يا لَيتني لَم أتسرَّع...

أحبَبتُ التصوير مذ ما أهداني جدّي، رحمه الله، كاميرا قائلاً: "بهذه الكاميرا ستستطيع التقاط أجمل الأوقات إلى الأبد... فالحياة تمرُّ بِلمحة بصَر، وحين نكبُر تخونُنا ذاكرتنا شيئًا فشيئًا". تأثّرتُ كثيرًا بكلامه مع أنّني كنتُ لا أزال في الثامنة مِن عُمري. بعد ذلك، تتالَت الكاميرات حتى كبرتُ وصرتُ مُصوِّرًا مُحترفًا، الأمر الذي لَم يُدهِش أحدًا لأنّ الكلّ كان يُناديني "المصوِّر" طوال عمري.

 

يوم افتتحتُ محلّي وباركَ الأهل والأصدقاء لي، شعرتُ بفخر كبير إذ استطعتُ تجسيد حلمي الذي بدأ كهواية ليُصبح حياتي كلّها. صوّرتُ بعض الحفلات، وبعدها أفراحًا كثيرة إلى حين قصدَني مُعظم سكّان المدينة لشتّى مُناسباتهم. كَثُر مالي وأخذتُ المحلّ الذي بجانبي لتوسيع مكان عمَلي.

وفي تلك الفترة بالذات، دخلَت صبيّة محلّي برفقة شابّ بغرض إجراء بعض الصوَر الفرديّة لها. صعقَني جمالها ورقّتها، مع أنّني كنتُ قد رأيتُ العديد مِن الحسنوات قبل ذلك. لكنّها كانت تملكُ شيئًا فريدًا، أو على الأقلّ بالنسبة لي. أذكرُ أنّ يدَيَّ بدأَتا ترتجِفان حين أجلستُها على الكرسيّ الخاصّ أمام شاشة كبيرة، وأمسكتُ بكتفَيها وأزحتُ شعرها عن رقبتها الطويلة والبيضاء. أخذتُ لها أجمَل الصوَر وأسِفتُ أنّ الجلسة انتهَت بسرعة. لَم أنسَ أخذ اسمها وعنوانها لتوصيل الصوَر لها، لكنّ الشابّ أعطاني رقمه بدلاً مِن رقمها الهاتفيّ قائلاً:

 

ـ أختي رانيا لا تملكُ هاتفًا خاصًّا بها... وما حاجتها له، فهي ستتزوّج قريبًا... هذه الصوَر مُخصّصة لخطيبها في المهجر. أرجو أن تُعجبَه.

 

ـ صوَري، يا سيّدي، تُعجبُ الجميع.

 

ـ أقصدُ أنّ تُعجبَه هي. فهو لا يعرفُها شخصيًّا.

 

ـ آه... زواج بالمُراسلة؟

 

ـ أجل.

 

ـ مبروك سلفًا.

 

قلتُ ذلك مِن دون أن أعني كلماتي، فآخِر شيء أرَدتُه هو أن تتزوّج رانيا مِن ذلك الرجُل الغريب الذي لا يُريدُ سوى عروس حسناء وليس أكثر. للحقيقة، لَم أكن أعلَم أنّ هكذا زيجات لا تزال قائمة في عصرنا، فتفاجأتُ للغاية. وعدتُ نفسي بالاستفهام أكثر عن الأمر يوم أذهبُ إلى رانيا لإعطائها صوَرها. آه... لو أعرفُها أكثر مِن ذلك، لطلبتُ يدها على الفور، خاصّة أنّ عَينيها كانتا مليئتَين بحزن عميق وخوف مِن المجهول الذي ينتظرُها.

 

عمِلتُ على تظهير صوَر الحسناء بسرعة، وبدلاً مِن إرسالها مع عامل التوصيل الخاص بي، حملتُها بنفسي في اليوم التالي إلى العنوان المذكور. إخترتُ توقيتًا يكون الأخ في عمله مبدئيًّا وقرعتُ الباب. فتحَت لي سيّدة عرفتُ أنّها الأم، وبعد أن سألَتني مَن أكون وماذا أُريدُ، أدخلَتني لجلب المال لي. البيت كان صغيرًا لكنه كان مُزيّنًا بحبّ وذوق. ثمّ ظهرَت رانيا مِن خلف باب آخر وابتسمَت لي. سألَتني إن كانت الصوَر جميلة فأجبتُها:

 

ـ أنتِ الجميلة وليس الصوَر... مبروك مُجدّدًا لزواجكِ القريب... تفاجأتُ بأنّكِ لا تعرفين عريسكِ.

 

ـ قيلَ لي إنّه إنسان جيّد و... وثريّ. لكنّه كبير في السنّ ويعيشُ بعيدًا. لَم أرَ بعد صوَره، لكن ما النفع؟ فرأيي ليس مطلوبًا.

 

عادَت الأمّ مع المال لكنّني قلتُ لها فجأة:

 

ـ أعذريني يا خالة... لكنّني انتبهتُ لتوّي لِخطَب في الصوَر، ربمّا أنّ مواد التظهير تفاعَلت مع ضوء النهار. أُريدُ إعادة تصوير الآنسة، على حسابي الخاص طبعًا. إبعثيها إلى محلّي غدًا في التوقيت نفسه. وللتعويض لكم، سأُظهّر مجّانًا لها صورة بمقاس كبير.

 

نظرَت إليّ رانيا باندهاش والأمّ بامتنان ورحلتُ بعد أن قلتُ للصبيّة: "سأكون بانتظاركِ غدًا".

لماذا فعلتُ ذلك؟ فماذا كنتُ أنتظرُ حقًّا؟ أن تُبطَل الزيجة فجأة مِن أجلي أو أنّ تقَع رانيا في حبّي بلحظة؟ هززتُ برأسي، فكعادتي قد تصرّفتُ بعفويّة ولدانيّة.

في اليوم التالي، إبتسمتُ حين سمعتُ جرس المحل يرنّ، ورأيتُ رانيا واقفة أمامي مُرتدية فستانًا مزيّن بالورود الجميلة. أدخلتُها وأجلستُها وأخذتُ لها صوَرًا لا تُحصى لكثرة إعجابي بها. ضحكنا سويًّا لإصراري على تصويرها عند قيامها بأقل حركة، ومِن ثمّ قلتُ لها بجدّيّة:

 

ـ لا تتزوّجيه... فقد يكون إنسانًا سيّئًا.

 

ـ هكذا قرّرَت أمّي وأخي. على كلّ الأحوال، قد يكون عريسي رجُلاً طيّبًا وعاقلاً.

 

ـ إنّها مُجازفة.

 

ـ نحن بحاجة إلى المال.

 

ـ أخوكِ يعمل ويُمكنكِ أيضًا إيجاد عمل، فلستِ مُخصّصة للزواج فقط، نحن في الألفيّة الثالثة ولقد صارَت العقول مُنفتِحة والمرأة مُتحرِّرة.

 

ـ ما عدا في ما يخصّ أهلي. إنّه مصيري وسأقبلُ به.

 

ـ إقبلي بي! أجل، أطلبُ يدكِ الآن مع أنّني أفعلُ تمامًا كعريسكِ، أيّ أنّني أُريدُكِ مِن دون أن أعرفكِ. لكنّني على الأقلّ أراكِ أمامي وليس في الصوَر!

 

تزوّجتُ مِن رانيا بعد أقلّ مِن شهر، وبعد أن أثبَتُّ لأهلها أنّني مُقتدِر ماليًا. حصلتُ على مُبتغايَ... بعفويّة، كعادتي. أحبَّ أهلي رانيا، بالرغم مِن أنّهم استغربوا واستنكروا أن أكون قد اختَرتُ شريكة حياتي بعد شهر واحد مِن أوّل لقاء بها. إلا أنّهم عادوا ووثقوا بحكمتي بعد أن صنعتُ نفسي بنفسي وصرتُ مُصوّرًا معروفًا وناجحًا.

عشتُ مع زوجتي أيّامًا جميلة وهادئة... إلى حين بدأتُ أُلاحظُ لدَيها تصرّفات أصفُها بالغريبة. إذ أنّها كانت أحيانًا تجلسُ لوقت طويل في المكان نفسه وتنظرُ بعيدًا. ردَدتُ الأمر إلى صعوبة تأقلمها مع حياتها الجديدة بعيدًا عن ذويها. للحقيقة، خفتُ أن تكون رانيا تُفكّرُ بعريسها في المهجر ونادمة على عدَم الزواج منه. لَم أقُل لها شيئًا وانتظرتُ أن تندمِج كلّيًّا معي. لَم أُطلِع أحدًا على ما يحصل، فلَم يكن مِن داعٍ لذلك.

بعد أشهر قليلة، وبسبب مُلاحظة بسيطة وجّهتُها لزوجتي، إنفجرَت رانيا غضبًا وكأنّني أهنتُها أو قلّلتُ مِن احترامي لها. حاولتُ تهدئتها بشتّى الطرق، ثمّ قرّرتُ أنّ الحلّ الأنسب هو أن أتركها لوحدها، فخرجتُ مِن البيت لمدّة ساعة. وعند عودتي، وجدتُها تبتسمُ لي وتسألُني لماذا تأخّرتُ. حينها أيضًا وجدتُ لها الأعذار المنطقيّة وتناسَيتُ الموضوع.

الأمر الذي شغَل بالي حقًّا، هو يوم رأيتُ رانيا واقفة لوحدها في المطبخ تُكلّمُ شخصًا غير موجود. كانت المُحادثة عنيفة، مِن جانبها طبعًا، وتدورُ حَولي. إتّضَحَ لي أنّها تُدافعُ عنّي لدى الشخص الوهميّ وفهمتُ أنّها لا تُريدُ أذيّتي. أذيّتي؟!؟ يا إلهي... وهل كان ذلك واردًا في ذهنها؟ أعترفُ أنّني خفتُ مِن رانيا، فلو رأيتموها، لَعلِمتم أنّها كانت بغاية الجدّيّة.

 

خرجتُ مِن البيت خلسة ورحتُ أمشي في الشارع. هل كانت زوجتي مجنونة أم أنّها تدّعي ذلك لسبب أجهلُه؟ كلّ الدلائل كانت تُشير إلى أنّها فاقدة العقل، إلا أنّها كانت طبيعيّة جدًّا حين تعرّفتُ إليها وقرّرتُ الزواج منها. ما الذي حدَثَ لها بعد زواجنا؟ لَم أعُد إلى البيت بل رحتُ إلى أهل زوجتي بعد أن تملّكَني الفضول، والغضب. هل أخفى هؤلاء الناس حالة ابنتهم عنّي؟

جلستُ مع أمّ رانيا وسألتُها مُباشرة مِمّا تشكو ابنتها بعد أن أخبرتُها كلّ ما رأيتُه. سكتَت المرأة ثمّ قالَت:

 

ـ كنّا سنبعثُها بعيدًا... لكنّكَ كنتَ مُصرًّا على إبقائها معكَ. الذنب ذنبكَ.

 

ـ يكون الذنب ذنبي حين أدري بحالتها وأبقى مُصرًّا عليها. لكن ما مِن أحد أطلعَني على الحقيقة وهذا يُسمّى غشًّا. وهل عريسها في المهجر يعرفُ أنّها... مُضطربة؟

 

ـ بالطبع لا. لكنّه ثريّ كفاية للاهتمام بحالتها.

 

ـ أيّ صنف مِن الناس أنتم؟!؟ تُريدون التخلّص مِن ابنتكم المريضة بدلاً مِن مُعالجتها؟!؟

 

ـ عالجناها وهي تأخذ دواءً يجعلُها تتصرّف بشكل شبه طبيعيّ. ونحن لا نملك ما يلزم إذا تفاقمَ وضعها.

 

ـ لَم أرَها تتصرّف طبيعيًّا إلا قبل الزواج.

 

ـ إذًا هي توقّفَت عن أخذ علاجها. فلستُ معها لإعطائه لها كما كنتُ أفعَل. أنصحُكَ بمتابعتها وإلا...

 

ـ وإلا ماذا؟

 

ـ يمكنها أن تصبح... كيف أقول ذلك... مؤذيّة.

 

ـ ماذا؟!؟

 

ـ إسمَع، إنّها زوجتكَ الآن وأنتَ المسؤول عنها. لَم نُصدّق أنّ أحدًا أخذَها عنّا. إفعَل ما تشاء بها لكن إيّاكَ أن تُعيدها لنا، فلقد عانَينا الكثير منها وقضَينا الليالي خائفَين منها.

 

ـ ما اسم الدواء؟

 

صرتُ أعطي لرانيا علاجها يوميًّا وتحسّنَت حالتها بشكل ملحوظ، لكنّ الخوف كان قد ملأ قلبي واختفى منه الحبّ الذي كنتُ أكنُّه لها. فعلتُ جهدي كي لا تحمَل منّي زوجتي، فقد خفتُ على الولَد منها، فمَن يعرفُ إن كانت ستؤذيه، وبدأتُ أنام في غرفة مُنفصلة تحسبًّا للأسوأ.

عزلتُ نفسي ورانيا عن باقي الناس، وأخذتُ أُراقبُها باستمرار إلى أن صارَ ذلك شغلي الشاغل، الأمر الذي أثّرَ على سَير عمَلي وصحّتي النفسيّة والجسديّة. أخذتُها إلى أطبّاء عديدين قالوا لي جميعًا إنّ لا علاج سوى الذي تأخذه. وكلّهم نبّهوني مِن عدَم إيقاف الدواء لأنّ المريض في هذه الحالة يصير عنيفًا للغاية.

 

مرَّت سنتان على هذا النمط وكنتُ مُنهمكًا برانيا، فلَم أذِق طعم الراحة. ثمّ انقلَبَ وضعها فجأة لأنّها، كما اكتشفتُ لاحقًا، بدأَت تدّعي أخذ الدواء بإخفاء القرص تحت لسانها وبصقه لاحقًا. فصارَت عدائيّة للغاية تصرخُ بي وترمي في وجهي الأطباق والأواني. لكن يوم شهرَت بوجهي سكّينًا كبيرًا، مُهدّدة بذبحي ومُحدِثة جرحًا عميقًا في ذراعي، تركتُ البيت ركضًا قاصدًا المشفى لمعالجة جرحي، ولأرى ما يمكنُ فعله لإبعاد زوجتي عنّي. كنتُ أعلَم أنّ أهلها لن يستقبلوها، كما أنّني لن أستطيع العَيش معها ولو ثانية إضافيّة.

تمَّ إدخال رانيا قسم الأمراض النفسيّة وحزنتُ مِن أجلها. لكن ما عسايَ فعله غير ذلك؟ هل أضَع حياتي في خطَر دائم؟ ماذا لو انقضَّت زوجتي ليلًا عليّ لِذبحي؟

تجاوُب زوجتي مع العلاج كان مُتفاوتًا، لِذا وجبَ إبقاؤها حيث هي، ولا أزال حتى اليوم أدفعُ كلّ التكاليف لأنّني لا أستطيع التخلّي عنها، وتركها لمصيرها فقد تتسبّب لأحد بالأذيّة.

ما حدَثَ جلَبَ لي توبيخ الجميع، وهم على حقّ. فلا ينبغي بأحد الارتباط مِن دون مُعاشرة الآخر مُطوّلاً والسؤال عنه. فالجمال والجاذبيّة لا يكفيان، بل التأكّد مِن أنّ الشخص الآخر هو بالفعل مُناسب مِن جميع النواحي. أنا اليوم أدفَع ثمَن تسرّعي واعتقادي بأنّني أجيدُ دائمًا الاختيار فقط لأنّني ناجح في مجال عمَلي. لَم أكن أعلَم أنّ لا علاقة للحياة العاطفيّة والغريزيّة بالمنطق والعقل.

أنا خائف مِن الارتباط مُجدّدًا، ويلزمُني وقت طويل لأنسى ما حصَلَ لي، فكيف أتأكّد مِن أنّ زوجتي القادمة هي بالفعل كما تبدو لي؟

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button