ولَد منبوذ

إهتمَّيتُ بحفيدي جاسِم مذ كان في العاشرة مِن عمره، بعد أن تطلَّقَ والدِاه وذهَبَ كلّ منهما مِن جهة لبناء عائلة جديدة. لِمتُ ابنتي كثيرًا على ترك ابنها، إلّا أنّها إنصاعَت لرغبة زوجها الجديد الذي رفَضَ قطعيًّا تربية ابن رجُل آخَر، بل أرادَ أولادًا منه فقط. لحسن حظّ الصغير، كنتُ آنذاك بكامِل قوايَ ولا أزال قادِرة على تربية ولَد، وإلا لستُ أدري ما كان سيحلُّ به. أعطَيتُه وزوجي كلّ الحنان اللازم، ثمّ رحَلَ رجُل حياتي إلى دنيا الحقّ، فوجدتُ نفسي لوحدي مع جاسِم الذي لَم يكن ولَدًا سهلاً، بل العكس. لكن كيف ألومُه حين أدركَ أنّه تُرِكَ مِن قِبَل مَن أعطاه الحياة لِيَتربّى مع جدّة سرعان ما صارَت بالكاد تستطيع التحرّك. فالحقيقة أنّني أصِبتُ بداء المفاصِل، ما أجبرَني على الحدّ مِن تحرّكاتي والتألّم بشكل شِبه دائم.

إتّضَحَ أنّ جاسِم لَم يكن فالِحًا في المدرسة، خاصّة بسبب سلوكه ورفاقه الذي اختارَهم على مثاله، فهو قرَّرَ حين بلَغَ سنّ الخامِسة عشرة أن يعمَل لدى صانِع مفروشات، مُقابِل بعض المال كان يصرفه على نفسه بدَلاً مِن مُساعدتي في مصروف البيت. فالجدير بالذكر أنّ ما كان يبعثه والِدُه لي تقلّصَ سنة بعد سنة ليصير المبلغ بالكاد يُغطّي ثمَن طعامه. أمّا ابنتي، مِن جانبها، فلَم تكن تُعطيني إلا مبالغ تافِهة عند الأعياد، وكنتُ أصرفُ مِن معاش المرحوم زوجي الضئيل. بكلمة واحدة، كنّا شبه فقراء.

حاوَلتُ كثيرًا حَثّ جاسِم لدخول مدرسة ما ونَيل شهادة لتحسين مُستقبله، لكنّه كان مُرتاحًا بالعمَل حيث هو، إذ أنّه كان يقومُ بجهد صغير خلال قسم أيضًا قصير مِن النهار، ويقضي باقي وقته في المقاهي يُعاكس الصبايا برفقة بعض الصّائعين. أسِفتُ عليه كثيرًا إذ أنّه كان في آخِر المطاف ضحيّة والِدَين أنانيَّين.

مرَّت السنوات وصارَ جاسِم شابًّا وسيمًا لكنّه بقيَ كسولاً وغير نافِع، بل زادَ عنادًا وتحدّيًا لي وكأنّني المسؤولة عن الذي حصَلَ في حياته.

وذات يوم اختفى جاسم، فكدتُ أجنّ بعد أن فتّشتُ عليه في كلّ مكان، لأننّي حسِبتُه ماتَ. بكيتُ كلّ دموعي إلى حين قيلَ لي إنّه مسجون بعد أن سرَقَ ورفاقه سيّارة وحاوَلوا بَيعها. ركضتُ إلى قسم الشرطة لأتأكّد مِن الخبَر، واتّضَحَ أنّه صحيح.

زرتُ حفيدي في السجن وهو بالكاد قبِلَ أن يراني، وأوّل شيء قالَه عندما رآني كان:

ـ ماذا تفعلين هنا؟

 

ـ جئتُ أطمئنّ عليكَ، يا صغيري.

 

ـ لَم أعُد صغيرًا!

 

ـ أعلَم ذلك، أعذرني، لكن في نظري أنتَ لا تزال حفيدي الصغير... حفيدي الوحيد. لماذا فعلتَ ذلك؟ لماذا سرقتَ تلك السيّارة؟

 

ـ هذا ليس مِن شأنكِ!

 

ـ بلى، لأنّني جدّتكَ ولأنّني أُحبُّكَ! قلتُ لكَ مرارًا أن تبتعِد عن هؤلاء الشبّان، فهم رفقة سوء!

 

ـ هم أصدقائي وأُحبّ رفقتهم، أم تريديني أن أبقى برفقة عجوز؟

 

ـ ليس ذنبي إن كنتُ عجوزًا الآن، فهذه سُنَّة الحياة... ستكبر يومًا وتصبَح بدوركَ عجوزًا، سترى. سأنتظرُكَ إلى حين تخرج وأساعدكَ على البدء مِن جديد... حياة نظيفة ومُستقيمة... فلقد وضعتُ جانيًا لكَ المال الذي حصلتُ عليه بعدما بعتُ الحُلى التي أهداها لي جدّكَ. لَم أتصوّر أن أبيعها يومًا لأنّها غالية على قلبي، لكنّكَ أغلى بكثير!

 

ـ كَم المبلغ؟

 

ـ إنّه كافٍ لتصنع شيئًا في حياتكَ. لن تحصل عليه إلا إذ تأكّدتُ مِن أنّكَ تبتَ وعدتَ إلى الطريق الصحيح وتخلَّيتَ عن رفاقكَ.

 

ـ كلّ شيء معكَ مشروط؟

 

ـ أُريدُ الأفضل لكَ... لَم يفُت الأوان، فلا تزال شابًّا. قُل لي... هل تُصلّي وأنتَ هنا؟

 

ـ أُصلّي؟!؟ هاهاها! أنتِ مُضحِكة!

 

ـ صَلِّ يا حبيبي، فهذا رجاؤكَ الوحيد.

 

بعد ذلك اللقاء، رفَضَ جاسم رؤيتي مِن جديد، لذلك انتظرتُ خروجه بفارغ الصبر. مدّة سجنه لَم تكن طويلة، إذ أنّه شارَكَ في السرقة لكن بدور ثانويّ، وكانت تلك جنحته الأولى. لكن بعد خروجه، لَم يأتِ إلى البيت مُباشرةً، بل بعد أسبوعَين قضاهما مع رفاقه، هم نفسهم الذين دفعوه إلى السرقة. أسِفتُ كثيرًا، إذ أن حفيدي لَم يتعلّم الدرس. لذلك، حين هو عادَ إلى البيت مُطالِبًا بثمَن الحُلى، رفضتُ إعطاءه له لأنّه لَم يستوفِ الشروط. نظَرَ حفيدي إليّ بمزيج مِن الحقد والاشمئزاز ثمّ رحَلَ.

بقيتُ لوحدي أبكي على مصيره الذي علِمتُ أنّه سيكون بائسًا، وعلى نفسي بعد أن قضَيتُ سنوات أُحاوِل أن أجعَل منه إنسانًا مُستقيمًا وسعيدًا. لكنّني لَم أتوقَّع ما كان سيحدث بعد أسبوعَين على التمام.

ففي تلك الليلة، إستَيقظتُ على صوت خطىً في البيت. كان الوقت مُتأخِّرًا جدًّا والظلام حالِكًا، إلّا أنّني استطعتُ أن أرى أشكال أشخاص يدخلون غرفتي. وقَبل أن أستوعِب ما يحصل، أمسكَنَي أحَدهم بشعري وشدَّني خارج سريري صارخًا:

ـ أين المال؟!؟ هيّا، تكلّمي!

 

ـ أيّ مال؟ أيّ مال؟

 

ـ المال الذي حصلتِ عليه مِن بيع حُلاكِ!

 

سكتُّ فجأة ولَم أعُد أرغَب بالمقاومة أو حتّى العَيش، فلَم يكن يعلَم أحَدٌ سوى جاسِم بمسألة الحُلى. أبعَدتُ يَد الفاعِل عن رأسي وقلتُ بهدوء: "سأقولُ لكم أين المال". باقي الأشخاص الذين ظلّوا صامتين راحوا يجلِبون المال مِن المطبخ حيث خبّأتُ المبلغ، ثمّ عادوا إلى غرفة النوم. أحَدهم قالَ عاليًا: "لقد وجدناه، هيّا بنا"، فتركَني الذي أخرجَني مِن الفراش. ولحظة كانوا على وشَك الخروج مِن الغرفة، قلتُ بهدوء: "جاسِم!"، فاستدارَ فجأة أحَدهم وتأكّدتُ مِن أنّ حفيدي هو برفقة السارقين. أجل، حفيدي الوحيد جاءَ ليُجرّدني مِمّا تبقّى لي بعد كلّ التضحيات التي قمتُ بها مِن أجله.

وقَفَ جاسِم لثوانٍ ثمّ رحَلَ مع الباقين.

كيف أشرَح لكم ما شعرتُ وأنا جالِسة على حافّة سريري في الظلمة، بعد أن استوعَبتُ تمامًا ما حدَث؟ كيف أعبُّر عن هذا الكمّ مِن الحزن والأسف والخذلان؟ كنتُ لوحدي ووحيدة، أناجي ربّي ليُساعدني على مُسامحة جاسِم، ومُساعدته على الخروج مِن الدوّامة التي هو عالِق فيها. فالحقيقة أنّني لَم أتمكّن مِن كرهه، فهو جزء منّي وقطعة مِن قلبي وكياني.

لَم أبلِّغ طبعًا عن السرقة، فلَم يكن بمقدوري سجن حفيدي مهما فعَل. ففي آخِر المطاف، كان جاسِم ضحيّة والدَين رمياه ليُكمِلا حياتهما مِن دونه. أعلمُ أنّ الأولاد الذين هم في مثل حالته لا يُصبحون كلّهم سارقين ومُجرمين، لكنّنا لا نتفاعَل مع الأحداث بالشكل نفسه، والبعض يكون هشًّا أكثر مِن الآخَر، ويستوعِب الأمور بطريقة مُختلِفة. فالأولاد يولَدون كالصفحة البيضاء، ونحن الكبار نكتبُ عليها ما ستؤول إليه حياتهم مِن مشاعر وأفكار وسلوكيّات. لو جاءَ جاسِم ليعيش معي حين ولِدَ، لاستطعتُ إنقاذه، أنا مُتأكّدة مِن ذلك.

مرَّت الأشهر إلى حين جاءَني اتّصال مِن جاسم ليقولَ لي إنّه عادَ إلى السجن. بقيتُ صامِتة لدقيقة، غير عالِمة ما عليّ قوله، حين أكمَلَ:

ـ أعلَم ما تفكّرين به... أنا إنسان فاشِل، أليس كذلك؟ حفيدكِ مُجرِم... حفيدكِ سرقَكِ... فليس هناك أقذَر مِن ذلك... قوليها... هيّا!

 

ـ لن أقولَ شيئًا سوى أنّ بإمكانكَ في أيّة لحظة تغيير مصيركَ، ووحدكَ قادِر على ذلك.

 

ـ لماذا لَم تُبلِّغي عنّي؟

 

ـ لأنّني أحبُّكَ.

 

ـ لا أحَد يُحبُّني! حتّى أنتِ! فلقد أشفَقتِ عليّ لذلك قبِلتِ بي، فأيّة جدّة ترمي حفيدها؟

 

ـ هذا ليس صحيحًا! لقد أحبَبتُكَ مذ قالَت لي أمّكَ إنّها حامِل بكَ، فانتظرتُكَ تسعة أشهر ولَم تسَعني الفرحة حين رأيتُكَ تولَد، فكنتُ موجودة في غرفة التوليد وحملتُكَ قَبل أن تحمِلكَ أمّكَ. ثمّ لاعبتُكَ وأنتَ طفل، وعلََّمتُ ابنتي كيف تهتمّ بكَ، فحضّرتُ الحليب والطعام لكَ. ويوم جئتَ لتعيش معي، كان أجمل يوم في حياتي!

 

ـ يعني... يعني أنّكِ بالفعل تُحبّيني؟!؟

 

ـ وسأظلّ أحبُّك حتّى أخِر أيّامي.

 

سمِعتُه يبكي بصمت وهو يُردِّد: "يعني أنّ أحَدًا بالفعل يُحِبُّني؟"، ثمّ قالَ لي بصوت قويّ مليء بالعزم والثقة: "إنتظريني حتّى أعود، يا جدّتي... لا تتخلّي عنّي!".

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button