ولا ينتصِر إلا الحب (الجزء الأول)

ربيتُ كاليتيمة، مع أنّ والدَيّ لَم يموتا بل ترَكاني الواحد تلوَ الآخَر لِعَيش حياتهما كما يحلو لهما. ترَكاني عند جدّتي وخالتي ويا لَيتني رحتُ دارًا للأيتام لَذِقتُ طعم الهناء. لكنّ الظروف شاءَت أن أقضيَ سنوات طويلة مع عجوز نصف خرِفة وخالة مُتزمِّتة ومُتنمِّرة. كنتُ في السابعة مِن عمري، أيّ فتاةً مليئة بالحيويّة والآمال بالرغم مِن هَجر أبوَيّ لي، فكنتُ سأرتاحُ أخيرًا مِن الشجار والصراخ اللذَين كانا يدوران بينهما ليلاً نهارًا. أعجبَتني فكرة العَيش في ذلك البيت القديم المُحاط بحديقة صغيرة تصوّرتُ نفسي ألعبُ فيها برفقة صديقاتي وزميلاتي في المدرسة. لكن ما كان ينتظرُني كان مُخالفًا تمامًا لتصوّراتي البريئة.

كانت رهَف، خالتي، لا تزال عزباء بالرغم مِن بلوغها سنّ الأربعين، وتكرهُ صنف الرجال برمّته مُبرّرة ذلك الحقد بأنّهم لا يُفكّرون سوى بشيء واحد، أيّ الرذيلة. وذلك الأمر بحدّ ذاته كان مرفوضًا لدَيها، وصبَّت كلّ اهتمامها على دراسة الدين وتطبيقه... بِحَزم. وحين قدِمتُ إليها، رأت فيّ تلميذة مثاليّة تُشغِلُ وقتها بي وتعلّمني كلّ ما تعرفه.

صارَت حياتي بمثابة حياة سجينة، إذ كان ممنوعًا عليّ الذهاب إلى أيّ مكان أو استقبال أيّ أحَد، وكانت المدرسة نافذتي الوحيدة إلى العالَم. إضافة إلى ذلك، غيّرَت خالتي طريقة ارتدائي الملابس، فلَم يعُد يظهرُ منّي إلا جزء مِن وجهي. وحتّى يدايَ كانتا مُغطتان بقفازَين صيفًا شتاءً. سخِرَ منّي رفاقي، الأمر الذي أحرجَني إلى أقصى درجة وولّدَ في قلبي كرهًا للمدرسة والدرس. وحين أخبرتُ رهَف ماذا يحصلُ لي، هي قالَت ممتنّة:

 

- حسنًا، لن تذهبي إلى ذلك المكان المليء بالإثم والرذيلة، سأُدرّسُكِ كلّ ما تحتاجين معرفته بنفسي.

 

قد يخالُ المرء أنّها علّمَتني اللغات والرياضيّات والتاريخ، إلا أنّها رمَت كتبي، وإضافة إلى الدروس في الدين، هي درّبَتني على الأعمال المنزليّة والطهو والأشغال اليدويّة، وبقيَت تُردِّد: "هذا كلّ ما عليكِ معرفته لتستحقّي العَيش هنا".

ماذا؟!؟ هل هي كانت تنوي تحويلي إلى عاملة تنظيف لدَيها؟

أمّا بالنسبة لجدّتي، فهي كانت حاضرة غائبة، بسبب كبر سنّها الذي أثَّرَ على قدرتها على التركيز والتحليل. كلّ ما كان يهمُّها هو أن تحصل على حاجاتها الشخصيّة، تاركةً زمام الأمور لِرهَف التي كانت بالفعل ربّة البيت. هل أحبَّتني العجوز؟ لستُ أدري، ففي معظم الأحيان هي كانت تنظرُ إليّ وكأنّني غريبة عنها، وحصَلَ مرارًا أن سألَتني مَن أكون.

ووسط هذا المناخ غير السليم، لَم تسأل أمّي عنّي ولا أبي، بل تابَع كلّ منهما حياته وكأنّني لَم أولَد قط. عائلة عظيمة بالفعل!

تابعَت خالتي "تدريبي" إلى حين صرتُ مُطيعة لها، وبعد أن استعملَت معي العقاب اللفظيّ والجسديّ. هي كانت تحمِلُ معها بصورة دائمة قضيب خيرزان طويلاً وقويًّا لتستعمله عليّ كلّما رأت أنّني "أنحرِفُ" عن المسار. بكيتُ بسبب التوبيخ والألَم، لكن ما مِن أحد كفكَفَ دموعي.

مرَّت سنتان ثمّ توفّيَت جدّتي خلال نومها، لكنّ والدتي لَم تتكبّد عناء حضور دفنها، ربّما كَي لا أراها وأُصّرُّ على الرحيل معها. وهكذا بقيتُ لوحدي مع "المُستبِدّة" كما أسمَيتُها، وهي استفحلَت في تربيتها لي.

ثمّ حدَثَ ما لَم أكن أحسب حسابه: جاءَت إلى المبنى المُقابِل عائلة مؤلّفة مِن أب وأمّ وصبيّ وفتاة. لَم أعرِف بالأمر إلا عندما رأيتُهم يتنقّلون مِن غرفة إلى أخرى أمامي، ورأيتُ الشبابيك مُضاءة. ورأيتُ أيضًا سامِر، صبيّ في الثالثة عشرة مِن عمره. كان يكبرُني بحوالي الثلاث سنوات إلا أنّه رأى فيّ شيئًا مُميّزًا بالرغم مِن لباسي الغريب. هو لَم يسخَر منّي كباقي أولاد سنّه حين رآني مِن شبّاكه، بل أومأ لي بِيَده وابتسَم قَبل أن يغيبَ عن نظري. كان سيُصبحُ سامِر الانسان الوحيد الذي أبدى لي نوعًا مِن الاهتمام والمحبّة... وأكثر.

 

أعربَت رهَف عن انزعاجها مِن هؤلاء الجيران الجدُد، خاصّة أنّ الأمّ والابنة كانتا ترتديان ملابس عاديّة، فوصفتهُما بالـ "فاسِقتَين" وبكلمات مُجرِّحة أخجَل مِن البوح بها. علِمتُ على الفور أنّه سيكون ممنوعًا عليّ مُخالطة جيراني، إلا أنّني أخفَيتُ عنها تعارفي عن بُعد على سامِر.

وصِرتُ أتصبَّح بسامِر وأتمسّى به وكان ذلك يكفيني، فمتطلبّاتي في ذلك السنّ وتلك الظروف كانت بسيطة، إذ كان ذلك كافيًا لأشعُرَ أنّني لَم أعُد وحيدة، تمامًا كالسجين الذي يستأنّس بالحمامة التي تحطُّ على قضبان حبسه المُظلِم.

مرَّت السنوات وصِرتُ مُراهقة لا أفُق لها... فعندما اختفى سامِر فجأة عادَت الظلمة إلى قلبي. لَم أعرِف ما حلّ به إلى حين التقَيتُ بأخته صدفة في الدكّان الموجود في الحَي، عندما مرضَت خالتي وبعثَتني لِجلب حاجيات البيت. فحتّى ذلك الحين كان لا يزال الخروج ممنوعًا عليّ. إقتربَت أخت سامِر منّي وهمسَت في أذني: "هذه الرسالة هي مِن أخي... إقرَئيها وأعطِني الجواب غدًا في الساعة نفسها هنا في الدكّان".

ركضتُ إلى البيت كالمجنونة، وبعد أن وضعتُ الحاجيات في الخزائن والثلاجة وخدمتُ المريضة وتأكّدتُ مِن أنّها نائمة، قصدتُ غرفتي وقرأتُ الرسالة وقلبي يدقُّ كالمجنون: "أنا لَم أترككِ بل ذهبتُ إلى الجامعة وأسكنُ عند عمّتي في المدينة المُجاوِرة. سأعودُ لبضع أيّام خلال الفرصة الشتويّة. هل تشعرين حيالي بما أشعرُ به حيالكِ؟ جوابكِ مهمّ بالنسبة لي. أنتظر ردّكِ، سامِر". سامِر... هذا إسمه إذًا! بكيتُ مِن كثرة فرَحي، فكان مِن الواضح أنّ ذلك الشاب يُحبُّني. لكن لماذا؟!؟ ماذا رأى بي أو منّي؟ فلَم نتبادَل كلمة واحدة وهو لَم يرَ كامل وجهي أو جسدي، بل فقط عَينَيّ وأحيانًا بسمتي وبصورة خاطفة!

كتبتُ بضع كلمات على ورقة صغيرة، وانتظرتُ بفارغ الصبر أن يحينَ الموعد للذهاب إلى الدكّان. مرَّت الساعات ببطء شديد حتى حسِبتُ أنّ الوقت قد توقّفَ. إلا أنّ الزمَن لا يتوقَّف أبدًا، واقتربَت ساعة الموعد فرُحتُ إلى غرفة خالتي وقلتُ لها إنّني نسيتُ أن أجلِب غرَضًا في اليوم السابق. هي وبخّتني ونعتَتني بالبلهاء ثمّ صرخَت بي:

 

- إذهبي وعودي بعد أقلّ مِن خمس دقائق، وإلا!

 

ركضتُ إلى الدكّان لأعطيَ أخت سامِر جوابي: "أنا بانتظارَك وأشاطرُكَ المشاعر نفسها. ليلى". عدتُ وبسمة عريضة على وجهي، لأنّني شعرتُ لأوّل مرّة بسعادة لَم أعرِفها مِن قَبل وقوّة لا مثيل لها. تحوّلتُ إلى صبيّة أخرى، فليس هناك مِن شعور أقوى مِن الحبّ!

تحسّنَت حالة رهَف ولَم أعُد قادرة على الخروج، بل اكتفَيتُ بتبادل السلام مع أخت سامِر مِن شبّاكَينا وكان ذلك كافيًا بالنسبة لي.

إنتظرتُ بفارغ الصبر قدوم فصل الشتاء، مع أنّني كنتُ أكرَه البرد والمطَر، وصِرتُ أعدُّ الأسابيع والأيّام. سامِر قادِم وتلك الفكرة كانت كافية لتحمّل جنون خالتي وتزمّتها.

إلا أنّ رهَف رأتني يومًا وأنا أبتسمُ لأخت سامِر، فجرَّتني مِن ذراعي خارج الغرفة ثمّ نقلَت أمتعتي إلى غرفة الطعام وصرخَت بي:

 

- أيّتها الفاسقة! أيّتها اللعينة! ستمكثين هنا مِن الآن وصاعدًا وإن رأيتُكَ على أيّ مِن الشبابيك بعد اليوم سأقتُلكِ مِن دون تردّد!

 

بكيتُ كثيرًا لأنّني لَم أعُد قادرة على رؤية أيّ أحَد مِن جانِب حبيبي، فغرفة الطعام لا شبابيك لها على الاطلاق. أقفلَت خالتي غرفتي بالمفتاح ووضعَته في سلسلة حول رقبتها، وانتهى أمري.

جاءَ موعد الفرصة الشتوية وكانت حالتي يُرثى لها. ليس فقط بسبب سامِر لكن أيضًا لأنّ خالتي أطلعَتني بأنّها وجَدت لي عريسًا. ماذا؟ أين ذهبَ كرهها للرجال ودروسها لي بأنّ لا منفعة منهم على الاطلاق؟ كان مِن الواضح أنّها تريدُ التخلّص منّي وبسرعة.

يا إلهي، لا تترُكني! فلَم يعُد لي سواكَ بعد أن تركَني الجميع!

 

يتبع...

المزيد
back to top button