وعودٌ كاذبة

ترَكتُ قريَتنا باكرًا لكثرة فقرنا وعدَم توفّر فُرَص العمَل، ولأنّ النتيجة الوحيدة لبقائي هناك كان الزواج. أتزوّج مِمَّن؟ مِن ذلك الأهبَل الذي يسخَر منه الجميع، فقط لأنّ أهله يملكون بعض رؤوس ماشية وقطعة أرض مزروعة بالخضار؟ لا، شكرًا! وهكذا إستفَدتُ مِن وجود أقرباء لنا في المدينة، وحزَمتُ حقيبتي الصغيرة وودّعتُ أهلي مِن دون دموع، فعلاقتي بهم كانت بمثابة معركة دائمة للبقاء. هم أيضًا لَم يُصدّقوا أنّ فَمًا غادرَهم مِمّا سيُتيحُ لهم أن يأكلوا ربّما شبَعهم.

وصلتُ المدينة، وهي مكان كبير ومُخيف لابنة قرية صغيرة، لكنّ قلبي كان مليئًا بالأمل والايجابيّة. رحتُ إلى بيت أنسبائي وهم فرِحوا بي... لوقت قصير. فهم أيضًا كانوا يحسبون كلّ قرش يصرفونَه على عائلتهم الكبيرة، ولهذا حثّوني على إيجاد عمَل وبسرعة. لكن ماذا سأفعلُ في حين لَم أدخُل المدرسة سوى في صِغري لأهتَمّ لاحقًا بالأعمال المنزليّة؟ ها هي! سأُنظّفُ المنازل، فأنا بارعة في ذلك! ومع أنّني لَم أكن سوى في السابعة عشرة مِن عمري، دخلتُ عالَم الكبار مِن دون أن أدري خطورته. فلَم يُخبِرني أحدٌ عن سواد الروح البشريّة بل أبقوني في الظلمة.

لَم أتأخَّر في ايجاد منزل يُريدُ خدماتي عن طريق مكتب توظيف قصدتُه وقريبتي، وتوجّهتُ إلى مُستخدميّ في الصباح الباكر. فتحَت لي سيّدة البيت وهي تتحضّرُ للذهاب إلى عمَلها. فأرَتني بسرعة المكان وشرحَت لي بكلمات خاطفة أين أجِد المُنظّفات ثمّ غادرَت. لَم أتوقّع هكذا استقبال لكنّ الأمر بدا لي لاحقًّا مُريحًا إذ أنّني كنتُ حرّة في تحرّكاتي. وعند عودة تلك السيّدة، كنتُ قد انهَيتُ مهمّتي ورأيتُ البسمة على وجهها. لَم يتسنَّ لي التعرّف إلى عائلتها لضيق الوقت.

بقيتُ أقصد ذلك البيت مرّتَين في الأسبوع، إلى حين طلَبت تلك السيّدة منّي يومًا أن أعتَني بابنها المريض ريثما تعودُ مِن عملها، وقالَت لي إنّ زوجها سيمرُّ خلال النهار للاطمئنان على ابنهما. وقرابة الظهر، بعدما قمتُ ببعض التنظيفات وجلستُ مع الصغير لأُلاعبه وأُراقب درجة حرارته، فتَحَ الزوج باب البيت وعرَّفَ عن نفسه. أطلعتُه على حالة ابنه وهو شكرَني على اهتمامي به، شارحًا أنّ نوع عمَله وعمَل زوجته لا يسمحُ لهما بالتغيّب.

ثمّ حضَّرَ القهوة ودعاني لشربها معه، الأمر الذي أحرجَني لكنّني في الآن نفسه سُرِرتُ لهذا الاهتمام مِن قِبَل ربّ عمَلي. سألَني عن نفسي فروَيتُ له سبب تركي للقرية وأهلي. سكَتَ زياد، وهذا إسمه، ثمّ قرَّرَ أنّه سيزيدُ راتبي فشكرتُه بحرارة. بعد ذلك، غادَرَ، وأنا إبتسَمتُ بينما بدأتُ بمُتابعة التنظيف. بعد أيّام قليلة، طلبَت منّي الزوجة إن كان بإمكاني العمَل لدَيها على مدار الساعة، أيّ أنّ أبيتَ عندهم لأهتمّ بالمنزل والولَد والطهو. أرَتني الغرفة التي ستكون لي، وأعجبَني المكان كثيرًا إضافة إلى الأجر الذي كنتُ سأتقاضاه. أسرعتُ بالقبول وودّعتُ أقربائي الذين لَم يُصرّوا على بقائي معهم.

في الفترة التي تلَت، شعرتُ وكأنّني جزء مِن تلك العائلة الصغيرة، فزياد وزوجته عامَلاني بلطف ورفق، وبدأتُ أتعلّق بالصبيّ الصغير. هل كانت حياتي ستُشبِه أخيرًا حياة باقي الناس؟ فأنا لَم أحظَ عند أهلي بأيّة راحة أو حنان، بل كان مطلوبًا منّي العمَل طوال النهار مُقابل طعام قليل وتوبيخات كثيرة. وتصوّرتُ نفسي وكأنّني ابنة صاحبَي البيت وأنّ ذلك الولَد اللطيف هو أخي الصغير. وضَعتُ المال الذي أتقاضاه كلّ شهر جانبًا لأشتري لنفسي لاحقًا كلّ ما تطلبُه نفسي. لكن في الوقت الحاضر، كنتُ أحصُلُ على الملبَس والمأكل مجّانًا. إتّضَحَ أنّ طهوي لذيذ، مما زادَ مِن حماسي واندفاعي، وبذلتُ جهدًا إضافيًّا لأثبتَ لزياد وزوجته أنّهما أحسنا الاختيار بإبقائي عندهم.

أعترفُ أنّني كنتُ أفضّلُ زياد على زوجته، فهو كان يُكلّمُني بطريقة مُختلفة ويصبُرُ عليّ أكثر، فوُلِدَت بيننا مودّة خاصّة وصِرتُ أُلبّي طلباته بسرعة وبإتقان. وكلّ مرّة كنتُ أتواجَد معه، كان زياد يسألُني عن أحوالي فأروي له كلّ تفاصيل حياتي. وذات يوم، هو فتَحَ لي قلبه وأطلعَني على حقيقة زواجه، وكيف أنّه ليس سعيدًا مع زوجته بالرغم مِن المظاهر:

 

ـ أنتِ لا تعرفينَها... فلا ترَينها سوى قليلاً في الصباح والمساء، لكن صدّقيني، هي إنسانة انانيّة ولا تُفكّرُ سوى بنفسها وعمَلها الذي يتصدّر المركز الأوّل في حياتها. مسكين ابننا... إنّه بحاجة إلى أمّ ترعاه وتُعطيه الحنان... يا لَيتني لَم أتزوّجها بل وجدتُ... إنسانة مثلكِ.

 

ـ مثلي يا سيّدي؟ فأنا فتاة أمّيّة آتية مِن عائلة مُتواضعة. لا مجال للمُقارنة بيني وبين السيّدة زوجتكَ!

 

ـ بلى، مثلكِ. الشهادات والنسَب لا يؤلّفان عائلة سعيدة، وليسا كافيَين لإسعاد زوج، صدّقيني. لا أدري إن كان يجدرُ بي قول ذلك... لكنّني بدأتُ... بدأتُ أكنُّ لكِ مشاعر قويّة.

 

هربتُ إلى غرفتي لكثرة شعوري بالحرَج لكنّني جلستُ على سريري فرِحة. فكانت تلك أوّل مرّة يُبدي رجلٌ اعجابًا بي على الاطلاق. فكنتُ حتى ذلك الحين أعتقدُ أنّني قبيحة أو غير مرئيّة. لكن سرعان ما امتلكَني الهمّ، فزياد كان مُتزوّجًا ولا مجال لعَيش أيّة قصّة حبّ معه. لِذا قرّرتُ عدَم مُجاراته بل القيام فقط بمهامي.

بعد ذلك فعلتُ جهدي لعدَم التواجُد مع زياد لوحدي على الاطلاق ونجحتُ في ذلك، لكنّ السيّدة سافرَت بداعي العمَل إلى أوروبا وبقيتُ معه والولَد لوحدنا. في البدء لزِمَ زياد حدوده معي، إلا أنّه أفصَحَ لي عن رغبته القويّة بي واعدًا أنّه سيفعلُ جهده للتخلّص مِن رباطه مع زوجته إن هو تأكّدَ أنّني بالفعل أحبّه، فالطلاق خطوة كبيرة ستُكلّفه الكثير. وطلَبَ منّي أن أثبتَ له مدى جدّيّتي عندما وافاني ذات مساء إلى غرفتي، ورسَمَ لي مُستقبلنا سويًّا مع ولَده الذي سيُصبحُ ابننا. وفي تلك الليلة فعلتُ ما لَم يجدرُ بي فعله، لأنّني بالفعل شعرتُ أنّني زوجته. عشنا أيّامًا جميلة تصرّفتُ خلالها وكأنّني ربّة البيت أهتمُّ بزوجي الحبيب وبابني العزيز... إلى حين عادَت السيّدة مِن السفر،، وأنا عدتُ العاملة البسيطة التي تقومُ بالأعمال البسيطة. إنتابَني غضبٌ كبير، فكان حلمي قد توقّفَ ورجائي الوحيد هو أن يترك زياد زوجته كما وعدَني. لكنّه بدا لي خائفًا مِن مواجهة زوجته، وبقيَ يزورُني في غرفتي لدى غيابها ويعِدُني بالمُباشرة بالطلاق.

مرَّت الأشهر والسنة مِن دون تقدّم، بل بقيتُ الفتاة التي يُعاشرُها عشيقها سرًّا وفي الظلام. بكيتُ ليالٍ طويلة لوحدي حين أدركتُ أنّني قد لا أعيشُ حبّي في العلَن، أو أصبَحَ الزوجة المُحترمة بل سأبقى عامِلة سهلة المنال. حبيبي كان يستغلُُّني ويعدُني بنهاية سعيدة ويُصوّرُ لي حياة هنيئة معه شرط أن أكون صبورة.

وذات يوم طلبَت منّي السيّدة أن أرحَل. هل علِمَت بعلاقتي بزوجها؟ لكنّها قالَت لي:

 

ـ أنا آسفة لكنّنا وجَدنا فتاة أخرى.

 

ـ ما الأمر؟ هل أنّ عمَلي لا يُرضيكِ؟ فأنا أفعلُ جهدي، صدّقيني سيّدتي!

 

ـ أعلمُ ذلك، أعلُم ذلك. إلا أنّ زوجي بدأ يتضايقُ منكِ ولا أستطيع إبقاءكِ إن هو لا يُريدُ ذلك.

 

ـ يتضايقُ منّي؟ ما الذي أفعلُه لِمُضايقتِه؟ لن أرحَلَ قبَل أن أسمَعَ ذلك مِن فمه!

 

وفي المساء، نادَتني السيّدة إلى الصالون حيث كان زياد موجودًا، وسمعتُه يقولُ لي:

 

- أُريدُكِ أن ترحلي. سأُعطيكِ شهرًا إضافيًّا إلى حين تجدين عمَلاً آخَر. لا تُناقشيني، أرجوكِ، فهذا هو قراري النهائي.

 

رحتُ أبكي وأنا أحزمُ حقيبتي، ورحلتُ في الصباح بعدما قضيتُ الليل أسألُ نفسي عن سبب ذلك القرار المُفاجئ. فكان مِن الواضح أنّ الزوجة ليست منزعِجة منّي بل هو فقط. هل أنّه خافَ أن يُفضَح أمره؟

عدتُ إلى أقاربي الذين رفضوا إستقبالي، ففتّشتُ عن غرفة أسكنُ فيها ودفعتُ إيجارها مِن المال الذي وضعتُه جانبًا. وبعد أن مرَرتُ بفترة استنكار شديد، غضبتُ مِن زياد لأقصى درجة فقرّرتُ الانتقام منه. لِذا إتّصلتُ بالزوجة:

 

ـ أتريدين معرفة نوعيّة علاقتي بزوجكِ؟ فهذا حتمًا سبب طرده لي!

 

ـ تكلّمي.

 

ـ نحن مُتحابّان، أجل. زوجكِ لا يُطيقُكِ على الاطلاق وهو أخبرَني عن طبيعة علاقتكما. يُريدُ تطليقكِ والزواج منّي لأُربّي ابنكما. أنتِ تقفين في درب سعادتنا، وهو فقَدَ الأمل في العَيش معي بصورة دائمة لِذا فضَّلَ ألا يراني على الاطلاق كَي لا يتعذّب.

 

ـ أهذا ما تعتقدين؟ كَم أنّكِ ساذجة! زياد يُحبّكِ؟ دعيني أضحَك! إنّكِ لستِ سوى تسلية بالنسبة له، طريقة سهلة لإشباع رغباته. هل تعتقدين أنّ امرأة مثلي بلغَت حدًّا عاليًا مِن الثقافة والعِلم لن تعرِف إن كان زوجها يُعاشرُ غيرها؟ لمعلوماتكِ يا حبيبتي، أنا التي اخترتُكِ له. فهو رجُل ذو رغبات كثيرة ودائمة، وطبيعة عمَلي لا تسمَحُ لي أن أكون مُتفرِّغة له على الدوام. فأنا أحتاجُ إلى النوم والراحة. هو بكلّ بساطة، ملَّ منكِ وطلَبَ منّي أن أجِدَ له فتاة أخرى. زوجي يُطلقّني مِن أجلكِ؟!؟ هاهاها! إنّه مُتيّم بي! إسمَعي، أنصحُكِ بحفظ هذا الدرس جيّدًا، فالحياة مدرسة تُعلّمُنا دروسًا قاسية. سيأتي يوم ولا تعودين فيه تُصدّقين كلامًا في الهواء وستُميّزين بين الناس. دفعتِ الثمَن غاليًا؟ زوجي لَم يُجبركِ على شيء بل أنّكِ قدّمتِ نفسكِ له مُقابل أحلام ورديّة لا أساس لها. أنتِ لستِ ضحيّة يا عزيزتي، بل كنتِ مُستعدّة لتخريب عائلة وإبعادي ورميي جانبًا وأخذ زوجي وابني منّي، فلا تذرفي الدموع على نفسكِ. أنتِ ماكِرة وغير بريئة على الاطلاق. دعيني الآن أُكمِلُ عمَلي، فلا وقت لدَي لأمثالكِ.

 

لَم تكن تلك المرأة على خطأ، لكنّني كنتُ يافعة وآتية مِن عائلة لَم تحضُنّي أو تُحضّرني لمواجهة الناس والحياة. لَم أبكِ، بل أخذتُ قرارًا بمواصلة حياتي ولكن بِمُقاربة مُختلفة. وجدتُ عمَلاً ثمّ آخَر. ومرَّت السنوات إلى حين صرتُ الآن مسؤولة في شركة تنظيفات كبيرة. لَم أُخبِر أحدًا قصّتي، لكنّني اليوم أُريدُ أن يتّعظ الناس منها، رجالا ونساءً وخاصّة المُراهقات. ولا أزالُ أنتظرُ إيجاد الحبّ الحقيقيّ، لكنّ الوقت يمرُّ بسرعة وقد يفوتني القطار!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button