يا لَخيبتي من زوجي!

كان قد مضى على زواجي من رفعَت حوالي الثلاثين سنة حين بدأ يتغيّر. في البدء لَم أُلاحِظ كثيرًا كيف أنّه صارَ يتأخّر قليلاً صباحًا للخروج مِن سريره وكيف أنّ مزاجه هدأ، وردَدتُ الأمر إلى وعكة صحّيّة عابِرة. إلا أنّ ما مِن شيء كان يُفرحه بل بدا لي بعيدًا عن الأحداث أكانت صغيرة أم كبيرة. ثمّ أدركتُ أنّ ربّما لتقاعده عن العمَل دخلاً في الموضوع وعمِلتُ جهدي للترفيه عنه. فكنتُ أعلَم كَم مِن الصعب على المرء وخاصّة الرّجُل، أن يُمسي غير مُنتِج وجزءًا مِن فئة الذين "لَم يعُد لهم منفعة". تكلّمتُ مع زوجي في الموضوع، لكنّه أنكَرَ أن يكون تقاعده مصدر قلَق بالنسبة له، بل أكَّدَ لي أنّه مُرتاح للغاية بعد أن قضى عمره في المجال نفسه. إرتاحَ بالي لكنّني صمَّمتُ على عدَم تركه لوحده كَي لا يشعُر بالملَل ويغوص في الاكتئاب. فالحقيقة أنّ ولَدَينا كانا قد غادَرا المنزل ليتزوّجا ويؤسِّسا عائلة خاصّة بهما، وأنا كنتُ رفيقة رفعَت الوحيدة. صحيح أن كان لدَيه أصدقاء، لكنّهم كانوا قليلي العدَد ومنشغلين عنه أو بعيدين جغرافيًّا.

إستمرّ الوضع على حاله إلى حين لاحظتُ تغيّرًا يصعب تجاهله. فقد بدأ رفعَت يمزَح ويضحَك ولمَستُ لدَيه حقًّا فرَحًا داخليًّا. سعِدتُ له، فكان مِن الواضح أنّه قد تأقلَمَ مع وضعه الجديد وبدأ يستمتِع بحياته ما بعد التقاعد. لكن مزاجه الجديد ترافَقَ مع أصدقاء جُدد لَم أتعرّف عليهم بل حكى زوجي لي عنهم. وكان هؤلاء مِن الذين يهوون السهَر والترفيه، فرافقَهم رفعَت أينما ذهبوا. هو لَم يعرُض عليّ قط مُرافقته وأنا لَم أُصِّر، فكان يكفيني أن أرى زوجي سعيدًا ويُرفِّه عن نفسه.

ثمّ صارَ خروجه يتكاثَر، خاصّة ليلاً، وكنتُ أقضي أمسيات عديدة لوحدي في البيت. لكن خلال أيّام الأسبوع لازَمَ رفعَت جانبي ليختفي مِن جديد في نهايته. عندها سألتُه إن هو فكَّرَ كيف أنّني أمكثُ لوحدي ليلاً وأنّ ذلك يولِّد في نفسي خوفًا، أجابَني بكلّ براءة أنّ السهرات التي يذهب إليها لا تبدأ إلا في وقت مُتأخِّر مِن الليل، ولا يسَعه إزعاج أصدقائه بتقصير السهرة عليهم. ثمّ نظَرَ إليّ بحزن وسألَني إن كنتُ أريدُه أن يتوقّف عن الخروج فأجبتُه بالنفي، فرؤيته فرِحًا كانت أهمّ شيء بالنسبة لي. لكن إحدى معارفنا قالَت لي يومًا:

 

- علِمتُ مِن زوجي أنّ رفعَت مُهتمّ بشكل خاصّ بمُطرِبة... أقول لكِ ذلك لتحترِسي، فقد تخسرين زوجكِ وماله. لكن مِن الأفضل أن تتحقّقي مِن الأمر بنفسكِ.

 

للحقيقة، وجدتُ صعوبة بتصديق الأمر، فلَم يكن رفعَت مِن ذلك النوع، بل كان رجُلاً رصيناً لَم يخُنّي يومًا خلال سنوات زواجنا الطويل!

مرَّت الأسابيع وحصَلَ أن سمِعتُ رفعَت يتكلّم عبر الهاتف ويقول:

 

ـ ستكون موجودة؟ لن أحجز في ملهاكم إن لَم تكن "لولا" ضمن البرنامج! أريدُ "لولا" أو لن آتي!

 

أدهشَتني لهجته القاسية والصارمة وإصراره على التي اسمها "لولا"، وفهمتُ أن تلك المرأة كانت على حقّ. حزنتُ كثيرًا، فلَم أتصوّر زوجي قادرًا على التعلّق بفنّانة على الاطلاق. تركتُه يذهب إلى الحمّام، وفتحتُ هاتفه لأرى أيّ رقم هو طلبَه، ودوّنتُه على ورقة. ثمّ ركضتُ إلى غرفتنا وطلبتُ الرقم وتبيّنَ أنّه مكان ليليّ يُقدّمُ برنامجًا ترفيهيًّا لزبائنه. أخذتُ العنوان مِن الشخص الذي أعطاني المعلومات وشكرتُه. جلستُ لوحدي لبضع دقائق أُفكّرُ بالذي عليّ فعله، ثمّ قرّرتُ أنّه مِن الأفضل لو أرى بنفسي ما الذي يجري فعلاً كَي لا أشغل بالي بتصوّرات قد لا يكون لها أساس. وخلال ذلك اليوم، كنتُ مُضطرِبة لكنّني فعلتُ جهدي لأبدو طبيعيّة أمام رفعَت.

عندما حلّ المساء، إرتدَيتُ ملابسي تحت الروب البيتيّ، وجلستُ على كرسيّي المُفضَّل قُبالة التلفاز ليظنّ زوجي أنّني باقية في البيت. وحين هو خرَجَ، أسرعتُ بطلَب سيّارة أُجرة وأعطَيتُ السائق عنوان الملهى، طالبةً منه انتظاري خارجًا لفترة غير مُحدّدة. وقال لي الرجُل قَبل أن أنزلَ مِن سيّارته وأدخلُ الملهى:

 

- إنّه ليس مكانًا لكِ يا سيّدتي، إحترسي. وإن احتجتِ لأيّ شيء، ناديني.

 

أخافَني كلامه لكنّني كنتُ مُصِّرة على اللحاق برفعَت.

دخلتُ المهلى وجلتُ بنظري في المكان لأرى أين زوجي، فوجدتُه جالِسًا عند البار وأمامه كأس مِن الكحول. كان لوحده ويبدو هادئًا على عادته. جلستُ بدوري إلى طاولة في إحدى الزوايا وانتظرتُ.

ثمّ دخلَت "لولا" واعتلَت المسرَح الصغير، حاملة بيدَها مذياعًا علّقَته على عاموده بعد أن رحّبَت بالموجودين. هي لَم تنسَ النظر بإمعان إلى رفعَت الذي رفَعَ كأسه عاليًا مُبتسمًا لها كالمُراهق. شعرتُ بمزيج مِن الحزن والخزيّ لرؤية هذا المشهد، لكنّني صمَّمتُ البقاء حتّى النهاية. بدأَت لولا بالغناء والرقص بطريقة مُغرية، وبقيَ زوجي مُركّزًا عليها وكأنّه تحت سحر ما. أمّا هي، فكانت تجولُ بنظرها حول القاعة لتعودَ وتُركِّز على رفعَت. كان مِن الواضح أنّهما يعرفان بعضهما جيّدًا، وشعرتُ أنّ زوجي ليس فقط مُستمتِعًا بالعرض، بل ينتظرُ نهايته بترقّب. ولَم أكن مُخطئة، فبعد حوالي الساعة، نزِلَت "لولا" مِن المسرح بعد أن صفّقَ لها الجميع بحرارة، وجلسَت بالقرب مِن زوجي على البار. سألَها حتمًا ماذا تُريدُ أن تشرَب وطلبَ لها زجاجة كاملة مِن الشامبانيا، أي مشروب غالي الثمَن. ثمّ هي اقتربَت منه وصارَت تُداعبُ شعره وتهمسُ في أذنه كلمات حتمًا مُثيرة، لأنّه بدا مسرورًا للغاية وتلّون وجهه بالأحمر. مدَّ رفعَت يدَه إلى جَيبه واخرجَ منه رزمة مِن المال أعطاها لِجليسته التي ابتسمَت وطبعَت قُبلة على خدّه، ثمّ دارَ بينهما حديث طويل لَم أستطِع فهم شيء منه. بعد ذلك، جاء رجُل قويّ البنية وأخَذَ "لولا" بعيدًا واختفيا سويًّا. بقيَ زوجي جالسًا لكن على وجهه علامات الحزن واليأس لرحيل تلك الصبيّة الجذّابة. وحين طلَبَ رفعَت مِن النادل الحساب وأوشكَ على الرحيل، خرجتُ بسرعة مِن الملهى، وركبتُ سيّارة الأجرة التي كانت بانتظاري.

في طريق العودة بقيتُ صامتة أُحلِّل ما رأيتُه وما عليّ فعله، حين قال لي السائق:

 

ـ إن لَم أكن مُخطئًا، أظنّ أنّكِ رأيتِ زوجكِ في الداخل.

 

ـ كيف علِمتَ ذلك؟!؟

 

ـ لماذا إذًا تأتي سيّدة مُحترمة مثلكِ إلى هكذا مكان وتخرج حزينة ومُربكة؟

 

ـ أنتَ على حقّ... تبيّنَ أنّ زوجي فقَدَ عقله تمامًا بسبب مُطرِبة رخيصة.

 

ـ تعنين "لولا"... إنّها معروفة بتدمير زيجات عديدة... إنّها بالفعل جميلة ومُثيرة وصبيّة... لو كنتُ مكانكِ لتداركتُ الأمر بسرعة قَبل أن يخسِر زوجكِ كل مالكما.

 

في اليوم التالي اتّصَلتُ بابني البِكر وأخبرتُه بما رأيتُه طالبةً منه النصيحة، فوعدَني بأنّه سيُكلّم أباه. لكنّ رفعَت لَم يُحبِّذ أبدًا أن يتدخّل ابنه بحياته الخاصّة، فوقَعَ شجار بينهما وفضَّلَ ابننا غسل يدَيه مِن الموضوع. عندها أنا كلّمتُ رفعَت وطلبتُ منه التوقّف عن الذي يفعله. وهذا ما قالَه لي:

 

ـ لقد أعطَيتُكِ ووَلدَينا أجمَل سنوات حياتي، وعمِلت مِن الصباح حتّى المساء لأؤمِّن لكم ما يلزمُكم. حان الوقت لأعيش حياتي.

 

ـ تلك المُطرِبة تستفيدُ منكِ يا رفعَت، هي لا تُحبّكَ.

 

ـ إنّها تُعطيني الفرَح والشعور بقوّة كبيرة. لا تخافي، أنا لا أُعاشرُها.

 

ـ لكنّكَ تُعطيها المال... مِن أين جئتَ به؟ فراتبُكَ التقاعديّ بالكاد يكفينا.

 

ـ لقد رهنتُ البيت.

 

ـ ماذا؟!؟ أيّها المجنون! كيف تُرهِنُ الشيء الوحيد الذي نملكه؟!؟ وكيف ستردّ المال لتفكّ الرهن؟!؟

 

ـ هذا بيتي وأنا حرّ به! لقد اشترَيتُه بِعرَق جبيني!

 

ـ بل هو بيتنا! إفعلَ ما تشاء مع تلك الفاسِقة لكن إيّاكَ أن تُزعزِعَ حياتي وتضعُها في خطر! أنا الأُخرى تعِبتُ مِن أجلكَ والأولاد، ولستَ الوحيد الذي ضحّى، فهذا هو مفهوم الزواج والإنجاب. ستتوقّف عن رؤية "لولا" على الفور وتجِد عمَلاً لإيفاء الدَين.

 

ـ وإلا؟

 

ـ وإلا تركتُكَ!

 

ـ مع ألف سلامة!

 

تركتُ البيت في اليوم التالي، راجية أن يعود رفعَت إلى صوابه بعد أن يرى كَم أنا جدّيّة. لكنّه زادَ تعلّقًا بِـ"لولا" بعد أن فُسِحَ له المجال لإطلاق العنان لافتتانه بها. سكَنتُ مع ابني الأصغَر فبيته أكبَر، وحاولَنا مع أخيه أن نجِد طريقة لإنقاذ رفعَت والبيت. إلا أنّنا فشَلنا فشَلاً ذريعًا، إذ أنّ "لولا" استحوذَت على زوجي مِن كلّ النواحي.

ثمّ علِمتُ أنّها أصبحَت عشيقته... إلى حين هو لَم يعُد قادرًا على الصرف عليها. لكنّ ذلك لَم يكن كافيًا ليفتَح عَينَيه على ما فعلَه بنفسه وبي، بل بدأ يعمَل كحارِس في مُجمّع تجاريّ خلال النهار ليذهب إلى الملاهي حيث تُغنّي "لولا"، فقط ليراها ويسرقُ منها ولو نظرة خاطِفة.

ساءَت حالة رفعَت الصحّيّة، وحاوَلَ ولدانا أخذه إلى طبيب أو إلى المشفى لكنّه رفَضَ، فكيف له أن يُفوّتَ فرصة رؤية "لولا"؟

عُثِرَ على رفعَت جثّة هامدة في إحدى أزقَّة الملهى بعد أن أصيبَ بأزمة قلبيّة حادّة. دفنّاه وصلَّينا لراحة روحه لكنّني لَم أبكِه، فكان حبّي له قد زالَ، وكذلك احترامي لزوج طردَني تقريبًا مِن منزل رهنَه مِن أجل صبيّة رخيصة. لو هو قبِلَ مُساعدتي ومُساعدة ولدَينا لعادَ الانسان الطيّب والعاقِل الذي عرَفناه. إلا أنّه فقَدَ صوابه وكلّ شيء آخَر... لماذا وكيف؟ لن نعرِفَ أبدًا الجواب.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button