ماتَت حبيبة قلبي وأمّ أولادي الستّة وأخذَت معها الفرحة والأمَل. لَم يتوقّع أحدٌ أبدًا أن ترحَل امرأة مثلها مِن دون عودة. فغادة كانت مليئة بالحيويّة والسعادة، ولَم تُبارِح البسمة وجهها حتّى وهي على سرير موتها في المشفى. وأنا لَم أستَوعِب كيف هي ماتَت وتركَتني لوحدي، فغضِبتُ إلى أقصى درجة وبدأتُ بالبكاء ليلاً نهارًا. أين أنتِ يا غادة؟!؟ ثمّ كرهتُها لأنّها رحلَت، مع أنّني كنتُ أعلَم أنّ لا دخلَ لها بموتها بل الفاعِل كان المرَض الذي حاربَته حتّى آخِر رمَق.
وفي فترة حدادي أخذَت أختي الأولاد إلى بيتها، حِمل ثقيل عليها لكنّها لَم تشتكِ، بل فهِمَت أنّني بحاجة إلى مُحاكاة نفسي والله. وبعد فترة، أعرَبتُ عن رغبتي باستعادة أولادي الستّة، لكنّ أختي نصحَتني بأن آخُذ قسمًا فقط منهم وتَرك الباقي معها. إلا أنّني رفضتُ بقوّة، فلَن أُبَعثِر أبنائي وبناتي شمالاً ويمينًا بل سيتربّون تحت سقف واحد. فصارَت أختي تأتي لمُساعدتي، خاصّة في ما يخصّ صغاري في السنّ.
بعد أشهر قليلة، بدأ الناس ينصحوني بالزواج ثانية. ماذا؟!؟ آتي بامرأة أخرى إلى بيت غادة وسرير غادة؟!؟ هل فقدوا عقلهم؟ آتي بزوجة أب لأولادي لتُحوّل حياتهم إلى جحيم يوميّ؟ فأيّ سيّدة ستُحبّ ستّة أولاد مِن امرأة سبقَتها؟ لا، لا، سأجدُ طريقة ما.
وهكذا بدأتُ التخطيط... نقَلتُ عمَلي إلى بيتي كَي لا أضطّر لترك الصغار بين أولادي ولأكون موجودًا حين يعودُ الأكبر مِن المدرسة. وتعلّمتُ الطهو في كتُب اشترَيتُها، وصرتُ أرتِّب المنزل وأنظّفه أفضل مِن أيّة سيّدة! كنتُ سعيدًا بالذي أفعله، فهكذا كنتُ أحافظُ على حياتنا العائليّة، وأخفِّف ولو بعض الشيء مِن وطأة غياب أمّ أولادي عليهم.
ثمّ نادَيتُ أولادي وقُمنا "باجتماع عائليّ"، وأوكلتُ الكبار ببعض المهام بالنسبة للصغار مِن ناحية التدريس وإعطاء الحمّام، وذلك مِن دون أن يتأثّر درسهم. ففي آخِر المطاف، لَم يكن يجدرُ بي إلقاء الحِمل عليهم، فما ذنبهم إن أتى ذلك السرطان اللعين وحرَمهم مِن أمّهم؟
وشعرتُ بالخزيّ بعد أن استوعَبتُ كَم كانت غادة تتعَب حين كانت تحملُ عبء البيت والأولاد. فآنذاك كنتُ أكتفي بالذهاب إلى عمَلي والعودة لإيجاد كلّ شيء نظيفًا وجاهزًا. سامحيني يا حبيبتي!
ثمّ بدأ الأقارب والمعارف يُصرّون لتعريفي على سيّدات، وذلك بالرغم مِن أنّني كنتُ واضحًا بالنسبة لهذا الموضوع. كنتُ أعلَم أنّ دوافعهم حميدة، لكنّ الأمر كان يُثير غضَبي في كلّ مرّة. لماذا لا يتركوني وشأني، فأنا وأولادي نتدبَّر أمرنا جيّدًا! أعلَمُ أنّ مُعظَم الرجال يتزوّجون بعد موت زوجاتهم بفترة ليست طويلة، لكنّهم لَم يذوقوا طعم السعادة مع غادتي! أنا لا أحكمُ على هؤلاء، بل حالتي هي استثنائيّة ولا أحَد يُجيدُ فهمي.
وهكذا إبتعدتُ شيئًا فشيئًا عن الناس والعائلة، وأحاطتُ أولادي الأحبّاء مُعطيًا إيّاهم كلّ حبّي وحناني واهتمامي. مرَّت السنوات مِن دون أحداث خطيرة، وإذ بأولادي يجتمعون يومًا في الصالون ويُنادوني "لاجتماع عائليّ" كَما إعتَدنا أن نفعَل كلّ ما ظهَرَ موضوع شائك. جلستُ وسطهم وقالَ لي ابني البِكر:
ـ بابا... لقد اتّفقنا أنّ عليكَ أن تتزوّج.
ـ إتّفقتم أنّ عليّ أن أتزوّج؟ ألا تحتاجون إلى موافقتي أو على الأقّل رأيي؟
ـ مرَّت سنوات عديدة على موت الماما، وها قد صِرنا كبارًا بعض الشيء ونستطيع أن نُدافِع عن أنفسنا لو أتَيتَ لنا بزوجة أب شرّيرة.
ـ هاهاها! لن يحصل ذلك أبدًا يا أحبّائي... لا شرّيرة ولا غير شرّيرة. لن يأخذ أحدٌ مكان أمّكم.
ـ بابا... أرجوكَ...
ـ إسمَعوا، أعدُكم بالتفكير بالموضوع بعد أن تتزوّجوا كلّكم.
ـ لكنّكَ ستكون عجوزًا!
ـ هاهاها! لا، بل كبير في السنّ فقط. ما رأيكم بهذا الاتّفاق؟
قبِلَ الأولاد على مضَض، فما عساهم يفعلون؟
ثمّ بدأ أولادي يتزوّجون الواحِد تلوَ الآخَر، على الأقلّ الكبار منهم، فعادوا وسألوني إن كنتُ سأُغيّر فكري، وجوابي كان لا. على كلّ الأحوال، ما لَم يكونوا يعرفونَه هو أنّني لَم أعتبِر نفسي أبدًا وحيدًا، فمنذ موت غادة وأنا أعيشُ معها في فكري، ويحصلُ أحيانًا أن أُكلِّمها عاليًا إن كنتُ لوحدي. كنت آخذُ برأيها مرارًا، وأخبرُها قصصًا مُثيرة عن العمَل والأولاد وخاصّة عن حبّي لها غير المُتناهي. فلماذا أتزوّج؟
تزوّجَ جميع أولادي أخيرًا، وفرِحتُ حقًّا لأنّ بالي اطمأنّ عليهم. فلا تنسوا أنّني لَم أعُد شابًّا والأعمار بِيَد الله، وفكرة موتي وهم لا يزالون في البيت كانت تُزعجُني، فلَم أشأ أن يمرّوا بالتجربة ذاتها حتّى ولو بعد سنوات.
هم لَم ينسوا وعَدي لهم بأن أجِدَ شريكةً لحياتي بعد تزويجهم جميعًا، لكنّني لَم أكن مُستعدًّا أبدًا للزواج ثانية. إلا أنّ الله يرسمُ لنا حياتنا كما هو يشاء وما مِن قدرة على مُقاومة مشيئته. فغريب كيف أنّ الخالق يُرتِّب الأحداث بدقّة لا مثيل لها ويُلبِسُها رداء الصّدَف!
فذات يوم، بينما كنتُ أقودُ سيّارتي بعد يوم مُمطرٍ، حصَلَ أن نزِلَت عجلَتي في حفرة، وبالتالي رشيّتُ سيّدة واقفة إلى جانب الطريق بماء موحِلة. توقّفتُ على الفور لأعتذِر، وإذ بها تصرخُ بي بأعلى صوتها:
ـ ما بكَ؟!؟ كيف تفعلُ ذلك بي؟ إتّسَخَت ملابسي الآن!
ـ أنا آسِف سيّدتي لَم أقصد... سأدفعُ فاتورة تنظيف ملابسكِ.
ـ وكأنّني بحاجة إلى مالِكَ! خُذني معكَ إلى بيت ابنتي فلا يسعُني المشي وأنا بهذا الشكل.
ـ أنا آسِف... لكنّني لا أصطحِب معي السيّدات، إنّها قصّة طويلة... بإمكاني إيقاف سيّارة أجرة لكِ.
ـ وكأنّني لا أستطيع فعل ذلك بنفسي! مهلاً... أعرفُكَ... أجل، أعرفُكَ... ياسر؟!؟
ـ أجل، كيف علِمتِ إسمي؟
ـ ياسر، هذه أنا، سميرة! كنّا زملاء في المدرسة! يا إلهي... أنتَ احتفظتَ بملامحكَ أمّا أنا...
ـ أجل، سميرة! كنّا نجلسُ بالقرب مِن بعض في الصف! ولقد تقاسَمتُ معكِ زوّادتي بضع مرّات!
ـ صحيح... كنّا نتبادَل السندويشات!
ـ إصعدي يا سميرة، أنا آسِف لأنّني لَم أشأ أن تركبي معي السيّارة، لكن بعد أن أشرحَ لكِ السبب سيزولُ غضبكِ.
أخذتُ سميرة إلى بيتها وانظرتُها في سيّارتي بينما بدّلَت ثيابها، ثمّ قصَدنا مقهى وهناك رويتُ لها ما حصَلَ لغادة وكيف أخذتُ قراري بالبقاء عازبًا. بكَت سميرة مِن كثرة تأثّرها، وأخبرَتني عن زوجها العنيف والمُتنمِّر والخائن وكيف أنّها تركَته وربَّت ابنتها الوحيدة. هي الأخرى لَم تتزوّج ثانية، أوّلاً لأنّها لَم تعُد تثقُ بالرجال، وثانيًا كي لا تجلِب إلى البيت رجُلاً قد يتحرّش بابنتها. كنّا نحن الإثنَين وحيدَين بعد أن ترَكَ أولادنا البيت، فعمَّ صمت طويل بيننا. ثمّ قالَت:
ـ ما رأيكَ لو نلتقي مِن وقت لآخَر؟ هذا هو رقم هاتفي... لا تُسيء فهمي، فلا أرمي إلى شيء. صحيح أنّني وحيدة لكنّني اعتَدتُ على وضعي وصرتُ مُرتاحة به.
ـ فكرة جيّدة إن كان ما يجمعُ بيننا فقط صداقة. إتّفقنا!
وهكذا صِرتُ ألتقي بسميرة مِن وقت لآخَر في مقهى أو مطعم، ونمضي وقتًا شيّقًا ومليئًا بالضحِك وتبادل الأفكار. يا إلهي... كنتُ قد نسيتُ كيف أضحَك! وكنّا أيضًا نتكلّم عبر الهاتف بين الحين والآخَر... وأحيانًا يوميًّا. كانت مُكالمات قصيرة أو بعض الرسائل الخطّيّة لمعرفة إن كان الآخَر بخير.
لاحظَ أولادي أنّني صِرتُ أكثر مرَحًا كلّما زاروني أو زرتُهم، فسألَوني عن السبب. قلتُ لهم بكلّ بساطة: "لدَيّ صديقة... صديقة فقط! إنّها زميلة قديمة مِن أيّام المدرسة، ليس أكثر". لكنّهم ابتسموا وأنا تلوّنَ وجهي باللون الأحمَر. لماذا خجِلتُ؟!؟ لَم أعرِف السبب إلا حين قالَت لي سميرة في إحدى الأيّام إنّها ستُسافِر بعيدًا مع ابنتها وعائلتها للعَيش في الغربة بصورة دائمة. عندها إنتابَني شعور غريب... كانت سميرة سترحَل هي الأخرى! صحيح أنّني لَم أستطِع التمسّك بزوجتي المرحومة لأنّها ماتَت ولا شيء يقوى على الموت، لكن بالنسبة لسميرة أستطيع إبقاءها معي. معي؟ هل يُعقَل أن... يا إلهي! هل أنا واقِع في الحبّ؟!؟ لا، لا... كيف لي أن أحبَّ غير زوجتي؟ كيف لي أن أنسى غادة؟ أنا حتمًا مُخطئ، فقد أكون أشعرُ تجاه سميرة بصداقة عميقة لا أكثر.
إقترَبَ موعد سفَر سميرة وصِرتُ كالتائه. هيّا يا ياسر، إفعَل شيئًا وإلا ضاعَت منكَ ثاني امرأة دخلَت حياتكَ! هذه قد تكون فرصتكَ الوحيدة والأخيرة للسعادة! لِذا إتّصَلتُ بسميرة قائلاً:
ـ لا ترحَلي!
ـ لماذا يا ياسر؟
ـ أنا بحاجة إليكِ.
ـ ستجِدُ صديقة غيري، هناك العديد.
ـ أنا لا أُريدُكِ صديقة فقط.
ـ ماذا تُريدُني إذًا؟
ـ تزوّجيني يا سميرة! تزوجيني! لن أستطيع العَيش مِن دونكِ بعد اليوم، فلقد أدخلَتِ الفرَح إلى قلبي وأعطَيتني سببًا لأستيقِظ بسعادة كلّ صباح. أظنُّ أنّني أستحِقّ الآن أن أعيشَ حياتي، بعد أن قدّمتُ تضحيات كبيرة طوال أعوام لا تُحصى. وأظنُّ أنّ غادة ستتفّهم الأمر وتقبَل أن أكون مع امرأة غيرها. تزوّجيني ولِنَبنِ معًا مُستقبلاً جميلاً بالرغم مِن قصره، فكلّ يوم يمرّ يُقرّبنا مِن النهاية. وبالرغم مِن سنّنا، نحن لا نزال شابَّين مِن الداخل، فالإنسان لا يشيخُ سوى مِن الخارج... معكِ أعودُ إلى صِبايَ وأضحَك مِن كلّ قلبي. تزوّجيني يا سميرة وأعِدُكِ بأن أُسعِدُكِ وأُنسيكِ زوجكِ وكلّ الذي مرَرتِ به. ما رأيكِ؟
قبِلَت سميرة أن تصبح زوجتي، ونحن نعيشُ اليوم حياة جميلة سويًّا. لا أزالُ أحبُّ غادة لكن بشكل ذكريات تمرّ في بالي مِن وقت لآخَر. فقَلب الانسان كبير كالبحر، وبإمكانه أن يُحبّ عدَدًا لا يُحصى مِن الناس، ولكن كلاً منهم بطريقة مُختلِفة.
حاورته بولا جهشان