء ليواسيني. إختفوا بلحظة وكأنّ الأمر كان يطالهم شخصيًّا، وبتُّ العنزة الجرباء التي ينبغي الإبتعاد عنها وبسرعة. حتى أفراد عائلتي تخلّوا عنّي كي لا تطالهم الفضيحة.

ووسط تلك الوحدة القاتلة، بقيتُ أنتظر مِن زوجي أن يتّصل بي ليشرح لي دوافعه، ويطلب منّي السماح لِما فعلَه ولتركه لي ولابنه. توقّعتُ حتى أن يعرض علينا أن نوافيه إلى حيث هو، فقد كنّا عائلة المفروض بها أن تكون متماسكة وتواجه أيّ شيء سويًّا. لكنّ جهاد لم يتّصل بي قط.

ما آلمَني الأكثر هو اكتشافي لِما فعَلَه زوجي قبل رحيله: كان قد أفرَغَ حساباته المصرفيّة كلّها، أي أنّه لم يترك لنا شيئًا لنعيش به مِن دونه. أيّ انسان يفعل ذلك بزوجته وابنه؟ فقد كان يعلم تمام العلم أنّني لا أملك القدرة على العمل، وأنّ عائلتي ذات دخل محدود ولا يسعني المواصلة مِن دونه. لِذا، بدأتُ أبيع ما يُمكنني بيعه مِن ممتلكات شخصيّة، بعد أن وضَعت العدالة يدها على البيت. بعتُ مجوهراتي وأخذتُ توفيق لنعيش عند أهلي.

هناك تفاجأتُ بالمعاملة البشعة التي تلقَّيتُها. كنتُ بالنسبة إليهم الإبنة والأخت التي فشلَت بزواجها، ولاموني على جلب العار لهم، وقالوا لي بوضوح إنّ عليّ المساهمة ماليًّا ببقائي عندهم لأنّني أصبحتُ وابني عبئًا عليهم.

بكيتُ كثيرًا لأنّني خُذِلتُ مِن كلّ الذين خلتُهم يُحبّوني، وأخذتُ قرار المتابعة مِن دونهم. وأوّل شيء فعلتُه كان البحث عن عمل لأتمكّن مِن الرحيل بأسرع وقت. في تلك الأثناء، علِمتُ أنّ جليسة الأطفال سافرَت إلى الأرجنتين، وفهمتُ سبب إهمال زوجي لي ولابنه. لكنّ ذلك الخبر بدل أن يُحبطني، أعطاني القوّة للمواصلة، لأنّني لم أعد أنتظر أجوبة على تساؤلاتي العديدة. كان جهاد إنسان معدوم الأخلاق، فهو سَرَق أموال الناس وهَرَب مع فتاة كان يُعاشرها منذ فترة. أخبرتُ توفيق أنّ أباه سافَرَ للعمل في الخارج وأنّه لن يعود قبل وقت طويل، وطلَبتُ منه أن يُركّز على مدرسته الجديدة المجّانيّة ويتعرّف إلى أصدقاء جدد. أمّا أنا، فوجدتُ عملاً في محلّ للألبسة، واستأجرتُ شقّة صغيرة إنتقلتُ إليها مِن دون أن أودّع أهلي. هم ارتاحوا منّي، ولم يسألوني حتى إلى أين أنا ذاهبة وابني.

 


مرَّت حوالي الثلاث سنوات حين خُيّلَ لي أنّني رأيتُ جهاد. كنتُ جالسة في الباص وعائدة مِن عملي، حين رأيتُ رجلاً يُشبه إلى حدّ كبير زوجي. أقول زوجي وليس زوجي السابق، لأنّنا لم نتطلّق، أوّلاً لأنّه كان خارج البلاد وكان مِن الصعب الحصول على الطلاق ولم يكن لدَيّ ما يكفي مِن مال لرفع دعوى، وثانيًا لأنّني لم أكن أريد الزواج مجدّدًا بعد أن فقدتُ ثقتي بصنف الرجال.

صرختُ لسائق الباص أن يتوقّف، وهرعتُ وراء ذلك الرجل الذي كان قد دخَلَ مبنىً واختفى بلحظة. صحيح أنّه كان يرتدي نظّارة ولون شعره مختلفًا، إلا أنّني كنتُ شبه أكيدة مِن أنّه هو. كيف دخَلَ البلاد مِن دون أن يتمّ القبض عليه في المطار أو على الحدود؟ لا بدّ أنّه أعطى ما يكفي مِن مال ليتمّ إدخاله بصورة غير قانونيّة، فلطالما كان يعرف كيف يحصل على الذي يُريده بطرق ملتوية.

كانت بوّابة المبنى مُقفلة ولا تُفتح إلى بواسطة شيفرة خاصّة، لِذا بقيتُ واقفة لمدّة ساعة كاملة بانتظار أن يدخل أو يخرج أحد. ماذا كنتُ أنوي فعله بعد ذلك؟ لم أكن أعلم لكنّني لم أكن مستعدّة أبدًا للرحيل مهما كلّف الأمر.

خَرَج ثنائيّ مِن المبنى واستغنَمتُ الفرصة للدخول. وقفتُ في الرّدهة أنظر إلى الأسماء المكتوبة على الإنترفون ولم أتعرّف إلى أيّ منهم، فأخذتُ أصعد السلالم وأدقّ على جميع الأبواب. كنتُ كالمجنونة وبعض السكّان خافَ منّي ومِن أسئلتي الغريبة.

وفي الطابق الرابع فتحَت لي امرأة بدَت مرتبكة حين سألتُها إن كان قد دخَلَ شقّتها رجل طويل القامة يلبس نظّارات ومعطفاً بنيّ اللون. علِمتُ فورًا أنّها تخفي شيئًا، فأسرعتُ بالقول إنّه أوقَعَ شيئًا مِن جيب معطفه ولقد أخذَه أحد المارّة. أعلم أنّني لم أكن مقنعة إلا أنّ ذلك كان كلّ ما استطعتُ التفكير به. كان مِن الجيّد أنّ زوجي كان قد ترَكَ جليسة الأطفال واستبدلَها بامرأة أخرى لا تعرف مَن أكون وإلا فُضِحَ أمري.

بعد أن أقفلَت المرأة الباب وشكرَتني، نزلتُ السلالم طابقًا واحدًا واتّصلتُ بالمحقّق الذي لم يسمع منّي منذ سنين. أخبرتُه أنّ جهاد في البلد وأعطَيتُه العنوان. طلَبَ منّي الرّجل الرّحيل لكنّني لم أقبل، كنتُ أريد اللحاق به في حال قرَّرَ الفرار مِن جديد. لكنّ زوجي كان مِن الذين يتحلّون بثقة بالنفس كبيرة جدًّا، ولم يعتقد أنّ التي دقَّت الباب قد تشكّل خطرًا عليه، لِذا لم يُبارح مكانه.

رأيتُ رجال الشرطة قادمين وعلى رأسهم المحقّق الذي أمرَني بالخروج مِن المبنى. إمتثلتُ لأوامره لكنّني بقيتُ واقفة في الطريق. بعد بضع دقائق، شاهدتُ زوجي يخرج مكبّلاً ومستاءً، محاطًا برجال الأمن... فإرتاح قلبي أخيرًا.

ولأطوي نهائيًا صفحة الماضي، طلبتُ الطلاق مِن زوج كان سيقضي سنينًا طويلة وراء القضبان. لم يعرف جهاد أنّني التي دلَّت الشرطة على مكانه، فالمحقّق أبقى الأمر سرًّا ليحميني مِنه.

مساهمتي بالقبض على ذلك القذر، أعطَتني قوّة لم أتخيّل أنّني أمتلكُها وأملاً كبيرًا بالمستقبل. فبعد أن استعدَتُ حرّيتي رسميًّا وانتقَمتُ مِن الذي هجرَني وخانَني وتركَني مِن دون أيّ شيء، إستطعتُ التطلّع إلى حياة واعدة قد تتضمّن وجود رفيق إلى جانبي. كان ابني توفيق يحثّني دائمًا على إيجاد رجل خاصّة بعدما علِمَ الحقيقة بشأن والده، واستمعتُ أخيرًا إليه. أنا اليوم متزوّجة وسعيدة بعد أن أنجبتُ بنتًا جميلة، ونعيش حياة عائليّة ممتازة. لا أخفي أنّ قلقًا دفينًا يسكن قلبي، لكنّني أطردُه عندما أرى كم أنّ زوجي الثاني يُحبّني ويُعاملني بكثير من الإحترام والتفاني.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button