وعدني هيثم بالزواج فقبلتُ أن ألحق به إلى قبرص. عشتُ معه هناك ريثما يحصل على الطلاق. كنتُ قد تركتُ كل شيء من أجله وقبل أن أرحل قال لي والديّ بغضب شديد :" إيّاكِ أن تفكرّي بالعودة الى هنا". للحقيقة لمم أتأثّر كثيراً لما قالاه لأنني كنتُ أكيدة أنّهما سيرضيان عني عندما أتزوّج. ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان : وصل هيثم الى الشقة ذات ليلة وأخبرني بكل برودة أنّه إلتقى بزوجته وتكلّما مطوّلاً سوياً وقررّا العدول عن الطلاق. إنهار عالمي فجأة وبدأتُ بالبكاء أسأله ماذا سيحصل بي الآن. قال لي :
- سأترك لكِ بعض المال وإيجار الشقة مدفوع مسبقاً لمدّة 6 أشهر. بعد تلك الفترة عليكِ تدبير أموركِ بنفسكِ.
رحل في الصباح ووجدتُ نفسي وحيدة في بلد لا أعرفه جيّداً مدركةً تماماً أنني لا استطيع العودة الى أهلي. وبعد أيّام قضيتُها أبكي حزناً على نفسي قررتُ أخيراً البحث عن عمل في مجال التسويق لأنه كان الشيء الوحيد الذي كانتُ أجيد فعله.
وبعد شهر من طرق أبواب الشركات وعندما كنتُ قد أنفقتُ المال الذي تركه لي هيثم لم أجد سوى عملاً في مطبخ مطعم كبير أغسلُ فيه الصحون. لم يكن هذا سهلاً عليّ فلم أكن معتادة على هذا النوع من الأشغال خاصة أنني لطالما كنتُ الطفلة المدللة لدى أهلي ولكن للضرورة أحكامها. المال التي بدأت أجنيه كان بالكاد يكفيني خاصة أنني كنتُ سأبدأ بدفع الإيجار قريباً. وحالتي النفسيّة كان يرثى لها فكنتُ محبطة كوني وحيدة في بلد غريب لا أصدقاء لي فيه ولا أقارب وكوني قد أحببتُ الشخص الغير مناسب.
وبعد شهرين فقط من بدء عملي إبتسم لي القدر : أصيبَت نادلة تعمل في المطعم بمرض أجبرها على ترك العمل نهائياً فإستغنمتُ الفرصة لأطلبَ من المدير أن آخذ مكانها. ضحِكَ عند سماع هذا وقال لي بسخرية :
- أنتِ؟ بالكاد تجيدين غسل الصحون، هذه النادلة كانت أفضل موظّفة عندي، كانت تجني من الطاولتين الموكلتين إليها أكثر من الطاولات كلّها.
- كم قدر المبلغ ؟
وأعطاني الرقم وكان ضخماً ورغم خوفي قلتُ له :
- أعطني فرصة واحدة. الليلة فقط وإذا لم أنجح سأعود الى الصحون.
- لا ... إذا فشلتِ تعودين الى البيت.
وقبلتُ معه فلا طالما كنتُ مغامرة. وجاء المساء وامتلأ المطعم بالزبائن. كان قلبي يدقّ بسرعة ولكنني إستطعتُ أن أحافظ على هدوئي وبدأت أخذ الطلبيّات وأنصح زبائن طاولتيّ بأخذ أفضل ما لدينا. وحين جاء وقت الإقفال طلبني المدير:
- أهنّئكِ ... لقد جنَيتي المبلغ المطلوب وتخطّيتيه حتى. ولكن أخشى أن تكوني قد أجبرتِ زبائنكِ على أخذ الاطباق المكلفة وهذا ليس جيّداً فبهذه الحالة لن يعودوا ثانية.
- لم أفعل هذا أبداً ، نصحتهم بما هو الأطيب ولا الأغلى.
- وكيف إستطعتِ تحصيل هذا المبلغ إذاً؟
- بالإكراميات سيّدي.
نظر الى الفاتورة بدهشة وإبتسم لي بسمة عريضة قائلاً:
- من الآن وصاعداً أنتِ رسميّاً نادلة الطاولتين 4 و 5.
- مهلاً ... لدي شرط ... أريد ان أعمل بعد سنة في النادي الليلي الذي تملكه الشركة... هذا إذا كنتَ موافقاً طبعاً.
أعجب المدير بطموحي فالكل كان يعلم أن هذا النادي هو الأقوى في البلد كلّه وأن من يعمل به يجني المال الوفير بسبب المشاهير والأغنياء الذين يرتادون اليه.
وعملتُ في المطعم بجهد ملحوظ حتى مرّت السنة وعندما طلبتُ نقلي قيل لي:
- ستبدئين هناك ليس كنادلة ولكن كمضيفة إستقبال، فالعمل في النادي يختلف عن عمل المطاعم وبعد فترة تجريبيّة ستنتقلين الى الطاولات.
وهكذا حصل. همّي كان أن تطىء قدمي أرض النادي، هذا المكان الذي كان بعيداً عن متناول الإنسان العادي فكان من الشبه مستحيل إيجاد طاولة شاغرة قبل أشهر إلا اذا كنتَ شخصاً مرموقاً إجتماعياً. ومن إحدى مهمّاتي إختيار من يدخل ومن يبقى خارجاً ينتظر.
وبعد فترة خطرت لي فكرة ذكيّة جداً: أثناء تواجدي هناك بدأت أراقب مَن مِن النادلات لديهنَ زبائن أكثر وتتحلَين بشعبيّة أكثر ومن من العاملين على البار لديهم المهارات التي تجذب الزبائن إليهم وعرضتُ عليهم العمل سويّاً لجني إكراميات أكبر. الخطّة كانت أن يعطوا لزبائنهم رقم هاتفي الجديد وحجز طاولة مباشرة معي دون المرور بقسم الحجوزات. وبدأ الزبائن بالإتصال ودفع إكراميّات كبيرة أتقاسمها مع زملائي. وإنتشر رقم هاتفي بين الناس وبدتُ أختار من منهم مفيد أكثر لي وللنادي. علم المدير بالأمر ولكنه لم يقل شيئاً طالما هذا كان جيّداً لمسار العمل.
وفي ذات نهار دقّ هاتفي وإذ بهيثم يتّصل لحجز طاولة في المساء. لم يتعرّف على صوتي ولم أقل له من أنا. تأهلتُ به رغم رغبتي بأن أقفل الخط بوجهه وإخترتُ له طاولة لشخصين. ولكن ما لم يعرفه هو أنني حجزتُ له الطاولة التي لا أحد يريدها لأنها صغيرة جدّاً وبمحاذات الحمّامات.
وفي المساء جاء هيثم برفقة إمرأة . عندما رآني على الإستقبال إصفرّ وجهه . إبتسمتُ له وقلتُ :
- السيّد هيثم م. وزوجته ؟
- لا ... إنها ... خطيبتي ... لقد حصلتُ على الطلاق من زوجتي وأنوي الزواج مجدّداً.
السافل ! أخذتُه إلى طاولته وأنا أرتجف غضباً. عندما رآها طلبَ منّي إعطاؤه أخرى. فقلتُ له بكل هدوء:
- سيّدي ... هنا يجلسون الكاذبون والمعدومي الأخلاق. أظنّ أن هذا المكان يناسبكَ تماماً.
جنّ جنونه وبدأ بالصراخ طالباً رؤية المسؤول . وعند وصول المدير أخبره هيثم بما قلتُ له فأجابه:
- سيّدي ... لا أستطيع فعل شيء فالآنسة تعرف كيف تحكم على الناس فإذا قالت هذا بحقّكَ فلا بدّ أنها على حق. سأطلبُ منكَ الخروج من النادي بكل هدوء وإلاّ سأضطر الى طلب الأمن. وعلى فكرة نملك سلسلة مطاعم ونوادي في كل الجزيرة، أنتَ منذ الآن ممنوع من دخولهم جميعاً.
خرج هيثم مع خطيبته مذلولاً. نظرتُ الى المدير وشكرتُه بحرارة. قال لي:
- لا بدّ أنّ هذا الرجل أساء إليكِ كثيراً فأنا أعلم كم أنتِ محترفة في عملكِ.
- أساء اليّ ولكن لو لم يفعل لما كنتُ إكتشفتُ من أنا فعلاً وما أستطيع فعله لكي أنجو في عالم لا يرحم. أحياناً نحن بحاجة الى المرور في الضباب لتنقشع رؤيتنا ونمشي على درب النجاح.
حاورتها بولا جهشان
