ولَدايَ

إن كنتُ قد وضعتُ حياتي جانبًا، فذلك لتصحيح أخطاء أخ غير مسؤول رمى ذريّته علينا مِن دون أن يشعر بأيّ وخزة ضمير. وكَوني أخاه الأكبر والوحيد، وجَدتُ أنّ مِن واجبي الأخلاقيّ تربية طفلَين لا ذنب لهما بقباحة أبيهما وأمّهما. هل أنا آسف على التضحيات الغالية التي قمتُ بها؟ بالطبع لا.

كلّ شيء بدأ عندما تزوّج أخي عامر مِن امرأة لم تحبّه كفاية للبقاء معه، بالرّغم مِن ظروفه الماديّة الرّديئة. فحين أنجبا وردة، كانت زوجته قد قرّرَت ترك المنزل للبحث عن رجل آخر، ولم تمانع أن تتنازل عن إبنتها مقابل حرّيتها. لماذا أصرَّ أخي على الإحتفاظ بوردة؟ فقط للإنتقام مِن أمّها التي، في آخر المطاف، لم تبالي. وهكذا وجَدَ نفسه مع طفلة عمرها شهر واحد لا يعرف كيف يعتني بها أو حتى يُحبّها. لِذا، قصَدَ أمّنا طالبًا النجدة لمدّة قصيرة، ريثما يُرتّب أموره. لكنّ عامر لم ينوِ يومًا استعادة ابنته، بل بدء حياة جديدة خالية مِن أيّ مسؤوليّة.

أحبَبنا وردة وقمنا بتربيتها أنا وأمّي وأختي التي كانت لا تزال عزباء آنذاك، وأعطَيناها الحنان والإهتمام اللذَين كانت بحاجة إليهما.

في تلك الأثناء، تابَعَ عامر حياته وكأنّه لم يتجوّز قط أو يُنجب يومًا، ولم يُفكّر بزيارة ابنته أو حتى المشاركة بمصاريف تربيتها. ومع الأيّام، بتُّ أنا بمثابة أبيها، وصارَت تلك الصغيرة تناديني "بابا" وتنادي جدّتها "ماما". حاولتُ التحدّث مع أخي حول الموضوع وإقناعه بأنّه يُخطئ بحقّ طفلة لم تطلب المجيء إلى الدنيا، إلا أنّه أجابَني ببرودة أفزعَتني جدًّا: "تلك البنت هي غلطة إرتكبتُها ولا أريد أن أتذكّرها، وإن كنتَ لا تريد الإعتناء بها، فأرسلها إلى المَيتَم. لا تزعجني مجدّدًا بهذا الموضوع."

نظرتُ إلى عامر باحثًا عن أيّ بصيص إنسانيّة في عَينَيه، لكنّني لم أجد سوى قساوة الحجر. فاستسلمتُ لِما اعتبرتُها قضيّة خاسرة وابتعدتُ عن أخ باتَ غريبًا بالنسبة لي.

إختفى عامر عن الأنظار لسنتَين، وحين ظهَرَ مجدّدًا كان برفقة امرأة عرّفَها علينا قائلاً: "زوجتي". بالكاد نظَرَ إلى ابنته التي لم تعرف أنّ الرجل الواقف أمامها هو أبوها. بكَت أمّي لأنّها علِمَت أنّ لا خَير سينتج عن زواج ابنها، وكانت على حق. فأحوال عامر الماديّة لم تتحسّن بل ساءَت أكثر، وما مِن امرأة سترضى بالعَيش في ظروف بهذه الصعوبة. وبعد أشهر، وُلِدَ مِن تلك الزيجة ابن أسماه كريم، وكان مصيره شبيهًا بمصير أخته، باستثناء أمر واحد وهو أنّ زوجة عامر لَم تتركه بل بقيَت معه، واكتفَت بالتخلّص مِن عبء وجَدَته ثقيلاً عليها وعلى زوجها. وهكذا أصبحنا نهتمّ بكريم كما فعلنا مع وردة، إلا أنّني نوَيتُ إجبار عامر على تحمّل مسؤوليّاته ولو مرّة واحدة. لكنّ أخي وزوجته تركا منزلهما والبلد بأسره واختفيا بين ليلة وضحاها.

 


كبرَت وردة وكريم وهما يعتقدان أنّ أباهما مسافر قصرًا لجلب القوت لهما، وظنّ الولَد أنّ أمّه اضطَّرت لمرافقته حتى تساعده، وظنّت البنت أنّ أمّها توفّيت. إضطرِرتُ لخلق هذه القصص لأجنّبهما صدمات نفسيّة قاسية، حتى لو كلّفَني ذلك عدَم البَوح لهما بأنّني الذي يُعيلهما منذ نعومة أظافرهما. توفّيَت والدتي، وتزوّجَت أختي وسكنَت بعيدًا وبقيتُ لوحدي أربّي مراهقَين. لم يكن يُزعجني الأمر بل صِرتُ والدهما وبدا لنا الوضع طبيعيًّا.

وفجأة ظهَرَ عامر. إتصَلَ بي وكلّمَني وكأنّه رآني قبل يوم واحد، ووجدتُ صعوبة بتقبّل هكذا وقاحة. سألتُه عبر الهاتف:

 

ـ ماذا تريد؟

 

ـ ما هذا الإستقبال البارد يا أخي؟

 

ـ وكيف يجدر بي أن أكلّمكَ بعد أن اختفَيتَ سنينًا طويلة؟ ظنَنتُكَ ميتًا.

 

ـ لا قدّرَ الله! على العكس تمامًا، فلقد تحسّنَت أحوالي بشكل جذريّ وصِرتُ أُعَدُّ مِن الأغنياء!

 

ـ مِن الأغنياء... ولِما لَم ترسل لنا البعض مِن مالكَ بدل أن تتركنا نتخبّط بالقلّة؟ لا أتكلّم عن نفسي بل عن وردة وكريم، فأعتبرُ ما أفعلُه مِن أجلهم جزءًا مِن واجبات عمّ تجاه أولاد أخيه.

 

ـ إبن أصل! هكذا عهدتُكَ!

 

ـ لَم تجِبني.

 

ـ للحقيقة لم أشأ العودة ولو رمزيًّا إلى ماضٍ أليم، فعلى الفقر أن يبقى ذكرى بعيدة.

 

ـ لم يكن الفقر بعيدًا عنّا.

 

ـ كفى نحيبًا يا أخي! سأغرقُكم بالمال، لا تخف.

 

ـ وهل ستأخذ ولدَيكَ ليعيشا أخيرًا معكَ؟

 

ـ سآتي لزيارتكم غدًا.

 

لم أكن أعلم كيف أهيّئ وردة وكريم لخبر لم يكن بالحسبان، خاصّة أنّ الأمر يتضمّن رحيلهما عنّي. كان قلبي ثقيلاً لدرجة لا توصَف، إلا أنّ سعادتهما كانت تأتي أوّلاً. لكنّني لم أكن مطمئنًّا لأخ عوّدَني على الخذلان، وخفتُ على "ولدَيَّ" مِن صدمة أخرى.

كانت ردّة فعلهما مزيجًا مِن الفرح والخوف، فالجدير بالذكر أنّ كلَيهما لا يعرفان أباهما. صلَّيتُ أن يبقى عامر على وعده بالمجيء، ووجدتُ أنّ الوقت يمرّ ببطء رهيب للغاية.

 


وصَلَ عامر محمّلاً بهدايا لا تناسب المراهقين بل الأطفال. هل كان يستوعب على الأقل أنّه غاب حوالي الخمس عشرة سنة؟ عانَقَ وردة وكريم بقوّة، أمّا هما فكانا واقفَين مسبوعَين. بعد قليل، تلطّفَت الأجواء، وبدأ أخي يقصّ علينا مغامراته بطريقة مشوّقة، الأمر الذي أراحَ الجميع. لم ينسَ أخي أن يقول لوردة أنّ أمّها تزوّجَت منذ وقت طويل، وصارَ لها عائلة خاصّة بها، ولكريم أنّ أمّه في مكان ما مِن العالم لا علم له به. عادَ الإحباط للولدَين وتدخَّلتُ لتغيير الموضوع. وقبل أن يُغادر أخي، كان قد أتّفَقَ مع وردة وكريم على أن يعيشوا كلّهم سويًّا، وطلَبَ منهما أن يُحضّرا أمتعتهما ليمرّ عليهما في اليوم التالي ويأخذهما إلى ما أسماه: "آفاق جديدة".

عندما أغلقتُ الباب وراء عامر، كان الحزن على رحيل وردة وكريم يملأ قلبي، إلا أنّني أدّعيتُ الفرح كي لا أؤثّر على قرارهما. جلسنا في الصالون وبكينا كثيرًا، ووعداني بأن يُراسلاني ويتّصلا بي باستمرار. وفي تلك الليلة، كلّ منّا أخَذَ يفكّر في سريره بمستقبله وكنتُ التعيس بينهما. فالجدير بالذكر أنّني، إلى جانب حبّي وتعلّقي بولدَي أخي، كنتُ قد أمضَيتُ سنوات أعمل بكدّ لأجني ما يلزم لتأمين القوت والعلم لهما واضعًا جانبًا حياتي الشخصيّة. مرَّت فتيات في حياتي أبعدتُهنّ عن قصد، فقد كنتُ متأكّدًا مِن أنّهنّ لن تستطعنَ أن تعاملنَ وردة وكريم كما يجب. لِذا شعرتُ أنّ برحيلهما عنّي، سأجد نفسي وحيدًا تمامًا في سنّ يحتاج المرء فيه إلى رفقة امرأة.

في الصّباح، قمتُ بصعوبة مِن السرير ودخلتُ المطبخ لأعدّ ككل يوم الفطار. إلا أنّني تفاجأتُ بوردة وكريم صاحيَين وجاهزَين وإلى جانبهما حقائبهما. إبتسَمتُ لهذا المشهد المؤثّر وتناولنا الفطار بصمت.

مرَّت الساعات ثقيلة وطويلة ولم يأتِ عامر. لم نبارح المطبخ حتى هطَلَ الليل ولم نتبادل الكلام كثيرًا. ومع مرور الوقت، بدأنا ندرك أنّ ما ننتظرُه لن يحصل. إقترحَت وردة أن نتصّل بأبيها فلا بدّ أن يكون قد حصَلَ له مكروه، لكنّ خطّه كان مُقفلاً. مِن ثمّ رجَّحَ كريم أنّ أبيه لم يكن يقصد هذا اليوم بالذات بل اليوم الذي يلي. وبعد أن تعِبَت أجسادنا مِن الجلوس وعقولنا مِن التحليل وقلوبنا مِن البكاء، طلبتُ مِن "ولدَيّ" العودة إلى غرفهتما وإفراغ حقائبهما والنوم بعد أخذ حمّام ساخن. وبقيتُ لوحدي أحاول فهم تصرّفات ذلك الأخ الذي حطّمَ قلب وحياة فلذتَي كبده.

عندما دخلتُ غرفتي وردة وكريم، وجدتُهما نائمَين ولكنّهما لم يلمسا حقائبهما، آملَين أن يأتي عامر وسط الليل. بكيتُ كثيرًا وخلدتُ بدوري إلى النوم.

منذ تلك الليلة، قرَّرنا ضمنًا أن ننسى عامر ووعوده الكاذبة ولم يعد يذكر أيّ منّا إسمه. تصرّفنا وكأنّه لم يتصل بنا أو يزرنا قط، فلقد كانت حياتنا أفضل بكثير مِن دونه.

وصَلَني مِن أخي بعض المال وضعتُه جانبًا لوقت الضيق، ومِن ثمّ انقطعَت أخباره نهائيًّا.

تزوّجَت وردة ومِن ثمّ كريم ورزقا بأولاد جميلين، وأعتبر نفسي أبًا وجدًّا سعيدًا بعد أن بعثَ الله لي جوهرتَين ثمينتَين لأربّيهما.

منذ فترة قصيرة، علِمتُ أنّ عامر مات ثريًّا وأنّ له أولادًا في أنحاء عديدة مِن العالم. وها أنا أحاول تحصيل لوردة وكريم ميراثهما. صحيح أنّ المال لن يُعوّض عليهما تخلّي أبيهما عنهما، لكنّه سيساعدهما على العيش بكرامة. فلا بدّ للحقّ أن يعود لأصحابه.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button