مِن على سريري في دار العجزة حيث أقضي باقي حياتي، إليكم قصّة أمّ فعَلَت ما بوسعها لإبنها الوحيد، وكيف أنّ الطبيعة البشريّة والعِشرة السيّئة تَطغى على أفضل تربية. صحيح أنّ الأولاد يُخلَقون كالصّفحة البيضاء، ويكتبُ الأهل ما يشاؤون عليها، إلا أنّ هناك جينات سيّئة وشرّيرة يرثونَها مِن الذين سبقوهم، وتنمو في قلوبهم حتى تمحو أيّ مفهوم آخر. هكذا كان ابني سامي، إنسانًا معدومًا مِن أيّ قدرة على الحبّ.
وُلِدَ سامي وسط فرحة كبيرة، بعد أن قضيتُ سنينًا طويلة أحاولُ الإنجاب مِن زوجي الحبيب. فهو الآخر كان وحيدًا، وأرادَ عائلة كبيرة للتعويض عن شعوره بالوحدة طوال طفولته ومُراهقته. فقد كان زوجي يُردّدُ أنّ مئة صديق لا يوازون أخًا واحدًا. وكَم كان ذنبي كبيرًا حين اكتشَفَ الأطبّاء عندي مُشكلة تمنعُني مِن إعطاء زوجي ما لطالما تمنّاه. إلا أنّ الله استجابَ أخيرًا لدعواتي، ويا لَيته لَم يفعَل!
هل هناك مِن حكمة وراء قدوم سامي إلى الحياة؟ لَم أجِدها ولكن مَن أنا لأفهم أو أناقش دوافع الخالق؟
صحيح أنّ سامي لاقى دلالاً مِن قِبَلنا، لكن ليس أكثر مِن أيّ طفل آخر، لأنّنا لَم نرَه كإبن وحيد بل كنّا ننوي إنجاب المزيد. لكنّه بقيَ لوحده بعدما استحالَ عليّ جَلب أخوة له.
ماتَ زوجي المسكين بعد أربع سنوات مِن ولادة إبنه. وعندما نشفَت دموعي عليه، أدركتُ أنّ لا مصدر قوت لنا. لَم أحسب حساب هذا اليوم، بل كنتُ أتّكلُ على زوجي وراتبه. واحترتُ لأمري، فما عسايَ أفعَل لإطعام إبني ودَفع الإيجار وتسديد الفواتير؟ لَم أكن أملكُ أيّ شهادة أو مؤهّلات. ولولا جارتي، لا أعرفُ ما كان قد حصَلَ لنا. فهي قالَت لي في إحدى الأيّام:
ـ لِما لا تصنعين شراشف مِن الكروشيه وتبيعينَها؟ فأنتِ تبرعين بشغل السنّارة! فلطالما حسدتُكِ على هذا الكمّ مِن الخفّة والفنّ.
وهي كانت على حقّ، فمنذ صغري وأنا أصنعُ شراشف وفوطًا للطاولات مِن الكروشيه، إلا أنّني اعتربتُ الأمر هواية بحتة. وهكذا بدأتُ أجني المال الذي ساعدَنا على تفادي الجوع والفقر. لكنّ العمل للناس يختلفُ عن التسلية، فالزبائن كانت تنتظرُ موعد تسليم مُحدّد لا أستطيع التهاون به.
عمِلتُ بكدّ ليلاً نهارًا لأبعث بسامي إلى المدرسة. لكن منذ أيّامه الأولى في الدّراسة، بدَت على إبني علامات الأذيّة على رفاقه. فهو كان يأخذُ ما يشاءُ مِن شنطهم، وصارَ لاحقًا يُمارسُ التهويل على الضعفاء منهم. وصلَتني شكاوى عديدة مِن إدارة المدرسة، وحاولتُ إفهام سامي أنّ ما يفعلُه خطأ، إلا أنّه زادَ شرًّا وشراسة إلى أن طُرِدَ مِن المؤسّسة.
رحتُ أفتشُ لإبني على مدرسة أخرى، واضطرِرتُ أن أغيّر له أربع مدارس إلى أن نصحَني أحد المدراء بإحالة إبني إلى معهد تقنيّ لأنّ إبني، حسب قوله، لَم يكن يُحبُّ الناحية النظريّة للعلم بل يُفضّل الناحية التطبيقيّة. وطمأنَني الرّجل إلى أنّ إبني سيتغيّر حين يكبُر قليلًا، وأنّ هذه المرحلة هي عابرة ويمرُّ بها بعض الصبيان. لكنّ ذلك المدير لَم يكن يعي عمق اسوداد نفس سامي، ولا أنا.
أوّل صفعة تلقَّيتُها مِن سامي كانت حين طَلَبَ منّي بعض المال. وعندما أجبتُه أنّني لَم أقبض بعد ثمَن ذلك الشرشف الذي صنعتُه، رفعَ يدَه عليّ وصفَعَني. لَم أنتظر أبدًا أن يحصل ذلك. ولكثرة اندهاشي، لَم أفعل شيئًا حيال ذلك، وهو ظنّ أنّني خفتُ منه. وعندما حصلتُ على المال، أعطَيتُه ما يُريدُه ليس لأنّني أنفّذُ له رغباته، بل لأنّني لطالما شعرتُ أنّ إبني لا ولن يحصل على ما يُريدُه في هذه الحياة، على الأقل ليس مِن خلالي.
كان يجدرُ بي ردّ الصفعة له ومُعاقبته وتهديده، حتى يحاولُ التفكير بإعادة الكرّة.
ومنذ ذلك اليوم، أصبَحَ العنف طريقة إبني للحصول على ما يُريدُه منّي، بعدما كان قد جرَّبَ هذه الوسيلة مع رفاقه في المدرسة ورأى مدى نجاحها.
صارَت طلبات سامي تزيدُ مع الوقت، فراتبه الضئيل عند الميكانيكيّ الذي وظّفه خلال النهار، لَم يكن كافيًا لتغطية مصاريفه.
فإبني كان قد تعرَّفَ إلى شلّة مراهقين كانوا يقضون ليلهم في الشارع والحانات. لَم أكن على علم بذلك طبعًا، وخلتُه يعمل ساعات إضافيّة على أمل أن يُساعدني ويخفّف عنّي الحِمل الثقيل الذي بدأ يُؤثّر على نظري ويدَيَّ. إلا أنّ همّ سامي الأكبر كان صرف المال، والكثير منه، على ملذّاته.
تَرَكَ سامي المنزل عندما كان في السادسة عشرة مِن عمره، وظننتُه ميّتًا حين غابَ لأيّام مُتتالية. ركضتُ إلى قسم الشرطة وهم بحثوا عنه في كلّ مكان. إلا أنّ سامي ظهَرَ أخيرًا ليُطالبني بالمال، وبالقوّة، ليختفي مُجدّدًا. بكيتُ كثيرًا، ليس مِن الألم الذي خلّفَته ضرباته لي، بل مِن الخَيبة بعد أن انتظرتُ مِنه أن يحميني ويُريحني.
وصارَ سامي يأتي إلى البيت فقط لطلَب المال. وفي إحدى المرّات سَرَقَني عندما كنتُ عند زبونة لي. وعند عودتي، كان قد أخَذَ القطعتَين الوحيدتَين مِن الذهب اللتَين أملُكُهما واللتَين وضعتُهما جانبًا لبَيعهما حين أُجبَر على التوقّف عن العمل. وكان سامي يعرفُ ذلك، لكنّه لَم يتردّد عن تجريدي مِن كلّ شيء.
مضَت السنوات على هذا النحو، إلى حين عادَ إبني إلى البيت ليختبئ مِن الشرطة التي كانت تبحثُ عنه، بعد أن صارَ يسرقُ ليس فقط أمّه بل المارّة في الطريق والسيّارات. وقد حاولتُ إقناعه بأنّ حياته أخَذَت مُنعطفًا خطيرًا، وأنّه يجدرُ به التوقّف عمّا يفعله ويبحث عن مصدر قوت شريف، إلا أنّه ضحكَ عاليًا وقال:
ـ وأصبحُ مثلكِ؟ لا شكرًا!
ـ وما الخطب بي وبِعمَلي؟
ـ منذ أتذكّرُكِ وأنتِ تُحوكين وتُحوكين... أنظري إلى عَينَيكِ ويدَيكِ! هذا عمل البائسين! أريدُ المال السّريع والمُريح!
ـ أتقصدُ مال الحرام؟
ـ حرام أو حلال... لا فرق. النتيجة هي التي تهمّ. إسمعي، سيلحقُ بي بعض الأصدقاء ويمكثون هنا لفترة. أريدُ منكِ إطعامهم وتوفير لهم كلّ ما يطلبونه.
ـ وإن رفضتُ؟
ـ عندها سألقّنُكِ درسًا لن تنسيه! إفعلي ما أقولُه، يا امرأة!
ـ يا امرأة؟!؟ أنا أمّكَّ!
ـ أنتِ مصدر مال بالنسبة لي وليس أكثر.
ـ ماذا فعلتُ لكَ كي تصبح هكذا مجّردًا مِن أي عاطفة؟ أين أخطأتُ؟
ـ لقد أخطأتِ حين أنجَبتِني... إلى حياة الفقر هذه. هيّا، قومي بواجباتكِ!
جاء أصدقاؤه وخدمتُهم. كانوا سارقين أيضًا ويُشكّلون عصابة سويًّا.
وذات يوم، داهمَت الشرطة منزلنا وقبضَت على الجميع. ظنّ سامي أنّني وشيتُ بهم، ووعدَني بالإنتقام فور خروجه مِن السجن.
بكيتُ كثيرًا على إبني وعلى نفسي، وانتظرتُ موعد الزيارات في السجن لأراه إلا أنّه بقيَ يرفض مُقابلتي. وبعد ستّ سنوات، خرَجَ أخيرًا وحضّرتُ له مائدة شهيّة وزيّنتُ البيت بالورود. لكنّ إبني لَم يأتِ إلى البيت إلا لغرض واحد: الإنتقام منّي على شيء لَم أفعله. وبدأ يضربُني بوحشيّة لَم أتصوّرها مُمكنة حتى فقدتُ وعيي. وعندما استفقتُ في المشفى، كانت عظامي مكسورة، لا بل مطحونة، خاصّة عظام أصابعي وكأنّ سامي قد أصرّ على مَنعي مِن العمل. لماذا يفعلُ ذلك بي؟ ربمّا كانت رؤيتي وأنا أحوكُ الكروشيه تُذكرُّه بأنّه ليس سوى إبن امرأة فقيرة.
لَم يأتِ طبعًا لزيارتي، بل اختفى مِن جديد.
عندما حان الوقت لأترك المشفى، كنتُ قد أدركتُ أنّني لن أعود قادرة على العمل مِن جديد، أي أنّ مصيري كان الجوع ومِن ثمّ الموت. إلا أنّ ممرّضة لطيفة ومُحبّة أرشدَتني إلى دار للعجزة تهتمّ بمَن هم مثلي، أي نساء متروكات لا مصدر رزق لهنّ.
بكيتُ لأنّ في ما مضى كان لي بيت وكان لي زوج وإبن، ولَم يعُد لي شيء. لكنّني بقيتُ أدعو لسامي بأن يَعي ما يفعلُه ويعود إلى الصواب.
ربّما عودته إلى الطريق الصحيح لَم تكن لِتحصل، لِذا فضَّلَ الله أخذه ليرُيحُه ويُريح الناس منه. ففي أحد الأيّام، وصلَني خبر موت وحيدي على يَد الشرطة بعد أن بدأ يُطلق النار عليهم عندما وجدوا مخبأه والعصابة. وبالرّغم مِن حزني الذي لا يوصَف، جزء مِنّي وثِقَ بالعدالة الإلهيّة. فقد كان إبني مخلوقًا فاسدًا منذ صغره ولا شيء كان سيُصلحُه. ولو لَم أكن فقيرة، لعرضتُه على طبيب نفسيّ وكان قد ساعده على الشفاء... أو كان قد فشَلَ، فحتى اليوم أؤمِن بشيء لا يعرفُه سوى قلب الأم: كان سامي سيّئًا وشرّيرًا مِن ساعة ولادته.
حاورتها بولا جهشان